بدأ اللقاء ودياً للغاية بين الرجلين، وحميمياً جداً، فكلاهما مفكر وشاعر وكلاهما زاهد، ثم إنَّ كليهما معتزلان، المعري مرهون في محبسين عماه وبيته، والألماني معتكف في مغارة في أعلى جبل يحلم بالإنسان المثال المتفرّد والإرادة السامية القوية.
وأسهب نيتشة في شرح وجهات نظره الفلسفية وشرّق وغرّب حتى شعر المعرّي بالضجر فأكثر من التثاؤب والتمطي والتململ في جلسته.. كان يركز على أمور مقننة محددة يلف حولها ويدور ويختلق المناسبات ليعود إليها شارحاً ولكن بألفاظ مغايرة.
كان الرجل يمجد الأرض ولا من غرابة حيث يقول: إنه جاء منها ثم إليها سيعود. هذا الكلام موجود في قرآننا حيث جاء بصيغ شتى في عدة سور منها على سبيل المثال: ((هُوَ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن تُرَابٍ...)) (سورة غافر: الآية 67)، و((وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُم مِّن تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنتُم بَشَرٌ تَنتَشِرُونَ)) (سورة الروم: الآية 20).
وكذلك ورد مثل هذا الكلام في سورة الحج: الآية الخامسة: ((يَا أَيُّهَا الناسُ إِن كُنتُم فِي رَيبٍ مِّنَ البَعثِ فَإِنَّا خَلَقنَاكُم من تُرَابٍ ثُمَّ مِن نطفَةٍ...)).
ثم إنَّ كلام نيتشة معروف بين المسيحيين منذ زمن بعيد، فإنهم حين توديع موتاهم يتقدم حضور ساعة الدفن الواحد تلو الآخر، ويُلقي على تابوت الراحل المقفل وهو في حفرته حفنة من التراب قائلاً: الرماد للرماد والغبار للغبار.
نعمْ، إنه يمجد الأرض فضلاً عن مغالاته في تعظيم السخاء والفضيلة والتفرّد. كيف يعرف أو يمارس المتفردُ السخاءَ وعلى من يُسدي جميله وأفضاله إذا كان منعزلاً متوحداً معتكفاً في مغارة في ذروة جبل؟ على من يسخو وعلى من يتفضل؟ كان المعرّي يتابع أقوالي مرهف السمع غير مبال بموقف الفيلسوف.
فقلت له: يا شيخ وسيد معرّة النعمان، أعرف أنَّ لك مواقفَ ووجهاتِ نظر في بعض ما كتب هذا الخواجة حول الرسل والأديان والله... فهلا فتحت معه هذه المواضيع لنزداد فهماً ونتوسع فيما لدينا من معلومات؟
شعر الرجل بحرج غير قليل ولا من غرابة... فإنه هو الرجل الشديد الحذر والكثير التواضع والذي يكره الخصومات والمناكفات، ولا يميل إلى جرح مشاعرهم والنيل من كبريائهم الأدبي أو الاجتماعي.
ألححتُ عليه أن يتكلم؟ قال بصوت شديد الخفوت، موجهاً كلامه إلى الفيلسوف: قرأتُ عنك أنك تنفي وجود الله خالقنا، وقد طالما كررتَ في كتاب "هكذا تكلم زرادشت" جملة (مات الله)..!! لكنك كنت دوماً تحترم الأنبياء بل وتمجد بعضهم، فما سر هذا التناقض في موقفيك؟
رد َّالفيلسوف بهدوء ونبرة عميقة واثقة: وأنت يا معري، ماذا تقول في هذين الأمرين؟ أنا... أنا أقول بأنَّ الله موجود، ولكنْ لا من حاجة به للأنبياء..!! إنه كخالق يستطيع الاتصال بعباده مباشرةً دون الحاجة لوساطة رسل أو أولياء أو أنبياء أو مَلك يوحي. أي أنَّ البشرَ مخلوقات الرب مستغنون عن الأنبياء، فصلتهم بربهم قصيرة مستقيمة واضحة لا عوجَ فيها ولا إعضال. الله ما مات ولن يموت... لكنَّ الرسل مّن سيموتون تباعاً.
هزَّ نيتشة رأسه فسأل المعري: ومن أين عرفتَ بمواقفي من الله والأنبياء؟
:ـ عرفتُ مما أفادني به بعض الأصدقاء والعارفين بفلسفتك، أجاب المعري.. ثم أضاف:ـ كيف عرفتَ أنت بعض طقوس الإسلام ومفرداته تلك التي تخص صلاة المسلمين حيث كررت جملة ((حيَّ على الصلاة)) في معرض حديثك عن الصحراء ثم ولعك بنخلة الشرق وتموره؟
تبسّم الفيلسوف محافظاً على وقاره الطبيعي وهو يشرح ما غمض على المعري حيث قال: قرأت كافة الكتب التي تسمى مقدسة وغير المقدسة، غير أني لم أقل ((حيَّ على الصلاة)) كما تفضلتَ لكني قلتُ ((هلمّوا للصلاة)).
الجملة الأخيرة هذه موجهة لكل البشر ولكافة أصحاب الديانات. أما ((حيَّ على الصلاة)) فإنها نداء يحض المسلمين فقط على الصلاة وهو معروف وشائع في أوساطهم. إنه خطأ بل ذنب مَن قام بترجمة كتابي إلى اللغة العربية.
أراد أن يتملق المسلمين فاستعار جملة الأذان المعروفة وهي جزء من النداء العام (حيَّ على الصلاة/ حيَّ على الفلاح/ حيَّ على خير العمل). ارتاح المعري لهذا التفسير والتبرير فانبسطت أساريره وأراح ظهره المقوَّس طالباً جرعة ماء قراح. هل من كأس شاي مع الماء يا شيخ؟ قال: كلا، بل أفضِّل قليلاً من العسل مع الماء.
التفت الفيلسوف الألماني نحوي قائلاً: وأنتَ، هل لديك ملاحظات على ما كتبت في كتاب زرادشت؟ لديَّ الكثير يا ضيف، لكنَّ الظرف غير مناسب للخوض في هذه المسائل. قد نلتقي مرة أو مرات أُخرَ لنناقش الكثير مما في رأسي من مشكلات فلسفية وأخرى اجتماعية أو سياسية. نكتفي اليوم فالرجل الشيخ يشعر بالتعب ولا طاقة له على المزيد من النقاش. سنلتقي. قال وهو يمد يده مودعاً: لسوف نرى، سنجتمع ثلاثتنا ولسوف نرى..!!.
قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat