رؤية الله والتطرف الفكري : مناقشة الأدلة القرآنية لمثبتي الرؤية:
د . احسان الغريفي
المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.
د . احسان الغريفي

لقد ذكرنا في الأعداد السابقة مناقشة الدليل القرآني الأوَّل لمثبتي الرؤية، ونذكر هنا دليلهم الثاني والثالث اللذَين يستدلُّون بهما على رؤية الله تعالى مع الرد عليهما، فالدليل الثاني الذي يستدلّ به مثبتو الرؤية على رؤية الله تعالى مِن القرآن الكريم هو قوله تعالى: ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ * لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ [ق: 34، 35]، فقالوا في تفسير قوله تعالى: وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ إنَّ جابر وأنس قالا: (هو النظر إلى وجه الله الكريم).
ويُرَدُّ قولهم هذا مِن وجوه عديدة؛ الوجه الأوَّل: إنَّه لا دلالة ظاهرة في الآية تدلُّ على أنَّ المراد مِن المزيد هو رؤية الله تعالى.
الوجه الثاني: ما روي عن جابر وأنس هو رأيهما الشخصي وليس بحجة؛ لأنَّ الذي روي في كتب السنة عن الصحابة أنهم اختلفوا في رؤية الله تعالى(1).
الوجه الثالث: إن التفسير الصحيح لهذه الآية هو أن المؤمنين يسألون الله تعالى حتى تنتهي مسألتهم فيعطون ما شاءوا، ثم يزيدهم الله مِن عنده ما لم يسألوه، وهو قوله: وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ، يعني الزيادة لهم في النعيم مما لم يخطر ببالهم.
وأمَّا دليلهم الثالث على الرؤية فهو قوله تعالى: لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ وَلَا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلَا ذِلَّةٌ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [يونس: 26]، فقالوا: الحسنى الجنة، والزيادة النظر إلى وجه الله.
ويبطل زعمهم هذا ردود عديدة وهي كالتالي:
الرد الأوَّل: ليس في الآية لفظ صريح يدلّ على رؤية الله تعالى، ولفظوَزِيَادَةٌ ليس فيه دلالة قريبة أو بعيدة على رؤية الله تعالى، فلفظة الزيادة مبهمة غير دالة على الرؤية وضعاً ولا استعمالاً.
الرد الثاني: اختلف الصحابة في تفسير هذه الزيادة؛ فروي عن عليّ بن أبي طالب أنَّه قال: الزِّيَادَةُ: غُرْفَةٌ مِنْ لُؤْلُؤَةٍ وَاحِدَةٍ لَهَا أَرْبَعَةُ أَبْوَابٍ(2).
وعنابْنِ عَبَّاسٍ، قَوْلُهُ: لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ قَالَ: هُوَ مِثْلُ قَوْلِهِ: وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ [ق:35]، يَقُولُ: يَجْزِيهِمْ بِعَمَلِهِمْ، وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ. وَقَالَ: مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلاَ يُجْزَى إِلاَّ مِثْلَهَا وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ[الأنعام:160] (2).
وروي عَنْ قَتَادَةَ، قَالَ: كَانَ الْحَسَنُ يَقُولُ فِي هَذِهِ الآيَةِ: لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ قَالَ: الزِّيَادَةُ: بِالْحَسَنَةِ عَشْرُ أَمْثَالِهَا، إِلَى سَبْعِمِائَةِ ضِعْفٍ(3).
وَقَالَ آخَرُونَ: الْحُسْنَى وَاحِدَةٌ مِنَ الْحَسَنَاتِ بِوَاحِدَةٍ. وَالزِّيَادَةُ: التَّضْعِيفُ إِلَى تَمَامِ الْعَشْرِ... وَقَالَ آخَرُونَ: الْحُسْنَى: حَسَنَةٌ مِثْلُ حَسَنَةٍ. وَالزِّيَادَةُ: زِيَادَةٌ مَغْفِرَةٌ مِنَ الله وَرِضْوَانٌ... وَقَالَ آخَرُونَ: الزِّيَادَةُ مَا أُعْطُوا فِي الدُّنْيَا....(4).
الرد الثالث: اختلف المفسرون في تفسير هذا اللفظ؛ قال الرازي: وأما اللفظ الثالث: وهو الزيادة، فنقول: هذه الكلمة مبهمة، ولأجل هذا اختلف الناس في تفسيرها، وحاصل كلامهم يرجع إلى قولين:
القول الأول: إن المراد منها رؤية الله سبحانه وتعالى... القول الثاني: إنه لا يجوز حمل هذه الزيادة على الرؤية. قالت المعتزلة ويدلّ على ذلك وجوه، الأول: إن الدلائل العقلية دلَّت على أن رؤية الله تعالى ممتنعة. والثاني: إن الزيادة يجب أن تكون من جنس المزيد عليه، ورؤية الله تعالى ليست من جنس نعيم الجنة. الثالث: إن الخبر الذي تمسكتم به في هذا الباب هو ما روي أن الزيادة، هي النظر إلى وجه الله تعالى، وهذا الخبر يوجب التشبيه؛ لأن النظر عبارة عن تقليب الحدقة إلى جهة المرئي، وذلك يقتضي كون المرئي في الجهة؛ لأن الوجه اسم للعضو المخصوص، وذلك أيضاً يوجب التشبيه. فثبت أن هذا اللفظ لا يمكن حمله على الرؤية، فوجب حمله على شيء آخر، وعند هذا قال الجبائي: الحسنى عبارة عن الثواب المستحق، والزيادة هي ما يزيده الله تعالى على هذا الثواب من التفضل. قال: والذي يدل على صحته القرآن وأقوال المفسرين؛ أما القرآن: فقوله تعالى: لِيُوَفّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُم مّن فَضْلِهِ [ فاطر: 30]، وأما أقوال المفسرين: فنقل عن علي (رضي الله عنه) أنه قال: الزيادة غرفة من لؤلؤة واحدة. وعن ابن عباس: إن الحسنى هي الحسنة، والزيادة عشر أمثالها. وعن الحسن: عشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف، وعن مجاهد: الزيادة مغفرة الله ورضوانه. وعن يزيد بن سمرة: الزيادة أن تمر السحابة بأهل الجنة(5).
هذا وسنذكر في العدد القادم بقية الردود الَّتي تبطل زعمهم بأنَّ الزيادة في الآية المتقدِّمة يراد منها النظر إلى الله تعالى.
المراجع:
(1) راجع اختلاف عائشة وابن عباس في رؤية النبيلربه في: شرح صحيح مسلم للإمام النووي:3/9.
(2) تفسير الطبري:6/552[سورة يونس/الآية:26/ح. 17649].
(3) نفس المصدر السابق:[ح. 17654].
(4) نفس المصدر السابق.
(5) نفس المصدر السابق.
قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat