عاشوراء دعوة للحياة لا للممات
عبير المنظور

المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.

 في آفاق الدهر، لاحت محطات نادرة غيّرت مجرى التاريخ، وصنعت ثورة حقيقية في الأرواح كمبادئ ومفاهيم، انعكست على أرض الواقع سلوكاً وتطبيقاً.

عاشوراء الحسين محطة من أهم المحطات التي عاشها التاريخ كصيرورة استثنائية لتلك المفاهيم، وتجسيدها عملياً لمنهج حياة متكامل، فعاشوراء ليست مجرد معركة استمرت لسويعات من شهر محرم عام (٦١) للهجرة، ولا هي استذكار وتأبين لشخصيات تحوطها هالات من نور القداسة، ولا هي طقوس وشعائر تدعو فقط الى الثواب الآخروي، عاشوراء باقية بمفاهيمها، بمعطياتها، بأسبابها، وبنتائجها، عاشوراء حية تتحرك في جسد الأمة الخانع الذي استسلم للطغاة والمستكبرين، عاشوراء ملأت ثغرات الحياة بأكملها بالماضي والحاضر والمستقبل، فعندما تعيش الأمة هذه المفاهيم النظرية، وتتشربها كعقيدة راسخة في الأرواح، فإنها ستؤسس لمنهج حياة متكامل الجوانب سلوكاً وتطبيقاً؛ لتصنع ثورة أخلاقية، وصحوة جماهيرية مستمرة متجددة على مر الأزمان والعصور على اختلاف مستويات الوعي والتطور والتكنولوجيا لتلك المجتمعات على الأرض.
حياة عاشوراء بحياة تلك العبر المستقاة منها على جميع المستويات، وإدراك تأثيرها الحي في الأفراد كأفراد، وفي الأمة كمجتمع، منها على نحو المثال لا الحصر:
- الجانب الفردي :
وهو أساس ومنطلق للجانب الثاني انطلاقاً من المفهوم القرآني: «إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ»(١). وعاشوراء الحسين مليئة بتلك المفاهيم التي تؤثر على سلوك الفرد بشكل ايجابي، فمثلاً من علاقة الامام الحسين ع بإخوته نتعلم تقوية العلاقة بين الاخوة، سواء كانوا أشقاء أم غير أشقاء، وما أحوجنا لنطبق هذا المفهوم الآن في أمتنا، حيث أصبح الاخوة الاشقاء أعداء، فكيف إذا كانوا غير أشقاء!
ونتعلم من كفالة المولى أبي الفضل لأخته العقيلة زينب، وحرصه عليها، كيفية التعامل مع الأخت والحفاظ عليها وحمايتها ومعرفة مكانتها في الأسرة المسلمة التي تحفظ كرامة المرأة ولا تهينها، ولا تقلل من كيانها .
كما تعلمنا منه الوفاء والايثار، ونتعلم من علي الأكبر أن نكون السند والمعتمد للوالدين في هذه الحياة، ونتعلم من القاسم بن الحسن كيف يعيش الفتى بعزم وإصرار وعقيدة راسخة لا تقلّ تأثيراً عن الكبار.
تعلمنا من نساء الحسين كيف نربي أولادنا على النهج القويم، وتعلّمنا منهن الصبر على المكاره، والصبر الجميل عند فقدان الأحبة كقرابين لنصرة دين الله تعالى، وتعلمنا من عزيزة الحسين رقية الالتزام بالفرائض والواجبات منذ الصغر، ونتعلم من أصحاب الحسين كيفية انتقاء الأصحاب والأصدقاء الذين يصدقون في وقت الضيق والشدة، وتعلمنا منهم جميعاً أروع دروس الوفاء والنصرة لإمام الزمان.
الجانب الاجتماعي :
وهنا تتجسد مفاهيم عاشوراء كثورة اصلاحية كبرى للمجتمع الذي يتخاذل عن نصرة الحق، ويتساهل مع الظالمين، ويجور على المستضعفين، ويشيع الفساد ويخنع للمعتدي.
عاشوراء تصحّح المجتمع وتنقيه من كل تلك الأدواء التي تفتك به، وتهوي به الى الحضيض، وتدكّ أعمدته، فمن عاشوراء ننهض لنصلح مجتمعنا الفاسد الذي عاث الظالمون فيه ظلماً وفساداً.
تعلمنا من عاشوراء أن نقول: (لا) للحاكم الظالم المستبد الذي يسرق قوت شعبه؛ ليبني قصوراً فارهة له ولذريته، بينما كان شعبه يطارد شبح الجوع والمرض والحصار الاقتصادي والمقابر الجماعية.
تعلمنا من عاشوراء الحرية الحقيقية والسعي لتحقيقها، وما حشدنا المقدس إلا ثمرة ذلك الوعي لتلك الحرية، ولأجل تلك الحرية قدمنا الشهداء، وترمّلت النساء، وتيتم الأطفال، إنها ليست دعوة للانتحار أو السلبية، بل على العكس تماماً، إنها دعوة للبعث والتجديد، إنها بناء أمة ومجتمع على أسس رصينة وصحيحة وتنقية المجتمع من كل شائبة تعود بالسلب عليه كجزء لا يتجزأ من واجباتنا في زمن الغيبة للتمهيد لظهور الامام المهدي عجل .
فعاشوراء ترميم لما تهدم وبناء، عاشوراء فكرة البقاء لا الفناء، ولعل من أصدق ما قيل في هذا المعنى ما وصفه المستشرق والفيلسوف الفرنسي هنري كوربان في مقولته الشهيرة: «كل الأديان تموت بموت أنبيائها، اليهودية ماتت بموت موسى، والمسيحية ماتت بموت عيسى، وأهل السنة ماتوا بموت محمد ص، ووحدهم الشيعة الذين رفضوا أن يموتوا، فهم غير مرشحين للموت؛ لأنهم وضعوا الحسين في بداية الطريق، ووضعوا المهدي في آخر الطريق، الإمام الحسين يدفعهم من عمق التاريخ، ومن المستقبل يستدعيهم الامام المهدي أن هلموا أن مثل هذا المجتمع لا يموت، فقيادته حاضرة، ومُثُله حاضرة وتتجدد».
وعلى صعيد آخر، فإن عاشوراء الحسين اتخمت الدنيا بتلك الحياة الزاخرة، وانطلقت منها أيضاً نحو عالم الآخرة وعوالم الملكوت من خلال الثواب الجزيل لكل مفاصل عاشوراء العزائية، وآثارها في الدنيا والاخرة، التي لا يسع المقام لتوضيحها، وهي معروفة أساساً ومذكور جزاؤها في كتب الحديث عن المعصومين ع.
وبلحاظ ما تقدّم، فإن عاشوراء كسرت الصورة النمطية للمعارك التاريخية التي تُستعرض في دراسة التاريخ، وزرعتْ صورة حقيقية في معركة حية هي من تصنع التاريخ وتعيشه الأمة كمنهج حياة متكامل، ووعي كبير لتحديات المفصل الزمني الذي تعيشه الأمة ولمتطلبات تلك المرحلة.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(١) سورة الرعد: ١١.

الموضوع السابق ( العلويات ) ح 46 ( الاعتذار )

قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat