فَلسَفةُ ذِكر الصّلاة على محمدٍ وآلِ محمد (الجزء الأول)
د . اكرم جلال
المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.
د . اكرم جلال

إنّ التَدَبر، والتأمّل، والتّفكر في عَظَمة هذا الذّكر والذي جاءت الإشارة إليه في الآية: ﴿ إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ﴾ [الأحزاب: 56] إنّما هو من أجل فَهم حَقيقته وإدراك جَوهر معانيه وبالتالي الوصول إلى مَنافعه وآثاره في حياتنا الرّوحية، والتي تشد السالك نَحوَ بلوغ أعلى مدارج القرب الإلهي.
أنّ صلاةَ الله جل جلاله على النبي في الآية الكريمة إنّما هي إشارة بَليغة على أنّ أوّل المُصلين هو الله تعالى وقد أشير إلى ذلك بذكر لفظ الجلالة (الله)، وهو الإسم الأعظم الجّامع لصفات الكّمال والجّمال وهو إسمٌ للذّات المقدّسة الكامل والمُنَزّه عن كل عَيْب ونَقْص ، تَفَرّد الرّب جلّ وعلا بهذا الإسم وَخَصّ به ذاته، إنّه الدّلالة الجامعة لكل الأسماء الإلهية، وأن الموجودات إنّما هيَ أسماءٌ لتجلّي صفات تلك الذّات المقدّسة ، مِن هنا نُدرك عَظَمَةَ قَول "إنّ اللهَ" يُصَلّي أي أنّ مَقام الذّات المقدّسة تتجلي لمقام الصفات.
وَكَما أشَرنا في مُقدّمة البحث وما دلّت عليه أغلب الروايات أنّ صلاة الله هي تَجسيد للرّحمة الإلهية، وأنّ حقيقة هذه الرحمة هي النبوّة المُطلقة ، لقول الله عز وجل: ﴿ أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَةُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ ﴾ [الزخرف: 32].
ففي الآية إشارة إلى أنّ النبوّة هي رحمة ربك وهي خيرٌ من المال، وأن النبي هو صاحب مرتبة النبوة المُطلقة، أي أنّه رحمة الله المُطلقة إلى العالمين: ﴿ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إلّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ ﴾ [سبأ: 28]، فصلاة الله عليه إنما جاءت كاشفة ودالة عن تلك الرحمة المطلقة والتي تَجَسّدت بنبوة محمد المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم .
وأما الصّلاة من الملائكة في قوله تعالى: " وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ"، فهي إشارة إلى أنّ الصلاة أمرٌ وَتَكليف مِنَ الله جل جلاله إلى الملائكة مِن أجل تَطبيق مقام التَجَلّي، وهي تزكية وإقرار بكمال النبي وبفضله ومنزلته والاستغفار لأمته، يقول الله جلّ وعلا: ﴿ الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ * رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُم وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ * وَقِهِمُ السَّيِّئَاتِ وَمَنْ تَقِي السَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيم ﴾ [غافر: 7-9].
فصلاة الملائكة هنا هي في مقام الفعل والظهور للإفاضة على كل مَن له استعداد في نيل تلك الفيوضات الصادرة من منبع الجود فينال بذلك فضلاً وقرباً من المعبود، وعليه فصلاة الملائكة هي من أجل تهيئة الأسباب لتلك الإفاضة الإلهية، "على النبي" وهو المتجلّي الأعظم لجميع تلك التجليات، فالنبي وآل بيته الأطهار هم تجليات لأسم الله الأعظم، وأنّهم مظهرٌ لأسماء الله الحسنى، يقول تعالى: ﴿ وَلِلَّهِ الأسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا ﴾ [الأعراف: 180].
وأما صلاة المؤمنين على النبي وتسليمهم في قوله تعالى " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا" فإنَّها إشارة إلى تَجَلّي لصفات الذّات في الغيب والشهادة والطبيعة والقلب والعقل والنّفس بكل مراتبها، وإنّه تَمام التّسليم للمُصطفى صلوات الله عليه وآله .
ثم إنَّ المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم حي وهو ليس بعيداً عن المؤمن الرسالي، فالأنوار المحمدية تسري معه، تنير له الطريق ، قال الله تعالى ﴿ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ ﴾ [الأنفال :33]، فأنوار محمد وآل محمد تفيض على المُتّبعين لهم والسائرين على دربهم، فهو مُطّلع على أعمالنا وَيَرُدّ سلامنا، بل أن كل ما لدينا إنما هو من بركات المصطفى وآل بيته وما نقدمه إنما هو جزء مما أفاضوا به علينا، وأن صلواتنا هي من أجل التّقَرّب لهم والسَعيَ لِمعرفة منزلتهم وبهذه المعرفة ستسقي المصلي الرحمات الإلهية من مجرى الفيض الرحماني وهو المصطفى وآل بيته صلوات الله عليه وعليهم أجمعين، فبدعائنا لهم بالرحمة سوف ترشح وتفيض منهم (عليهم السلام) إلى غيرهم ممّن عَرَفَهَم وأتّبعهم وصلى عليهم. وفي الزيارة الجامعة تأكيد لهذا المعنى: (وَجَعَلَ صَلَواتِنا عَلَيْكُمْ وَما خَصَّنا بِهِ مِنْ وِلايَتِكُمْ طيباً لِخَلْقِنا، وَطَهارَةً لاِنْفُسِنا، وَتَزْكِيَةً لَنا، وَكَفّارَةً لِذُنُوبِنا، فَكُنّا عِنْدَهُ مُسَلِّمينَ بِفَضْلِكُمْ، وَمَعْرُوفينَ بِتَصْديقِنا اِيّاكُمْ).
قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat