لقد حشد المبدع (مشتاق عباس معن) في أدبه الرقمي من خلال تباريح رقمية نجاحاً بمستوى البوح الوجداني، مستخدماً التقنية في التعبير عن العاطفة بالموسيقى والصورة، جانحاً بنزوع التجديد في أفق حداثوي بمعطيات العصر.
فيما يرى د. أمجد حميد التميمي، بأن المدونة الرقمية تعتمد تقانة المدونة الرقمية من حيث تصميم الأيقونات، وآلية التعامل معها، وتتطلب أن يتم تلقيها عبر جهاز الحاسوب، إذ تُقدم محمّلة على قرص مضغوط، وإذ تظهر للمتلقي الواجهة الأولى، يجد أن هناك طريقين للولوج إلى القصيدة التي وسمها الأديب باسم: (تباريح رقمية لسيرة بعضها أزرق)، فالأول هو الخط العمودي على اليمين، ممثلا بأيقونتين، تحملان كلتاهما عبارة (اضغط فوق ضلوع البوح)، وكل منهما تحمل المتلقي إلى خيار شعري يمتاز ببوح خاص، عبر مقطع شعري يتم التوصل إلى الواجهة التي تظهره عبر النقر على إحدى الأيقونتين، غير أن النصّ القادم ليس بالضرورة هو الأخير، فهو يحيل على نصوص أخرى بما يظهر للمتلقي من أيقونات تحمل عبارات أنشئت على وفق ما هو متوقع من المتلقي من انفعالات تجاه النص السابق.
أما الطريق العمودي في الواجهة الرئيسة، فيتضمن خمس أيقونات بصف رأسي كتب عليها بالتسلسل: (أيقنت، أن، الحنظل، موت، أحمر)، وحين يمر مؤشر الحاسوب على كل أيقونة، تطلعه تلقائياً - بما في كل حاسوب من آلية التعريف والشرح - على امتداد الكلمة النصّي، فمجموع الكلمات يظهر نصاً شعرياً، وكل منها تعد رأس نص شعري آخر، يتم التوصل إليه تباعاً بتحريك المؤشر على كل واحدة، وكل نص يصل إليه المتلقي يعبّر له عن هواجسه، أو يجيب عن أسئلته المفترضة بحسب انفعاله المتوقع لتحقيق التفاعل معه عبر تسطير رقمي تقني.
إن الشاعر (الناص) قد وظف - فضلاً عن النصوص المتوالدة من بعضها باختيار المتلقي المتفاعل - شعرية اللون (ألوان الخلفيات، وألوان الحروف، وألوان اللوحات، وما تضيفه اللوحات من قيمة تعبيرية مؤثرة باتجاه تأثير النص)، وشعرية الصوت (الأناشيد التي هي عبارة عن شعر يُؤدّى مع الموسيقى، والمعزوفات الموسيقية المرافقة لعرض النصوص)، وشعرية الكتل الناطقة (الأيقونات، والمنحوتات، والخزفيات، والكتل الفنية التي تظهر صورها أمام المتلقي برفقة النصوص)، كما وظف شعرية المفارقة (ما يكشفه الشريط الإعلاني المتحرك من قرارات وأخبار تزيد من قلق المتلقي، وتحفزه نحو ضرورة التفاعل مع النصوص باتجاه أحد الخيارات التي تظهرها الأيقونات)، ولا يخفى ما يحمله الشريط الإعلاني من أثر في نفس المتلقي جلبه من وظيفته الأصلية في شاشة الأخبار.
إن الدراسات العربية المختلفة بعواصم متعددة التي سلطت الضوء على التجربة العراقية بالأدب الرقمي من خلال التكنو - مثقف (د. مشتاق) أكسبتها أهمية خاصة، شملت ما جمعه الصحفي المخضرم ناظم السعود في كتابيه، وفي حواراته المتعددة عن تلك التجربة الشعرية.
أما في قصائده المنشورة في ديوانه (الأعمال الشعرية الورقية غير الكاملة)، فالقصائد ذات الهمّ الوطني والأخلاقي والإنساني ممتلئة بالعافية، من خلال الرموز والدلالات والانزياحات والتأنص القرآني، متناولاً الهموم الابدية للأمة:
(لحيتي قصرت
حين طالت سواعد أمتي
وأخفت كفّها
في ملاذ الرقيق...!) .
فالتأويل يحمل عدة مستويات، منها التراجع، والنكوص، والرقيق، وعبودية الفرد في التاريخ، أو الراهن في مقطع جميل:
أنت تعرف أن الشتاء طويل هنا
والخريف بلا خضرة مهما طال الربيع...!
في قصيدة هائلة عن الامام الحسين (عليه السلام) يصور عظمة ذبيح الحرية إلى المذبوح بحدّ الفرات
لما أشحت عيونك
وبصرت كفّك في المدى
تلتفّ حول رماحهم... لتخونك!
صافحت كفّ الموت
... علّ دماك
تُورق في الثرى.. لتكونك
.... علّ دماك
تُوقظ في الفضا عرقاً
لينبض في فؤاد الريح
صاعقةً... تكونك
لقد استخدم شاعرنا الرائع كافة الأشكال الشعرية في الكتابة، لعل المضمون وجماليته هو أساس الإبداع الشعري وليس الشكل فحسب.... (ثنائية الافضاء):
معول إبراهيم إنكسرا
وكبير الآلهة انتصرا
وازورّت تزحف أمنية
تلعن من هاتيك القدرا
وفي (الميت) مقاصير تتوشح بلباس الجمال وبهاء السناء، تتسم بالحبكة، والأسلوبية الرفيعة، وجماليات المضمون المدهش:
زر مرقدي في غدِ
وانشر سناك الندي
لعلني في سماك
أنزع ما في يدي
الميت:
زر مرقدي في غد وانشر سناك الندي
وافتح به كل باب يا واهب الفتح
من يدي
وفي يدي
زر مرقدي...!
إن القصائد المكتظة بالأسئلة الوجودية، وصراع الانسان بين ثنائية الجمال والقبح وصخب الحياة بكل مفارقاتها الاغتراب الداخلي والخارجي، ومرارة الاستبداد، والدعوة الى النقاء والطهر، تكتظ بها مشاعر الشاعر الانسانية بديوانه وأعماله الورقية غير الكاملة.. وفي سحر الايقونة (4) مقعد حواري أمام الشاعر الرائد (مشتاق عباس معن) أجراه ناظم السعود (ص97) يسأله السعود: في إحدى محاضراتك طرحت مفهوماً خاصا عن (التواصلية)، فهل لك أن تضيء لي هذا المفهوم، وكيف تتوضح هذه التواصلية من خلال التفاعلية الرقمية؟.
-: يصف الفلاسفة المعاصرون التواصلية أنها (مبحث عابر للحدود التقليدية)، ذلك انها (رؤية نقدية للعلم والسياسة والأخلاق والتقنية، فالأخلاق في فلسفة التواصل النقدية لم تعد نهياً، ولا أمراً، ولا سلسلة محرمات وإكراهات، أو مجرد إيمان أعمى بمعتقدات ومثل وقيم، بل تخضع قواعدها للمجادلة والمحاججة المنطقية، بهدف استنباط معايير تضمن لها سبل تنظيم التواصل في المجتمع.
ختاماً.. أدعو الإنسان العربي وحكوماته ومؤسساته المختلفة بالاهتمام بالعلوم الحديثة، وأهمها تقنية الحاسوب في التعليم، الطب، الهندسة، والأدب، والفن.. فلقد انتهت الأمية الكومبيوترية، ونحن مازلنا نقبع في الأمية الحضارية.
قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat