كي ترى بوضوح ابتعد عن الضوء.
صفاء جعيول حميد

المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.

تحت أي مؤثر ينبغي للإنسان السليم أن يتغير وفقا للحالة التي يعيشها في وقتها لا أن ينصاع لها وكأنه قطرات من الماء انجرفت بتأثير سيل مائي نازل فاختلطت معه ولم يتم التعرف عليه بل ولم يتم التعرف على نفسه.

هل تلاحظ نفسك كثيرا؟

ما الذي لاحظته فيها؟

ضجيج الحياة من حولك والصخم الذي تعيشه وسط هذا الزحام من الصداقات والزمالات وغيره، هل عرفت ماذا تريد نفسك وكيف تريد وما انتفعت؟؟؟

سيكون الجواب لاشيء سوى زيادة الضجيج بضجيج أكبر والصخب بصخب أكثر، ثم ماذا؟

لا شيء فالعادة تقتضي أن نمارس الصخب ونساعد على استمراره!

هل فكرت في مخرج؟

نعم فكرت كثيرا.

ما الذي توصلت إليه؟

توصلت الى أن العزلة الإجتماعية ستكون الخلاص أكيدا.

طيِّب لنراجع الذين توصلوا قبلك لما توصَّلت إليه ونلتمس أعذارهم.

في الثمانينيات، اختار الصحفي والمؤلف الإيطالي تيتسيانو ترزاني، بعد سنوات عديدة من السفر عبر آسيا للعمل كمراسل صحفي، عزل نفسه في كوخ في محافظة ايباراكى، في اليابان. قال في كتاب "" قال لي العراف"" الذي تحدث فيه عن رحلته "" شهر كامل لم يكن معي أحد سوى كلبي باولي"". وقضى ترزاني الوقت في قراءة الكتب، ومشاهدة الطبيعة، والاستماع إلى صوت مداعبة الرياح للأشجار، ومشاهدة الفراشات، والاستمتاع بالصمت.

وللمرة الأولى منذ فترة طويلة شعر بأنه تحرر من القلق المستمر في الحياة اليومية: "أخيراً أصبح لدي وقت فراغ".

تيتسيانو ترزاني الذي أستبدل أصدقاءه بباولي المرافق له طيلة فترة عزلته لم يكن قد عرف نفسه جيدا الا من خلال عزلته.

ويكمل توماس ميرتون الراهب والكاتب الذي قضى سنوات في عزلة، ما ذهب إليه ترزاني فقد جاء في كتابه "خواطر في العزلة"

"لا نستطيع أن نرى الأمور بوضوح إلا إذا ابتعدنا قليلاً".

 

ويقول فونغ "عندما تأتيك تلك اللحظات، لا تقاوم، تقبلها كما هي، اسمح لها بالخروج بهدوء وبصدق ولا تقاومها، يجب ألا يكون وقت عزلتك شيئاً تخاف منه"

فَـفونغ هنا يتحدث عن "اللحظات الوجودية" لحظات عظيمة لا تحدث مع وجود ذلك الصخب والزحام وعند العزلة يتم وضوح الرؤية.

ولكن هل فكرت في ما بعد العزلة؟

هل ستحصل على نفسك؟ على ضالتك؟على ما انعزلت من أجله؟

كل هذه الأستفهامات يجب ان توضع قبل العزلة على طاولة النقاش.

خذ مثلا رأي بوكر الذي قال أن "قيمة الوحدة تتوقف على ما إذا كان الفرد يستطيع العثور على العزلة الداخلية".

هل لاحظت؟

تعال و لاحظ معي "بعض الناس يستطيعون الذهاب في نزهة مشياً على الأقدام أو الاستماع إلى الموسيقى وهم يشعرون بأنهم في اتصال عميق مع أنفسهم، بينما لا يستطيع آخرون فعل ذلك"

هل وصلت إليك الفكرة أم لا تريدها أن تصل؟!

 

عموماً، يقول بوكر أن "انعدام ثقتنا في العزلة" له عواقب. ويقول كذلك "لقد أصبح المجتمع أكثر اندماجية".

إذن هنا يأتي دور العزلةو يتطلب ذلك منا العزلة المكثفة، كما يسميه المحلل النفسي دونالد وينيكوت "القدرة على أن تكون وحدك".

إنَّ فكرة بوكر من العزلة قائمة على نتيجة تقوية للذات وينبغي كما يقول بل "يجب عليك امتلاك هذه القدرة: القدرة على معرفة أنك ستبقى على قيد الحياة، وأنك ستكون بخير إذا كنت غير معتمد على هذه المجموعة. وبعبارة أخرى، فإن الشخص الذي يستطيع العثور على تجربة شخصية غنية في حالة العزلة من المرجح أن يكون شعوره بالوحدة أقل كثيراً حين يكون بمفرده".

ختم بوكر عزلته بمقولة كبيرة ينبغي التوقف عندها وقراءتها مرتين أقل تقدير: " القدرة على معرفة أنك ستبقى على قيد الحياة، وأنك ستكون بخير إذا كنت غير معتمد على هذه المجموعة، وبعبارة أخرى، فإن الشخص الذي يستطيع العثور على تجربة شخصية غنية في حالة العزلة من المرجح أن يكون شعوره بالوحدة أقل كثيراً حين يكون بمفرده".

بعد هذا هل ستمارس عملية العزلة؟

إليك عناصر الطبيب النفسي كينيث روبين، في العزلة المثمرة أهمها :

أن تكون العزلة طوعية ، أن يكون المنعزل قادر على تنظيم مشاعره بصورة فعالة، وإذا كان قادرا على الانضمام إلى مجموعة عندما يريد، وإذا كان قادرا على الحفاظ على علاقات إيجابية خارجها.

هذه العناصر إذا ما روعيت وتوبعت بحذر ستنتج تجديدا للنشاط وتعطي المنعزل حيوية عالية فالعزلة هنا بمثابة رياضة مجهدة ونظام غذائي مركز.

الآن،نعود لنتساءل مجددا بسؤال جديد، ما الوقت المناسب للعزلة؟وكم الوقت المناسب لها؟

هذان السؤالان يختلف جوابهما من منعزل لمنعزل ثانٍ،فلكل فرد بيئة خاصة به وطبيعة مختلفة عن غيره.

عن نفسي أقول:

أن تقوم وتقعد غريبا ووحيدا وتخسر في كل قيام وقعود صديقا لك وتشعر بأنك صادق مع نفسك مرتاحا بفكرك وجسدك،خير من أن تقوم وتقعد بين هذا وذاك وهؤلاء وأولئك وأنت مجامل لهم و منافق وكاذب بل ومنزعج من الداخل .

ربما يراها كثيرون أنها أشبه بالمنهج النعامي وضع الرأس في التراب، ولهم أن يرونها كما يحلو لهم فالفارق كبير بين أن تكون منعزلا وبين أن ترى أحدهم منعزلا وهذا ما يقال عنه فارق النظرية عن التطبيق.

نعم هي دعوة أن ننعزل عن بعضنا،نختار الوقت المناسب وكمية الوقت المناسب.

مبدئيا أراها عزلة موفقة جدا.

فتعالوا بعيدا عن الضوء لنرى بوضوح.

الموضوع السابق الحفاظ على أموال الناس مسؤولية تستحق الاهتمام

قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat