صفحة الكاتب : سلمان عبد الاعلى

رأيٌ عن الأنسنة والعقلنة
سلمان عبد الاعلى

المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.

لقد شهدت الكثير من النظريات والقيم والأفكار التي جاءت بها الحداثة الكثير من السجالات التي بدأت ولم تنتهي ولا أظن أنها ستنتهي في القريب العاجل، ومن هذه الأفكار ما تعرضت له النزعة الإنسانية (الإنسانوية- الأنسنة) والعقلانية الحديثة من نقد ومناقشات ليس من قبل المفكرين المحسوبين على الفكر الإسلامي فقط، وإنما أيضاً من قبل الفلاسفة والمفكرين الحداثيين أنفسهم أو من قبل فلاسفة ومفكرين ما بعد الحداثة كما يُطلق عليهم عادةً.

ولا شك أن هذا النقد له قيمته وأهميته، فهو يكشف عن الكثير من الثغرات والسلبيات التي تعاني منها هذه النظريات والأفكار، وهو أمر مطلوب وإيجابي لسد الثغرات ولتفادي السلبيات ولترميم النقص ولإصلاح الخلل، ولكن الأمر المرفوض هو تجاهل المكتسبات الإيجابية التي حققتها أو تحققت بسبب هذه النظريات، والتنكر لها ومحاولة التقليل من شأنها وأهميتها، كما يفعل الكثيرون من المحسوبين على التيار الإسلامي، لاعتقادهم بأنهم بهذه الطريقة سوف يُجهزون على مشروع الحداثة ويقتلعوه من جذوره ليعود الناس بعدها لما كان قبلها.. ظناً منهم بأن هذا ممكن !

وهنا يحق لنا أن نسأل هؤلاء: إذا كنتم ترفضون الحداثة أو ترفضون بعض مبادئها وقيمها كالنزعة الإنسانية أو العقلانية أو غيرها؟ فما هو البديل عنها؟! ونحن إذ نسأل هذا السؤال نريد جواباً عملياً له القابلية للتنفيذ على أرض الواقع، ولا نريد الأجوبة الجاهزة والمعلبة المنتجة في مصانع التاريخ المعهودة والمعروفة، كالقول إن الحل هو في الرجوع إلى الإسلام أو لسيرة السلف الصالح أو للعصر الذهبي أو ما شابه من العناوين العامة التي لا ترسم لنا الطريق ولا توضح لنا المنهج، ولا تعرفنا بالآليات الممكنة للتنفيذ، لأن أجوبة من هذا القبيل تنفع لئن تكون شعارات حماسية ملتهبة تلهب نفوس الجماهير أكثر من كونها تنفع كحلول ومعالجات واقعية وعملية يمكن تنفيذها.

فعلى سبيل المثال، فإن الكثير من الذين يرفضون النزعة الإنسانية (الأنسنة) ويحاربونها -لأنهم يعتقدون بأنها تؤله الإنسان، لأنها ترى بمحورية الإنسان، وبأنه هو المعيار أو المقياس لكل شيء- لا يعطونا البديل العملي عنها، فهل يريد هؤلاء الرجوع بنا لـ (ما قبل الأنسنة) تحت شعارات براقة كالدفاع عن المبادئ والقيم والدين... كالقول بأن البديل هو (محورية الله) بدلاً من (محورية الإنسان)، فالله سبحانه وتعالى هو المعيار والمقياس لكل شيء ولا يصح استبداله وتجاوز سلطته جل وعلا كما تفعل الأنسنة على حد قول هؤلاء.

ولا شك بأن هذا العنوان (محورية الله) هو عنوان لامع وبراق، لدرجة لا يجرأ فيها أحد على تجاوزه أو رفضه، لأنه سيوسم حينها بأنه ضد الله، ضد الدين، ضد القيم... معاذ الله! .. ولهذا لن أستنكر على هذا العنوان بل سأقف معه ومع القائلين به، غير أنني إذا ما أردت أن أقف معه سوف أصطدم بهذا السؤال: إذا قلنا بأن الله سبحانه وتعالى هو المحور والأصل، وينبغي بل يجب أن يكون هو المعيار والمقياس لكل شيء، فمن هو الممثل لإرادة الله سبحانه وتعالى؟! طبعاً غير الأنبياء والأئمة المعصومين (ع). هل يمكن أن يكون العلماء هم الممثلون لإرادة الله في كل شيء أو لكل شيء وهم مختلفين مع بعضهم ومتناقضون في أكثر من شيء وشيء، بل نستطيع أن نقول أن خلافاتهم واختلافاتهم أكبر من أن تحصى. ألا يقودنا هذا الأمر للرجوع لـ ما قبل الأنسنة، وهي الحالة التي كانت تقول بنفس هذه المقولة أو تطالب بمضمونها، غير أن البشر (أو جزء من البشر وهم رجالات الكنيسة) كانوا ينصبون أنفسهم مندوبين عن الله لتنفيذ إرادته، وهذا ما أدى لاختلاط الأمر وقتذاك ولم يعد بوسع الإنسان البسيط أن يميز بين إرادتهم (أي إرادة رجالات الكنيسة) وإرادة الله سبحانه وتعالى!.. لهذا يبدو أن هذا العنوان (غير واقعي أو غير عملي) ونحتاج لعنوان آخر يخرجنا من هذه الإشكالية العويصة !

وكذلك الأمر بالنسبة للعقلانية الحديثة التي ركزت على الاستدلال ووضعت التجربة والاستقراء أساساً للمعرفة، ورفضت أو أهملت أي معرفة أخرى، والتي قامت بتغيير التعامل مع التراث من كونه يعتمد على أساس التقديس له ولشخصياته ولبعض أحداثه إلى التعامل معه على أساس النقد والاستدلال العلمي. ولكن البعض نجده يرفض هذه العقلانية تماماً بحجة أن المعارف التي نكونها ينبغي أن تكون معتمدة على الوحي الإلهي المقدس أيضاً، وليس على التجربة والاستقراء كما تقول به هذه العقلانية، والأمر الآخر الذي يجعل البعض يرفض هذه العقلانية كذلك، هي لأنها تقوم بنقد التراث وتعتمد على الاستدلال العلمي لتقويمه بدلاً من اعتمادها على الوحي ومقولات الأنبياء (ع)، ومن الخطأ كما يقولون أن لا نعتمد على النبي الذي (لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى) !

ومن يستمع لهذا الكلام لا يتجرأ على معارضته أو القول بخلافه، لأنه سيكون عندها ضد الوحي، وضد الأنبياء، وضد الله سبحانه وتعالى... أستغفر الله. ولكننا إذا قلنا بأن الوحي هو المصدر الأساس للمعرفة، فلا مشكلة معنا مع هذه المقولة، غير أن السؤال هو: من الذي يمكن الوثوق بتمثيله للوحي غير الأنبياء والأئمة عليهم السلام؟! إذ لا يمكن القول بأن العلماء هم الممثلون للوحي كالأنبياء والأئمة (ع)، لأن العلماء كما هو معروف مختلفون مع بعضهم البعض إلى حد كبير، ومتناقضون مع بعضهم البعض إلى حد ليس بالقليل، فلو قلنا بذلك ألا يرجعنا ذلك لما عليه الوضع (ما قبل العقلانية الحديثة)، من إهمال للتجربة والاستقراء والاستدلال والنقد العلمي، مما يؤدي لانتشار الجهل ولفتح باب الخرافة والتخلف على مصراعيه.

لذلك نستطيع القول بأن المشكلة التي تواجهنا ونحن نناقش هذه القضية ليست في أن نوافق أو لا نوافق عليها، وإنما تكمن في إيجاد واختيار البدائل المناسبة والممكنة الأفضل منها، إذ لا يكفي نقدها والبراءة منها دون إيجاد بديل ممكن ومناسب يكون أفضل منها هذا من جهة. ومن جهة أخرى ينبغي العلم بأن الكثير من الأمور ليست تحت أيدينا حتى نقول بأننا نقبلها أو نرفضها تماماً، لأن هذا لن يغير من واقعها شيئاً، ولهذا قد يكون الأولى في حالة كهذه أن نناقش كيفية التعامل مع نتائجها ومعطياتها.


قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat


سلمان عبد الاعلى
 (للدخول لصفحة الكاتب إضغط هنا)

    طباعة   ||   أخبر صديقك عن الموضوع   ||   إضافة تعليق   ||   التاريخ : 2012/04/09



كتابة تعليق لموضوع : رأيٌ عن الأنسنة والعقلنة
الإسم * :
بريدك الالكتروني :
نص التعليق * :
 



حمل تطبيق (كتابات في الميزان) من Google Play



اعلان هام من قبل موقع كتابات في الميزان

البحث :





الكتّاب :

الملفات :

مقالات مهمة :



 إنسانية الإمام السيستاني

 بعد إحراجهم بكشف عصيانها وخيانتهم للشعب: المرجعية الدينية العليا تـُحرج الحكومة بمخالفة كلام المعصومين.. والعاصفة تقترب!!!

 كلام موجه الى العقلاء من ابناء شعبي ( 1 )

 حقيقة الادعياء .. متمرجعون وسفراء

 قراءة في خطبة المرجعية : هل اقترب أَجلُ الحكومةِ الحالية؟!

 خطر البترية على بعض اتباع المرجعية قراءة في تاثيرات الادعياء على اتباع العلماء

 إلى دعاة المرجعية العربية العراقية ..مع كل الاحترام

 مهزلة بيان الصرخي حول سوريا

 قراءة في خطبة الجمعة ( 4 / رمضان/ 1437هـ الموافق 10/6/2016 )

 المؤسسة الدينية بين الواقع والافتراء : سلسلة مقالات للشيخ محمد مهدي الاصفي ردا على حسن الكشميري وكتابيه (جولة في دهاليز مظلمة) و(محنة الهروب من الواقع)

 الى الحميداوي ( لانتوقع منكم غير الفتنة )

 السيستاني .. رسالة مهدوية عاجلة

 من عطاء المرجعية العليا

 قراءة في فتوى الدفاع المقدس وتحصين فكر الأمة

 فتوى السيد السيستاني بالجهاد الكفائي وصداها في الصحافة العالمية

 ما هو رأي أستاذ فقهاء النجف وقم المشرّفتَين السيد الخوئي بمن غصب الخلافة ؟

 مواقف شديدة الحساسية/٢ "بانوراما" الحشد..

أحدث مقالات الكتّاب :


مقالات متنوعة :





 لنشر مقالاتكم يمكنكم مراسلتنا على info@kitabat.info

تم تأسيس الموقع بتاريخ 1/4/2010 © محمد البغدادي 

 لا تتحمل الإدارة مسؤولية ما ينشر في الموقع من الناحيتين القانونية والأخلاقية.

  Designed , Hosted & Programmed By : King 4 Host . Net