منذ مفتتح العنونة الذي يعدّ عنصرا من عناصر الهوية الثقافية والحضور الجميل، وجملة (ما يفسّره البياض) مع بقية العناوين الفرعية تجعلنا نتعرف على مستويات الدلالة لكل عنونة مثل: (سيدة البياض، ذاكرة الليل، كي لا أتمادى بالبوح، ثمة أشياء أخرى للعزلة)، والكثير من العناوين التي تحيلنا الى نصوص معززة بقوة التأويل، لغة الشاعر تأخذنا الى حقول دلالية تتمتع بمنحى جمالي:
«في محاولتها الأولى لتدوين البكاء، اتخذت من ضوء القمر متكأ، فارتعشت روحها بالبياض» ص5
يعتمد النصّ الشعري على ومضات جمل متنوعة، لكنها مترابطة تعمل على ضخ النصّ بالشعرية من خلال الإزاحات التي ترسم استقراءات تأويلية لتراكيب اسمية وفعلية وتشبيهات:
«عيون النخيل، وهي تختفي مثل نجمة يطاردها الفجر، لتشطب الجوع بمحراث مواسمها، وتصوغ لنا من سنابل شعرها تيجان الرغيف» ص6
نجد مفردة (تشطب) كانت سببا لوجود (تصوغ) ووجود الازاحات بهذا الزخم جعلت من نصوصه مرتقى فلسفيا يشذب لنا حدس الذهن الجمالي بالنظائر الموضوعية، بناء فلسفي يدوّن لنا عملية (الاختفاء ـــ المطاردة ــــ الشطب ــــ الحرث) لنصل الى مفهوم الشبع والعافية (تيجان الرغيف).
تعمل شعرية البناي على المرتكزات الشعورية بقوة الدفقة الشعورية القادرة على استيعاب الفيض الشعوري بمرونة وسلاسة بوصفه ملامح المعنى القصدي المضمر:
«تتهاوى النجوم من عينيها، وانا ممسك بأطراف نعاسها، مذهولا أنحني؛ كي لا تسقط فوق استقامتها السماء» ص8
تزدحم الجمل الشعرية التامة الدلالة وهي ترسم الصور الشعرية المؤثرة المتفاعلة مع المعنى الدلالي الموحي والبليغ، لتشكل الذات الهوية خلقا ابداعيا، رؤية وتعبيرا:
«وفي الحروب، تغزل جدائلها، أدعية وتعاويذ، وتقف مكسورة كقطرة ماء» ص9
وبناء النص الشعري على اساس تقنية التضاد يؤدي الى خلق مساحات تعبيرية تخلق المؤثر الدلالي:
«قدرنا أن نشتهي الحزن لنفرح» ص17
ماذا لو فكرنا في سمة هذا الحزن وماضيه، معناه ووجوده وبأي روح توصلنا الى الفرح، وهناك مساحة مبدعة لصياغة الاخبار، والخبر السردي عند الشاعر البناي يشكل رؤية السرد الاخباري بوصفه اسلوبا يعتمد على القص الشعري.
وفي قصيدة (شجرة التنين):
«والأطفال الذين اتخذوها مظلة، صاروا أطول منها، وتيبست الأحلام في سلالهم... وانفرطوا» ص16
وفن الاخبار الشعري من أكثر الفنون الادبية جمالا، حيث يخبرنا بسردية المشهد من خلاله سندرك جمالية الخبري:
«أشرت اليه، أن لا يبالغ في هندمة الأغصان، ولا يفضح أنوثة الوردة؛ لأن الحدائق بلا رفيق، ولا تأمن خذلان الفصول» ص18
لو تابعنا فاعلية الماضي، اشرت اليه بمعنى أن التنبيه تم لكن مجريات الخبر اثمرت نواهي مستقبلية (لا يبالغ ـــ لا يأمن)، وهو الاثر الشعوري الذي يتركه الخبر في وجدان المتلقي لمحة استرجاع صورة الماضي ترسخ افعال يستحضرها الموقف كفهم مستقبلي:
« قال لي...، وهو يخنق انكساره، احرث بظلك ما تساقط من عنق السواقي واحترف قطاف الضوء في المساء» ص19
رغبات الشاعر صاغها عبر أفعال الأمر (احرث ــــ احترف) ليرسم من خلالها روح الرغبة (حرث الظل ــــ احتراف قطاف الضوء)، الاهتمام باستنطاق اللغة يولد الدهشة وهو وعي الشاعر، خلق الذات عبر وجدانية المشهد الشعوري.
من نص بائع الحلوى:
«وحين أمدّ نظراتي، في علبة عنائه، أجدها فارغة، إلا من وجه الرب» ص22
تمتاز نصوص الشاعر سلام البناي بأنها تنتظم على شكل روجات ومض داخل القصيدة، وتعتمد تلك الومضات على الرؤية الفنية والانزياح العالي وتشير إلى اكثر من دلالة وأكثر من رمز، وتختزل الكثير من التعابير في أقلّ ما يمكن من المفردات، إيقاع متدفق من داخل هذا الومض الشعري القادر على توحيد أداة البناء، أي المحافظة على وحدة الموضوع ولكل ومضة شعرية بنية نصية متكاملة وجميع الومضات تصب في رافد واحد تجذب المتلقي الى تأملاته:
«عندما الحرب تشيخ، ويعود الموت منتصرا، لذلك لست أذكر آخر الكلمات» ص25
ومن حسنات الجملة الشعرية في هذه المجموعة الشعرية هو اعتناؤها بالمنولوج الداخلي، لتوسيع البؤر الدلالية الاشارية، توظيف الرؤية، بالتصور الذهني وصولا الى الفكرة النصية، من قصيدة (لا تعنيني كل هذه الاشياء)، تكون الذات فاعلة غير منفعلة تضيء حالات التفاعل مع الصفات الدلالية، وتمنح المعنى أثر التعريف المدرك الدلالة:
«أنا فعلا قليل الكلام، لا أكتب عن ساقية تهب البهجة من تلقاء بصيرتها، ولا أهمس نيابة عن حقل الورد، ليس من طبعي، أن أخدش كرامة الدمعة، لو تدلت بالحياء» ص34
ويستمر بأحداث الانزياحات الدلالية المعبرة عن مكنونه الداخلي الذي هو انعكاس من سمات الذات، اشكال وامضة تحشد نفسها لقصيدة المعنى:
«لا أضحك بلا اشتهاء، أو أدعي، أني أذوب في الماء، هذا شغل السكر».
والسعي الدائم لتحقيق البعد الجمالي وتقديم الذات عبر الحكمة فيتنامى النص على تلك الانزياحات التي توازن حالاته بتفاصيل الأمل، وتشكل جذبا ادراكيا لمعنى وجوده، اضاءات تعريفية بواسطة الومض الذي يضيء النص من كل جوانبه، ففي (كي لا اتمادى بالبوح):
«اعتراف متأخر، فأنا لست قمرا ليصغي المساء لرغباتي» ص28
«انا شاهد أتفنّن في جبر انكسار الانهار، اخالف أحيانا مكر الريح وسكونها، لكي تطير مني حمامة، ترشق الأرض بوابل من الامنيات» ص28
حراك الداخل ينقيه الوعي الذي يتحكم بمسارات الومض لتأكيد الأمل وفيض الامنيات يكررها بحكمة المضمون:
فلاشيء اضعف من نفس، لا تحتفظ بقدر شحيح من التمني» ص29
الوعي الشعري وعي خلاق يصوغ العالم الخارجي وفق فهم عال لمكنون الاشياء، ففي قصيدة (في مواسم اخضرارها نتأمل حنين الماء) عنوان دلالي وحمولة المدينة، التأريخ، الاشارة الى حالة التعانق الروحي بما يسميه (ضراوة الجمال):
«وفي ربيع بساتينها تشتد ضراوة الجمال وتستفيق ما أخفته الانهار من دموعها» ص39
وهو يصف ومضات تعانق البؤر الرمزية الصورية لتوصيف الحالة، لغة الومضة تحمل هوية شاعرها بلغة حسية ودلالات مرنة تحمل فكر الشاعر وفكرته ورؤاه، ليصل الى البعد الخبري المعبر عن الذات دون أن تشوب شاعريته هذيانات شاذة، انه منتظم ودقيق بما يعبر في منولوجاته الداخلية، يقول:
«هذه المدينة منسوخة من فجر، تنفست الحياة، رحيق ضيائه، فانبلج الدمع المضيء واحدا من مواسم شروقها» ص41
الشاعر البناي لا يريد للغته التخفي خلف هذيانات موهومة بل يريدها صوتا يدوّي ليؤثر في متلقيه بما يملك من جماليات الدلالات، والومضات الشعرية التي هي جسر المضمون الى متلقيه بما يحتوي من قوة التعبير النفسي والشعري يكشف لنا عن أمانيه وبشرنا بانتظار الموعود بطريقته:
وما زلنا ننتظر، هدهدا آخر، يكشف اقاصي خوفنا، ويعيد للحروف نشوتها، وللصباحات انفاسها، ويغرس الورد على خدّ المدينة» ص47
محاولة لقراءة البياض الناصع في بياض شاعر.
قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat