قلنا في المرة السابقة :إن قلب مديرة المدرسة القاسي ربما رق للمعاني العظيمة التي انطلقت من جسدي الصغير المرتجف في تلك اللحظات حينما اجبتها بالقول والدموع تسيل بغزارة من عينَيَّ " أنه صديقي وأخاف عليه من العقاب" ، ولا أظنها أشفقت لحالي قبل أن تطلب مني العودة الى الصف .
في عصر ذلك اليوم تحديدا كنت أقف الى جنبه قرب باب منزله ، سألته عن نهاية الموقف المرعب ، لكنه كعادته لم يبح بالحقيقة .
آثرتُ الإستمرار على مبدأ (أدوارد غاليانو) الذي لم أسمعه في تلك المرحلة من حياتي بكل تأكيد : " الصديق الحقيقي هو صديق الفصول الأربعة ، أمّا الآخرون فهم أصدقاء صيف لا أكثر" .
هكذا وقعت بالخديعة للمرة الثانية ، وقضيت برفقته أكثر من سبع سنوات أخرى ، لا أنكر أنني كنت أكثر يقظة بعد ذلك الموقف ، وتعدد أصدقائي وزملائي ، لكن حلم الصديق الأول ظل ملازما لي .
في آخر مرحلة من مراحل الإعدادية المؤهلة للدراسة الجامعية ، وفي الأيام العشرة الأواخر من العطلة التي تسبق الإمتحانات الوزارية ، كنت حريصا على أن أشرح له كل ماأعرفه في دورس اللغتين العربية والإنجليزية والكيمياء وحتى مادة الأحياء التي تحتاج الى حفظ لا شرح ، وماكان ينقصني حقا معلومات يُتقنها هو عن الفيزياء والرياضيات ، ظل يماطل معي حتى إنتهت العطلة ، وشرعنا في الإمتحانات ، وعندما حان موعد التحضير للرياضيات تمارض وأمتنع عن لقائي ، وكذلك فعل في موعد التحضير لأمتحان الفيزياء .
حصلنا على درجات متقاربة وعالية في الدروس الأربعة الأولى ، لكنه تفوق عليَّ في المادتين اللتين كان يتقنهما وحرص على أن لا يشاطرني معلوماته عنهما ، بخلاف مافعلته معه .
في يوم أعلان النتائج شعرت بالخذلان للمرة الثانية ، بل إنني شعرت بالخيانة ، لأن صديقي المراوغ إستغل نقاط ضعفي وقوتي ليحقق إنتصاره المزعوم ، وكأنه كان ينافسني لوحدي ،وسط عشرات الآلاف من الطلبة الذين أدّوا الإمتحانات الوزارية في ذلك العام ، صدقا أقول :إنه لم يفضح أسراري البريئة يوما،لكنه كان بشكل أو بآخر يَتحيّن الفرص ليضرني ،وينجي نفسه من المواقف العصيبة .
أنه فخ مؤلم ياشهرزاد يترك أعظم الأثر في النفوس الرقيقة التي مازالت في بداية الطريق ، وقلّما ينجو المراهقون والشباب منه ، وأجد الحل الأمثل لتقليل أثر الصدمة ،وربما تجنبها ، في هذه المراحل الحرجة من حياة الفرد ،التي تفتقر عادة الى استشعار المعرفة الغيبية المسبقة ،أو تحقيق انسجام نفسي ملموس ، أجد الحل في إختبار صغير بإيداع سر مصطنع في صدر الصديق المفترض شريطة أن يكون له أثر أيجابي عليه في حال قرر الأفشاء به ، كان يبلغه المتطلع الى صداقته بأن المدرس قد أنقص درجته في الأمتحان الإسبوعي بتهمة نقل إجابة أحد الأسئلة من زميل آخر كان بسببه هو ، لأنه نقل الأجابة الصحيحة منه ، فتوهم المدرس بتصور عكسي ، فإذا أفشى السر وانتصر لذاته كان بعيدا كل البعد عن معنى الصديق الصدوق ، لأن تلك الصفة لا تتحقق مع أرتفاع صوت (الأنا ) على حساب الطرف الآخر .
قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat