ما زلنا نعتب على الزمن ، وننعته بالزمن العاق ، الزمن الاغبر ، الزمن الذي لم يكن بارا وحاضنا لمن كان وفيا ومنتجا وسندا له ! هكذا نحن نصب كالعادة جام غضبنا عليه ، لاسيما وندرك جيدا ان القائمين والمتصدين لفضاءاته هم من الاميين الذين قذفتهم المصادفات في السوح والمضامير الخصبة ، فلم يميزوا بين المرج والصحارى ، ولم يفرقوا بين بهاء الجمال ودمامة القبح ، وهو امر يكاد يستقر ضمن ابسط ابجديات الحياة ، اذا ما سلمنا ان العاقل هو خير من يعرف الغث من السمين .
لو قدر لك ان تزور مشغله ، والثمانين قد اخذت منه مأخذا ، وهو يرتدي بزة عمله ، ويهم بمنجزه النحتي ينهي عملا في الزاوية اليمنى من المشغل ، ولوحة في الزاوية اليسرى ، وجداريه هنا ، ونموذجا لمدخل بوابة هناك .. وهو يضع البصرة عنوانا لكل اعماله ومنحوتاته ، البصرة بكل مفرداتها : النخل الشط الهور الشناشيل مشاعل النفط الجوامع والمراقد والمآثر والمعالم ... كل مثابة مشرقة تفصح عن تاريخها وادوارها وحضارتها ... هكذا هو منهوك العمل ، ينقش الجمال على الطين ، ويفخر اسماء الله الحسنى على الحجر الملون ، ويخط الآية القرآنية على كلس ، ويطبع اسم الجلالة على زاوية ملونة هناك ، ويدوزن بريشته المرتجفة ملحمة مرسومة ، ويخط ويطبع ويكتب ... كتلة مشتعلة من الهمة المتجددة التي تجد انها اخذت من صحته ، ومن دمه الذي ينزفه ويبدله كل مرة ! وهو يبتسم ويحمد الله اولا وآخرا .. نعم ذلك هو الخزاف الكبير والفنان المبدع القدير والعامل المنتج بلا كلل او تذمر الاستاذ ماجد عباس حسين .
المشغل لذي يقابل داره العامرة ينتصب لاستقبال الزائرين الذين تقمصوا ادوار المسؤولين ودعاة الامر ، فهم يمرون على هذا المكان الجمالي المتفرد باللوحة والخط والايقونة ، ويحسبونه مخزنا او حديقة مهجورة ، باستثناء بعض الفنانين اصدقاء الفنان الذين يعدون على اصابع اليد الواحدة ، وبعض ادباء وفنانين وكتاب ، وصديق مثقف له يساويه في العمر يدعى الاستاذ مهدي الباني ، وهو قارئ جيد ويمتلك ثقافة ناضجة ، ووعيا ثاقبا ، ولا يمر بهذا المكان سوى العصافير وحمام الدوح ومن ذكرنا ! والغريب في الامر ان هذا المكان لا ينفك يوميا من انتاج عمل مبدع ، او مشروع واعد يخدم المدينة التي تضج بأمثال صاحب المشغل .
يقابلك ماجد حسن الانسان بابتسامته وانت تزور مشغله ، ليقدم لك ضيافته ، وبعض اكلات صنغتها ايدي الحجية رفيقة عمره ، وهي لتي تطل بين الفينة والاخرى لتراه منهمكا بأعماله ومفخوراته ومنحوتاته ، لتحمد الله على سلامته وتذكره بالدواء الذي طالما ينسى تداوله . في عيون ماجد حسن تكتشف الحزن الغريب على الرغم من ابتسامته الودودة ، وتجد الدمعة التي تنتظر لحظة نزولها ، والبكاء المتواري خلف عالم كبير مختبئا ينتظر امرا ماثلا خلف تلك اللوحة او ذاك العمل ! فالحزن الحقيقي بائن على محياه ، والبكاء المخبوء تسمعه في اروقة ذلك المشغل الذي يضج بالحياة ، نعم ، ستفاجأ باسم يكرره وينقشه هنا وهناك ، ذاك هو اسم ولده الدكتور (حسين) الذي فقده وراح يجدد حزنه السرمدي عليه .
قلت له يوما : هذه الاعمال والمشاريع الفنية واللوحات لمن ؟ ابتسم وقال انها للبصرة ، لمن يحترمها ويقيمها ويعتز بعملها . قلت ولكن ليس من زائر او عارف بهذا الامر ؟ رد : انا وضعت الامر في ساحتهم ، قلت ونوهت وافشيت كل اسراري الفنية في دوائرهم وسوحهم لأتم رسالتي وافي بأمانتي على اكمل وجه ، واكون مسؤولا امام خالقي . قلت : ولكنهم صم بكم لا ... . لا اخفيكم وليس من باب الدعاية والتبشير انني اتصلت بصديق لي قريب من السيد المحافظ واحطته بالأمر كله ، ووعدني ان الامر سيعرض على الدكتور ضرغام الاجودي الذي يفتح صدرا رحبا لهذه الحالات لا سيما وهي تصب في مصلحة محافظة البصرة ، وسيعرض الدكتور الاجودي حتما الامر على السيد المحافظ .. كما انني عرضت الامر على الشيخ ياسين يوسف أحد المشرف على مركز تراث البصرة التابع الى قسم شؤون المعارف الإسلاميّة والإنسانيّة في العتبة العبّاسيّة المقدّسة ، والذي يعتبر احد اهم المعالم التي تعنى بتراث البصرة وتاريخها ورموزها من السالفين والحاضرين ، ورحب بفكرة اقامة نصب جمالي لواجهة المركز بعد استحصال الموافقات الاصولية .
اقول : ايها المبدع الكبير لا تثريب عليك وانت تحقق رسالتك الثرة وتوكدها من خلال عملك الدؤوب ، وتترجمها على اكمل وجه صادق ، بعيدا عن الاستعراضية والرياء ، قريبا من الرسالية والمهنية ..ويد الله مع العاملين .
قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat