قلة اولئك الذين تعطرت بهم الدنيا قبل الجنان ، ورست على كواهلهم اثقال الحياة وهمومها ، وابتلوا بمن لم يرعوا لهم حرمة ولا مقاما. ومن هؤلاء، صاحب النسمة الهاشمية والشمائل المحمدية ، من كانت هالة "السفارة" تأطره جمالا، وتفيض عليه انسجاما وكمالا، حتى احتواها واحتوته مضمونا وإطارا وهو مشرق كالبدر يعلوه جلال وفخار. انه "مسلم ابن عقيل" الذي نشأ في صلب اليقين ، فقدوته عمه إمام المتقين ، فارس همام ، كثير الصلاة والصيام ، السيف ولد في كفه ، وحمائله مشدودة على وسطه كأنها نياط قلبه، أختاره مولاه وابن عمه الحسين ليكون للكوفة سفيرا .فقد خبر معدنه وكنه ما انطوى عليه ضميره ، فوجده أهله وثقته ..فأوكل إليه ثقل سفارته ،ليرتج من دعوته غربان قصر الإمارة .كان لائقا لها . فلبسها حتى بان جماله عليها. وقد أتاها وكأنه أتى بها .والله يابن عقيل . إنه لعصي على الحرف تصويرك ، أو أن يحتوي كل معانيك ويترجم كل سجاياك .فأنت حفيد أبي طالب سيد بني هاشم وأشجع العرب ومن بالنسب يدانيك ، بطل مغوار ،كأنك حيدر الكرار .ناداك سيدك وبن عمك الحسين (عليه السلام) فالتقت عينيك بعينيه حتى اغرورقت بالدموع ، وأحتضن قلبك قلبه. فاتحدت النبضات. ماذا رأى سبط الرسول ؟هل رأى غدر وحيرة وحبال ؟وما رأت عيناك يابن عقيل في عين مولاك ؟هل رأيت صهيل خيل ،نار ودخان، ورماح رفعوا فوقها القرآن ؟ وبعدما أنتهى لقاء العيون ، أوصاك كثيرا. فأنت ثقته الأمين .توكل على الله وتوجه "لكوفان" ، فليحفظك الرب المنان .ودع اطفاله وأهل بيته ، أحاطوا به ممسكين بأطراف ردائه. كل هذا والحيرة بادية على محياه ..كيف يفارق وجها تشرق الشمس لأجله ؟ وكيف يبتعد عنه ولا يراه ؟ والقلب مجبول بحب مولاه ؟ ودع البيت الحرام. وقبل جبين الشمس وغاب في أفق السماء تطويه الإيام . أما الكوفة فعلى الرغم من فسحة أرضها ، إلا أنها تشكو المجاعة بفقد إمامها فنادتك "ان اقدم فقد اينعت الثمار واخضر الجناب" .فكنت لها داءها ودواءها ، فأججت فيها نار حب الحسين ( عليه السلام) ، ومحصت النفوس وسبرت أغوارها .فبايعوك أهلها ، لكنهم ما لبثوا أن خذلوك ، وفي سككها تركوك ..وللمنايا أسلموك . فبقيت وحيدا وقلبك يعتصر لسيدك ومولاك ، تخشى عليه ان يكون الغدر مصيره ، مثلما رسموا مصيرك . ومن فوق قصر الإمارة كان للسلام طعما آخر، وشكلا آخر .فأوصل النسيم سلامك ، معطرا بشذى هيامك .فرد السبط السلام ،وأنكشف له البصر، أن امضي يا "مسلم" فنحن في الأثر .
قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat