حكايتي وشيء من الذكريات مع الفنان الراحل (كاظم حيدر) رائد السينوغرافيا العراقية
د . عزيز جبر الساعدي
د . عزيز جبر الساعدي
رغم ملامحه القاسية، وضخامة جسمه، وطبقة صوته الرخيمة, إلا أن في داخله قلب طفل وديع، مرهف الحس, ذواق في تعامله مع الآخرين, يفتح صدره وذهنه لطلبته، ويقودهم بسحر كلماته الى الإنصات، ويحرّك فيهم مخيلتهم في كلّ عمل تشكيلي يؤسس له.
عرفته(رحمه الله) في أكاديمية الفنون الجميلة في بغداد قبل أن يتغير اسمها الى كلية الفنون الجميلة, وهو نجم معروف في الوسط الفني, وفنان تشكيلي مهم.
دأب نقاد المسرح أن يكتبوا دائما عن المخرج والممثل والنص دون الاكتراث لمكونات العرض الأخرى التي تكاد تكون اساسية، ولها فعلها القوي المؤثر في تجسيد الحالة الابداعية في العرض المسرحي، وهذا ما أكّده الفنان الراحل كاظم حيدر في معظم تصاميم أعماله، فهو يصنع وجوده في النصّ، مما يضطر المخرج أحيانا أن يتناغم مع ما ينجزه هذا الفنان، وخصوصا في المجال التشكيلي.
قادتني الصدفة أن ألتقيه في فرقة المسرح الحديث, والفرقة القومية للتمثيل؛ لأعرفه عن كثب, وهو مصمم مسرحي وليس تشكيليا, والحقيقة كنت متفاجئا بأن الراحل (كاظم حيدر) له دراية ومعرفة عالية المستوى في طرازية ومكانية البيئة المسرحية, ولديه القدرة الفائقة في دراسة النص المسرحي ليستنبط من خلال القراءة المتأنية له, إمكانية خلابة، وبأدوات بسيطة؛ لخلق ديكور مسرحي, يساعد المخرج في التكوين المسرحي وحركة الممثلين.
وكم كان وديعا مع المخرجين أمثال: إبراهيم جلال, والفنان سامي عبد الحميد, وقاسم محمد, يختلف معهم؛ كونه صاحب رؤية وفلسفة في قراءة النص, ولكنه بمودة عالية يحاول إقناعهم بوجهة نظره, ولذلك استمر التعامل معه في الكثير من الأعمال المسرحية الراقية، ويحدثنا في هذا الجانب (كافي لازم) في موضوع شيق عنه(رحمه الله):
صمم معظم ديكورات فرقة المسرح الفني الحديث، حيث انتمى للفرقة في ستينيات القرن الماضي، ولي تجربة خاصة معه في عمل ديكور مسرحية (بغداد الأزل)، إخراج الراحل قاسم محمد.
يمتاز الفنان (كاظم حيدر) بسعة ثقافته المعرفية، فهو عندما يُكلّف بتصميم ديكور مسرحية ما، يأخذ النص ويدرسه دراسة مستفيضة؛ لكي تتكون لديه الصورة الكاملة بكل جوانبها الاجتماعية والنفسية والاقتصادية وكذلك التراثية والفولكلورية، ثم يبحث ميدانيا لفلسفة المكان في مساحة العرض المسرحي بتشكيل هندسي دقيق يتناسب مع حجم العرض وطبيعته، وأحيانا يلجأ الى أقصى عمق المسرح، بل يأخذ فضاء خشبة المسرح، ولا أبالغ حين أقول: إنه يأخذ حتى فضاء قاعة العرض، كما فعل في مسرحية (هاملت عربيا)، مما جعل المشاهدين وكأنهم جلسوا في خيمة كبيرة وسط الصحراء.
استغلال حتى ممرات القاعة؛ لتشكيل لوحة تتناسب مع فكر وفلسفة العرض وأهدافه، ربما هذا الذي فعله يتناسب مع بناية مسرح بغداد، لكنه سيكون له حديث آخر في مسرح أكبر، وتقنيات أكثر حداثة.
وميزة أخرى لهذا الفنان الكبير، بأنه متابع ذكي في العمل منذ تمارينه الأولى، لاسيما بعد أن تتوضح له الخطوط الأساسية في العمل، يبدل هنا، ويغيّر هناك، خصوصا باستخدامه خامات مبتكرة متنوعة من الخشب والحديد والفلين والقماش وحتى الجلود.
كما انه يتدخل في شكل الاكسسوارات وتوزيع الإنارة ودرجتها وحجمها، يعدّها مكمّلا لما عمل في توزيع الكتل وتوازن اللوحة، وهذا يسمّى اليوم بالسينوغرافيا. مهمة أخرى لديه وهي بيئة المكان، فهو زبون دائم في أسواق بغداد التراثية للبحث عن رموز شعبية تعينه في اكتمال الصورة، وخير دليل في ذلك مسرحية (الخان)، استعمل فقط مادة (الجنفاص والتنك)، وعندما نرى ديكور هذه المسرحية يوحي لنا بقدم المكان الى درجة أن المتلقي يشمّ رائحة رطوبة المكان.
أما تجربته في (مسرحية بغداد الأزل)، فهي مختلفة نوعا ما، لاسيما عندما عرضت في دولة الجزائر. وقد عُرضت المسرحية في أربع مدن متباعدة، حمل في الطائرة كلّ أدوات العمل مهما كبرت أو صغرت من بغداد؛ خوفا من أن يحتاج شيئا من السوق المحلية ولا يجده، فعندما وصلنا مدينة قسنطينة بساعة متأخرة من الليل، تفاجأنا بجدول العرض غدا مساء.
عندما ذهبنا الى المسرح، فاجأنا مسؤول القاعة بمنعنا بأن لا ندقّ مسمارا واحدا على الخشبة، مع ذلك فالحلّ كان حاضرا عند (كاظم حيدر)، فقال: لا بأس لا تقلقوا، سنعلق الديكور جميعه بالحبال.
وبدأنا العمل الكبير والمضني، وساعة العرض تقترب، يطلب مني لونا معينا وممزوجا بآخر وبدرجة معينة، أنجز العمل قبيل العرض بدقائق، واذكر أن الستارة افتتحت والأصباغ لم تجف بعد، وكان ديكورا مبهرا مختلفا حتى عن ديكور مسرح بغداد الأصلي.
وهكذا بقية عروض المحافظات الأخرى، كان ديكورا مختلفا تماما، بمعنى انه كان يرسم لوحات عملاقة، تحكي عن بغداد التاريخ، وسحر الشرق، تتناغم مع إيقاع وفكرة العرض، الى درجة أن أقول وبدون مبالغة، هو أن شكل القمر ولونه في (بغداد الأزل) يختلف في أربعة عروض لمسرحية واحدة.
عُدّ الراحل (كاظم حيدر) إحدى العلامات الفارقة في تأريخ الثقافة العراقية، فقد تخصّص بالمسرح، والنقد الفني، والفن التشكيلي، ويمكن عدّهُ رائداً في مجال التجريد تشكيلياً وسينوغرافياً، وهذا ما أكّده الناقد التشكيلي (جواد الزيدي): «إن المجموعة التي انحدرت من جيل كاظم حيدر سواء أكانوا متخصصين في مجال الرواية أو الأدب أو الفن أو التشكيل، جميعهم كانوا أفراداً فاهمين وعارفين بما يقدمونه، ولهم إسهامات فنية كبيرة ومؤثرة سواء محلياً أو خارجياً».
إن أعمال (كاظم حيدر) من الناحية التشكيلية، عرفت بأنها أعمال غير مألوفة، حيت اتّبع الرمزية في أعماله، وكذلك التجريد.
وقد قدّم الراحل خطاباً جمالياً وبصرياً منسجماً مع الطروحات السياسية والاجتماعية آنذاك، وكان الراحل (كاظم حيدر)، يتبع نظام الإشارة الى الواقع خلال فنونه، إضافة إلى معالجة الواقع، وهو بحقّ رائد السينوغرافيا.
كاظم حيدر (رحمه الله):
رحل عنا بعد معاناة مع المرض عام(١٩٨٥) بعمر (٥٣)عاما. نحن -المسرحيين والحركة الثقافية والفنية- خسرنا فنانا قلّ نظيره، فهو بالإضافة الى كونه رساما بارعا مستمدا مواضيع لوحاته من بيئة المجتمع العراقي الشعبي، وإيقوناته التاريخية، متخذا الفولكلور الشعبي وخاماته المحلية، منطلقا من الأساطير المتداولة بواقعية تعبيرية.
لروحه الطمأنينة والسلام والذكر الطيب.
قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat