صفحة الكاتب : نبيل محمد حسن الكرخي

ملامح من تاريخ "اليهود المسيحيين" – (3) {الملحق}
نبيل محمد حسن الكرخي

المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.

ملحق تأريخي:

لمحة من تاريخ اليهود في فلسطين في العصر الهلينستي الى القرن الثاني الميلادي

من الضروري ان نتناول لمحة من تاريخ اليهود وطبيعة المجتمع الذي كانوا يعيشون فيه. حيث ننقل ما جاء في "قصة الحضارة" ننقله بطوله لأهميته. فالغرض هو ان يكوّن القاريء فكرة عن طبيعة المجتمع اليهودي في تلك الفترة، وما هي تلك المجتمعات التي كان اليهود المسيحييون وبولس يوجهون لهم ارسالياتهم ونشاطهم التبشيري ويحاولون كسبه الى عقائدهم.

ذُكِرَ في كتاب "قصة الحضارة" ان تاريخ بلاد اليهود في العصر الهلينستي يدور "حول نزاعين: الكفاح الخارجي بين آسية السلوقية ومصر البطالمة للاستيلاء على فلسطين، والكفاح الداخلي بين أساليب الحياة الهلنية والعبرية"، والأمران مرتبطان معاً فالاحتلال الروماني لفلسطين كان يعمل على نشر الثقافة اليونانية الوثنية في المجتمع اليهودي في فلسطين، وأوجد له اعوان وتيار من المتأثرين به من قليلي التديّن، ممن يماثلون في زماننا الحاضر العلمانيين! وظهر تيار من اليهود المتدينين ممن يريدون التخلّص من كلا الأمرين أي الاحتلال الروماني والثقافة اليونانية. "كانت بلاد اليهود (أي فلسطين الواقعة جنوب السامرة) في التقسيم الأول لإمبراطورية الإسكندر من نصيب بطليموس؛ ولكن السلوقيين لم يقبلوا قط هذا التقسيم لأنهم وجدوا أنفسهم بمقتضاه منفصلين عن البحر الأبيض المتوسط، ولأنهم كانوا يطمعون فيما قد يعود عليهم من ثراء بسبب التجارة المارة بدمشق وأورشليم. وانتصر بطليموس في الحروب التي ثارت بسبب هذا النزاع، واستولى على بلاد اليهود وظلت خاضعة لسلطان البطالمة أكثر من مائة عام (318 - 198)"، وفي تلك الفترة"كان أساس اليهودية هو الدين: كما كانت فكرة وجود إله قادر تسيطر على كل ناحية من نواحي الحياة اليهودية وكل لحظة من لحظاتها. وكان مجلس الكبراء يفرض القوانين الأخلاقية والآداب الاجتماعية بجميع دقائقها. ويشرف على تنفيذها إشرافاً تاماً. وكانت أسباب اللهو والتسلية والألعاب قليلة محدودة، وكان الزواج بغير اليهود محرماً، وكذلك العزوبة وقتل الأطفال. ومن ثم كان اليهود يلدون كثيراً ويربون جميع أبنائهم، وظلوا طوال العصور القديمة يتكاثرون رغم الحروب والمجاعات حتى بلغ عددهم في الإمبراطورية الرومانية أيام قيصر سبعة ملايين. وكان معظم السكان قبل العهد المقدوني يشتغلون بالزراعة، لأن اليهود لم يكونوا قد أصبحوا بعض أمة من التجار. وقد كتب عنهم يوسفوس Josephus في ذلك العهد المتأخر، وهو القرن الأول بعد الميلاد، يقول: {لسنا شعباً تجارياً}" ... " ولم يكن للفنون عندهم شأن عدا الموسيقى فقد كانت راقية مزدهرة. وكان الناي والطبل، والصنوج و"قرن الكبش" أو البوق، والقيثارة تُستخدم مصاحبة للصوت الواحد، أو للأغاني الشعبية، أو الترانيم الدينية. وكان الدين اليهودي يعيب على الطقوس اليونانية استرسالها في الخضوع لخيال الشعب ويزدريها لهذا السبب؛ وكانت الصلة مقطوعة بينه وبين الصور، والنبوءات، ومعرفة الغيب بالنظر في أحشاء الطير. وكان أقل تجسيدا وتخريفاً، وأقل بهرجة ومرحاً من دين اليونان. وكان الربانيون يواجهون طقوس الشرك الهلنية بإنشاد هذه النغمة التي لا تزال تتردد حتى اليوم في كل كنيس يهودي: {استمعي يا إسرائيل: الرب إلهنا، الرب واحد}"، ثم بدأ الغزو اليوناني الثقافي لتلك البلاد في ظل الصراع بين البطالمة والسلوقيين للسيطرة على فلسطين، "وأدخل الغزاة اليونان في هذه الحياة البسيطة المتزمتة كل ما في الحضارة المهذبة الأبيقورية من أسباب اللهو والغواية. وقد كان يحيط ببلاد اليهود حلقة من المستقرات والمدن اليونانية: السامرة، ونيوبوليس، وغزة، وعسقلان، وأزوتس Azotus (أشرود) وجبا Joppa ( يافا)، وأبولونيا Appollonia، ودوريس Dorisa، وسكمينا Sycamina، وبوليس Polis ( حيفا) وأكو (عكا). وكان على الضفة الأخرى من نهر الأردن عصبة من عشر مدن يونانية: هي دمشق، وجدارا Gadara، وجراسا Gerasa، وديوم Dium، وفلدلفيا، وبلا Pella، ورافيا Raphia، وهبو Hippo، واسكيثوبوليس Csythopolis، وكنيثا Canetha. وكانت تقوم في كل واحدة من هذه المدن نظم ومؤسسات يونانية وهياكل للآلهة والإلهات اليونانية، ومدارس، ومجامع علمية، ومدارس وساحات للألعاب الرياضية، وألعاب يشترك فيها الناس وهم عراة. وأقبل على أورشليم من هذه المدن ومن الإسكندرية، وأنطاكية، وديلوس، ورودس يونان ويهود يحملون العدوى الهلينية، عدوى التبحر في العلم والفلسفة، والفن، والأدب، والاستمتاع بالجمال واللذة، والغناء، والرقص، والشراب، والطعام، والألعاب الرياضية، والعشيقات، والغلمان؛ فضلاً عن السفسطة المرحة، التي ترتاب في جميع القوانين الأخلاقية، والتشكك الذي قضى على كل عقيدة في خوارق الطبيعة. وهل يستطيع الشاب اليهودي أن يقاوم هذه المغريات، التي تدعوه إلى الاستمتاع باللذة وإلى التحرر من آلاف القيود الضيقة الثقيلة؟ لقد بدأ الشبان اليهود الفكهون يسخرون من الكهنة ويصفونهم بأنهم طلاب مال، كما يصفون الأتقياء من أتباعهم بأنهم حمقى، ينحدرون إلى الشيخوخة من غير أن يعرفوا الملاذ والترف ومباهج الحياة. وانضم إليهم في هذا أغنياء اليهود، لأنهم كانوا يستطيعون أن يستجيبوا لداعي الغواية. وأحس اليهود الذين كانوا يطلبون المناصب من الموظفين اليونان بأن من حسن السياسة أن يتكلموا اللغة اليونانية، وأن يعيشوا كما يعيش اليونان، بل أن يقولوا بضع كلمات طيبة في حق الآلهة اليونانية. وكانت ثلاث قوى تحمي اليهود من هذا الهجوم القوي على عقلهم وحواسهم! هي ما وقع عليهم من الاضطهاد أيام أنتيوخوس الرابع، وحماية رومة، وسلطان القانون وهيبته لأنه كان في اعتقاد اليهود وحياً منزلاً من عند ألله"، وفي المقابل فقد تشكلت جماعة من اليهود المتدينين اطلقوا على أنفسم أسم {المتّقين} حوالي سنة 300ق.م. حاولت ان تظهر نموذجاً للالتزام الديني في المجتمع اليهودي، فتعاهدوا على "عهد بسيط قيدوا به أنفسهم أن يمتنعوا عن شرب الخمر زمناً معيناً؛ ثم ذهبوا فيما بعد مدفوعين بسيكولوجية الحرب المحتومة إلى أبعد حدود التزمت، فحرّموا جميع الملاذ الجسمية وعدوها استسلاماً للشيطان واليونان. وعجب منهم اليونان أشد العجب وضموهم إلى زمرة الفلاسفة الزاهدين العرايا العجيبين الذين التقت بهم جيوش الإسكندر في بلاد الهند. وحتى اليهودي العادي نفسه كان يعارض في تزمت جماعة المتقين الشديد ويبحث لنفسهِ عن خطة وسطى بين التزمت والإباحية، ولعله هو وأمثاله كان يستطيع أن يجد هذا الحل الوسط لولا أن أنتيوخوس إيفانيز حاول أن يقحم الهلنية في بلاد اليهود بالإقناع تارة وبالسيف تارة أخرى. وظلت بلاد اليهود تابعة لمصر حتى عام 198 حين هزم أنتيوخوس الثالث بطليموس الخامس وضمها إلى الإمبراطورية السلوقية"، ونتيجة لسياسة أنتيوخوس في فرض الثقافة اليونانية على اليهودية فقد وقف اليهود الى جانب السلوقيين في حربهم ضد البطالمة. و"ظلت بلاد اليهود تابعة لمصر حتى عام 198 حين هزم أنتيوخوس الثالث بطليموس الخامس وضمها إلى الإمبراطورية السلوقية. وكان اليهود قد ملوا حكم المصريين فأعانوا أنتيوخوس ورحبوا باستيلائه على أورشليم وتحريرهم من حكامهم؛ ولكن خلفه أنتيوخوس الرابع[1] لم يرَ في بلاد اليهود إلى أنها مصدر للإيراد؛ وكان وقتئذ يستعد لحروب عوان تتطلب الكثير من الأموال، فأمر اليهود أن يؤدوا إلى خزانة الدولة ثلث محصولاتهم من الحبوب، ونصف ما تُثمره أشجار الفاكهة. ثم عين جيسن المعروف بتذلُّلِهِ وملقه حاخاماً أكبر، وتجاهل في هذا التعيين ما جرت به العادة من توارث هذا المنصب الديني. وكان جيسن هذا يمثل الحزب القائم في أورشليم والذي ينادي بفرض الثقافة الهلنية على بلاد اليهود، ويطلب الإذن بإقامة النظم اليونانية في تلك البلاد. وأصغى أنتيوخوس إلى مطالبه وهو فرح مستبشر لأن اختلاف الطقوس الدينية الشرقية في بلاد آسية اليونانية وقوة هذه الطقوس كانا يقلقان باله إذ كان يحلم بتوحيد إمبراطوريته المتعددة اللغات والأجناس بإخضاعها كلها لشريعة واحدة وعقيدة واحدة. ولما أن أبطأ جيسن في العمل للوصول إلى هذه الغاية عين أنتيوخوس بدلاً منه منلوس، بعد أن وعده بأكثر مما وعده بهِ سلفه ونفحه برشوة أكبر. وتوحد يهوة وزيوس على يدي منلوس، وبيعت آنية المعابد للحصول على المال، وقربت بعض الجماعات اليهودية القرابين إلى الآلهة الهلنية. واُفتتحت في أورشليم مدرسة للرياضة البدنية، واشترك شباب اليهود والكهنة أنفسهم وهم عراة في الألعاب الرياضية. "وبلغ من تحمس بعض الشبان اليهود للهلنية أن تحملوا جراحات في أجسامهم ليعالجوا بها بعض العيوب التي قد تكشف عن أصلهم"[2]. وارتاعت كثرة الشعب اليهودي من هذه التطورات وأحست أن دينها يكاد ينهار من أساسه، فانحازت إلى آراء المتقين؛ ولما أن طرد بوبليوس أنتيوخوس الرابع من مصر، شاع في أورشليم أنه قُتل، فاغتبط اليهود بالنبأ، وخلعوا الموظفين المعينين عليهم من قبله، وقتلوا زعماء الحزب الذي كان يدعوا إلى الثقافة الهلينية، وطهروا الهياكل مما كانوا يرونه منكراً أو كفراً. لكن أنتيوخوس لم يكن قد مات، بل هُزم وذُلَ وأصبح فقيراً معدماً؛ وقد أيقن أن اليهود كانوا سبباً في هزيمته في مصر وأنهم كانوا يأتمرون ليعيدوا بلادهم إلى البطالمة، فعاد إلى أورشليم وذبح آلافاً من اليهود رجالهم ونسائهم، ودنس الهيكل ونهبه، وصادر مذبحه الذهبي وآنيته وكنوزه وضمها إلى الخزائن الملكية، وأعاد إلى منلوس سلطته العليا، وأمر أن يثقف اليهود كلهم على الرغم منهم بالثقافة الهلينية، وأن يعود الهيكل كما كان ضريحاً مقدساً لزيوس، وأن يقام مذبح يوناني فوق المذبح القديم، وأن يُستبدل بالقرابين القديمة قربان من الخنازير. ثم حرم تقديس السبت والاحتفال بالأعياد اليهودية، وجعل الختان جريمة يُعاقب عليها بالإعدام، وحُرمت جميع مراسم الدين اليهودي في جميع أنحاء بلاد اليهود، وألزم الأهلون باتباع المراسم اليونانية، وعوقب من يخالف هذه الأوامر بالإعدام. وكان كل من يأبى من اليهود أن يأكل لحم الخنزير وكل من يوجد عنده كتاب الشريعة يُسجن أو يُقتل، وأمر أن يُحرق هذا الكتاب أنى وجد. وأشعلت النار في أورشليم نفسها، وهُدمت أسوارها، وبيع سكانها اليهود في أسواق الرقيق[3]، وجيء بالأجانب ليُقيموا في مواضعها، وشيد حصن جديد على جبل صهيون، ووضعت فيه حامية من الجند لتحكم المدينة باسم الملك. ويبدو أن أنتيوخوس سعى في بعض الأوقات لأن يجعل نفسه إلهاً، وأنه طلب إلى الناس أن يتخذوه إلهاً يعبدونه. وزاد الاضطهاد شدة على مر الزمن. ذلك أنه يوجد دائماً في كل مجتمع أقلية فطرت على الابتهاج إذا أذن لها بالاضطهاد، لأنها ترى في هذا الاضطهاد انطلاقاً من قيود الحضارة. وكان عملاء أنتيوخوس من هذه الأقلية، فأنهم بعد أن قضوا على جميع مظاهر اليهودية في أورشليم انطلقوا انطلاق اللهب يبحثون عن هذه المظاهر في المدائن والقرى: وكانوا أينما حلوا يخيرون الأهلين بين الموت والاشتراك في العبادات الهلنية وما تتضمنه من أكل لحم الخنازير المذبوحة على النصب. وأغلقت جميع الهياكل والمدارس اليهودية، وعُد جميع من يأبون الاشتغال في يوم السبت عصاة خارجين عن القانون. وأرغم اليهود في عيد باخوس أن يزينوا باللبلاب كاليونان أنفسهم، وأن يشتركوا في المواكب، وأن يُنشدوا الأناشيد الهمجية تكريماً لديونيشس. وصدع الكثيرون من اليهود بما أمروا به، وترقبوا أن تمر العاصفة، وفر كثيرون غيرهم إلى الكهوف أو المعاقل الجبلية النائية، وعاشوا على ما يلتقطونه خلسة من الحقول، وثبتوا على ممارسة أساليب الحياة اليهودية. وأخذ "المتقون" يطوفون بهم يدعونهم إلى الشجاعة والمقاومة. وعثرت شرذمة من جنود الملك على كهوف آوى إليها آلاف من اليهود-رجال ونساء وأطفال- فأمروهم بالخروج؛ فلما عصوا أمر الجنود وأبوا كذلك أن يزيلوا ما عساه أن يكون في مدخل الكهوف من الحجارة، لأن اليوم كان يوم السبت، أعمل فيهم الجنود النار والسيف، وقتلوا كثيرين من اللاجئين، واختنق الباقون بالدخان. وفي المدن قبض على النساء اللائي ختن من ولدن حديثاً من الأطفال وألقين هن وأطفالهن من فوق الأسوار. وما كان أشد دهشة اليونان من استمساك الأهلين بدينهم القديم، وذلك أنهم لم يروا من عدة قرون مثل هذا الإخلاص للرأي والاستمساك بالعقيدة. وكانت قصص الاستشهاد تتناقلها الألسن وتملأ بها الكتب، فضربت للمسيحيين أمثلة صادقة في الاستشهاد والشهداء. وهكذا أضحت اليهودية ديناً وقومية وثبتت قواعدها وتأصلت جذورها وآثرت العزلة لتحتمي بها من أعدائها".

كل هذه الاضطهادات لليهود في القرن الثاني ق.م أدى الى ظهور متاثياس Mattathias من أسرة هزموناي Hasmonai من سبط هارون-وأبناؤه الخمسة يوهنان كاديس، وسيمون، وبوداس، والبزر، ويوناثان، وكيفية تأسيس دولة المكابيين اليهودية في فلسطين، ودخول بوداس المعروف باسم مكابي أورشليم "فلما دخلها أخرج ما كان في الهيكل من مذابح وزينات وثنية وطهره ودشنه من جديد، وأعاد الصلوات القديمة إلى سابق عهدها وسط مظاهر الابتهاج من اليهود العائدين المستمسكين بالدين" ... "وينتقمون من الحزب المشايع لليونان في أورشليم وفي المدن المجاورة للحدود. وفي عام 161 هزم بوداس نكانور Nicanor عند أداسا Adasa نفسه بأن عقد حلفاً مع رومة، ولكنه قُتل في تلك السنة نفسها وهو يحارب جيشاً أقوى من جيشه عند إلاسا Elasa. وواصل أخوه يوناثان الحرب بشجاعة عظيمة ولكنه قُتل هو الآخر عند عكا (143). ولم يبق بعدئذ من الأخوة الخمسة إلا سيمون، وقد استطاع بمعونة رومة أن ينال من دمتريوس الثاني في عام 142 اعترافاً باستقلال بلاد اليهود. وعين سيمون بمرسوم شعبي حاخاماً أكبر وقائداً عسكرياً، وإذ كان هذان المنصبان قد أصبحا وراثيين في هذه الأسرة فقد أضحى هو مؤسس الأسرة المالكة الهزمونية Hasmonean، وعدت أول سني حكمه بداية التاريخ الجديد، وصدرت عملة تعلن مولد الدولة اليهودية الجديدة"[4]. و"انتهز سيمون مكابي في عام 143 ق. م فرصة النزاع القائم بين البارثيين، والسلوقيين، والمصريين، والرومان، فانتزع استقلال بلاد اليهود من أيدي الملوك السلوقيين. واختارته جمعية وطنية قائداً وكاهناً أعلى للدولة اليهودية الثانية (142 ق. م- 70م)، وجعلت ثاني المنصبين وراثياً في أسرته الهسمونية، وصارت بلاد اليهود مرة أخرى دولة دينية تحكمها هذه الأسرة أسرة الكهنة- الملوك، ذلك أن من أخص خصائص المجتمعات السامية ارتباط السلطتين الروحية والزمنية في الأسرة وفي الدولة لأنها تأبى أن يكون لها سيد إلا الله وحده. وأدرك الهسمونيون ضعف مملكتهم الصغيرة فقضوا جيلين كاملين يوسعون حدودها بالدبلوماسية تارة وبالقوة تارة أخرى، فلم يحل عام 78 ق. م حتى كانوا قد ضموا إليهم السامرة رإدون، ومؤاب، والجليل، وإدوميا، وما وراء نهر الأردن، وجدارا، وبلا، وجراسا، ورافيا (رفح)، وغزّة، ووسعوا حدود فلسطين إلى ما كانت عليه في عهد سليمان. وفرض خلفاء هؤلاء المكابيين البواسل الذين قاتلوا دفاعاً عن حريتهم الدينية الدين اليهودي والختان على رعاياهم الجدد بحد السيف. وفقد الهسمونيون في الوقت نفسه غيرتهم الدينية، واستسلموا شيئاً فشيئاً لما كان في العناصر التي ضموها إلى بلادهم من نزعة هلنستية رغم احتجاج الفريسيين الشديد[5]. ونتيجة صراعات داخلية على السلطة في عهد المكابيين استعان احد الاطراف بالقائد الروماني بمبي[6]" وكان وقتئذ واقفاً على رأس فيالقه المنتصرة في دمشق (63 ق. م)"، "ويقول المؤرخون إن تقواهم أعانت بمبي على هزيمتهم، فقد شاهد أنهم لا يحاربون في يوم سبتهم، فأمر رجاله بأن يُعدوا في كل سبت الربا والكباش الهدّامة التي سيستخدمها في اليوم التالي، ولم يكونوا يلقون مقاومة من اليهود في ذلك الاستعداد، بل كان الكهنة يقضون يومهم في الهيكل يبتهلون ويُقربون القرابين كعادتهم في كل الأوقات. فلما أن تهدّمت الأسوار ذبح من اليهود اثني عشر ألفاً، ولم يقاوم منهم إلا عدد قليل، ولم ينجُ منهم أحد، وقفز الكثيرون من فوق الأسوار فلاقوا حتفهم. وأمر بمبي رجاله بألا يمسّوا ما في الهيكل من كنوز، ولكنه فرض على الأمّة اليهودية غرامة قدرها عشرة آلاف وزنة (3600000 ريال أمريكي[7])، ونقلت المُدن التي كان الهسمونيون قد فتحوها من حكم اليهود إلى حكم الرومان، ونصب سركانس الثاني حاخاماً أعظم، وحاكماً بالاسم على بلاد اليهود ولكنه كان في حراسة أنتباتر الإيدوميني الذي أعان روما في هذه الحرب. وهكذا قضى على المملكة المستقلة وأصبحت بلاد اليهود جزءاً من ولاية سوريا الرومانية"! وبينما كان القائد الروماني "كراسس[8] في طريقه إلى طشقونة في عام 54 ق. م"، "نهب ما أبقى عليه بمبي من كنوز الهيكل، وكان يبلغ مقدارها عشرة آلاف وزنة"، ولما قُتِلَ كراسس "اغتنم اليهود هذه الفرصة ليستعيدوا حريتهم، ولكن لنجينس الذي عُين والياً على سوريا بعد كراسس أخمد الثورة وباع ثلاثين ألفاً من اليهود في أسواق الرقيق (43 ق. م)[9]". وبعد صراع قصير بين البارثيين (حكّام مناطق ايران والعراق) والرومان، سيطر هيرود بن أنتباتر الذي عيّنه الرومان ملكاً على بلاد اليهود، مع جيشه اليهودي الذي اعانه الرومان بالأموال. "فطرد هيرود البارثيين من البلاد وحمى أورشليم من السلب والنهب، وأرسل أنتجونس إلى أنطونيوس ليعدمه، وذبح جميع زعماء اليهود الذين عاونوا الملك الصوري، وتهيأت له بذلك أسباب حكم يُعَد من أكثر العهود إشراقاً في التاريخ (37 - 4 ق. م)"[10].

وتحت عنوان (الفصل الثالث- هيرود الأكبر) تحدث كتاب "قصة الحضارة" كيف ان هيرود: "استبدل بفوضى الحرية نظاماً دكتاتورياً، وجمّل عاصمته بالمباني والتماثيل اليونانية الطراز، ووسّع رقعة مملكته، ونشر فيها الرخاء، والكسبة بالختل والسياسة أكثر مما كسبه من قوة السلاح، وتزوج كثيراً من النساء" ... " كما أنَّه فرض الضرائب الثقيلة على الشعب في مقابل تحقيق الأمن وانقاذ البلاد من القحط وكوارث عديدة، وعمل على نشر الثقافة والفكر اليوناني في المجتمع اليهودي، فـ"أثار غضب الشعب بفساد أخلاقه، وقسوته في العقاب، وموت أرستبولس حفيد هركانس الثاني والوارث الشرعي لعرش البلاد غريقاً "مصادفة" في الحمام. وأخذ الكهنة الذين قضى على سلطتهم، والذين عين هو رؤساءهم، يأتمرون به، وحدّ عليه الفريسيون لما بدا من أنه يعتزم صبغ بلاد اليهود بالصبغة اليونانية. ذلك أن هيرود كان يحكم كثيراً من المُدن التي كانت يونانية أكثر منها يهودية في سكانها وثقافتها؛ وقد تأثر بما تمتاز به الحضارة الهلنية من رقة وتنوّع؛ هذا إلى أنه لم يكن يهودياً في أصله أو مؤمناً بهذا الدين عن عقيدة؛ وقد دعا هذا كله بطبيعة الحال إلى العمل على توحيد ثقافة مملكته، وخلع مظاهر الروعة والجلال على حكمه بتشجيع أساليب الحياة والملابس، والأفكار، والآداب، والفنون اليونانية. وقد أحاط نفسه بالعلماء اليونان، وعهد إليهم الإشراف على الشؤون العليا في الدولة، وعيّن نقولاس الدمشقي، وهو رجل يوناني، مستشاره ومؤرّخه الرسمي. وقد أنشأ في أورشليم داراً فخمة للتمثيل ومدرجاً زينهما بتماثيل لأغسطس وغيره من الوثنيين، وأنفق في ذلك أموالاً طائلة، وأدخل في بلاده الألعاب الرياضية والمباريات الموسيقية اليونانية، وصراع المجتلدين الروماني، وجمّل أورشليم بمبانٍ أخرى على طراز معماري بدا للشعب أنه طراز أجنبي، وأقام في الأماكن العامة تماثيل يونانية أثارت دهشة اليهود وغضبهم بعريها كما أثار غضبهم عري المصارعين في الألعاب الرياضية. وقد شاد لنفسه قصراً أقامه بلا ريب على الطراز اليوناني وملأه بالذهب والرخام والأثاث الفخم الثمين، وأحاطه بحدائق واسعة محتذياً في ذلك حذو أصدقائه الرومان. وقد صدم مشاعر الشعب بقوله إن الهيكل الذي شاده زرب بابل منذ خمسة قرون كان ضيقاً، وإنه يعتزم أن يهدمه ويقيم في مكانه هيكلاً أوسع منه. ولم يبالِ باحتجاج الأهلين ومخاوفهم، وحقق رغبته بأن أقام المعبد الفخم الذي دمّره تيتس فيما بعد"، و"استغرق بناء الأجزاء الرئيسية من هذا الصرح التاريخي ثمانية أعوام. أما أعمال نقشه وتزيينه فقد ظلت قائمة ثمانين عاماً، ولم تتم إلا قبيل مجيء فيالق تيتس. وكان الناس يفخرون بهذا الهيكل العظيم الذي كان يعد من عجائب العالم عهد أغسطس، وكادوا لعظمته وبهائه يتجاوزون عن وجود عمده الكورنثية القائمة عند أبوابه، وعن النسر الذهبي الذي يتحدى عقيدة اليهود في تحريم الصور المنحوتة، والذي كان يرمز عند مدخل الهيكل لروما عدوة اليهودية وسيدتها. وكاد اليهود العائدون إلى مدائن فلسطين ينقلون أنباء العمائر اليونانية الخالصة التي كان هيرود يحدد بها تلك المدائن، وكيف ينفق أموال الأمة والذهب (كما تقول الشائعات) الذي كان مخبوءاً في قبر داود في إنشاء مرفأ عظيم عند قيصرية، وفي إهدائه بسخاء للمُدن الأجنبية أمثال دمشق، وببلوس، وبيروت، وصور، وصيدا، وإنطاكية، ورودس، وبرجموم، وإسبارطة، وأثينة. واتضح لهم أن هيرود يريد أن يكون معبود العالم اليوناني لا ملك فحسب، ولكن اليهود كانوا يعيشون بدينهم، وبإيمانهم بأن يهوه سينقذهم من الرق والظلم في يوم من الأيام؛ ومن أجل هذا كان انتصار الروح الهلنية على الروح العبرانية في شخص حاكمهم نذيراً لهم بكارثة مدلهمة لا تقل عما حل بهم من الاضطهاد على يد أنتيخس. ولذلك أخذوا يحيكون المؤامرات لقتل هيرود، وكشف هو هذه المؤامرات وقبض على المشتركين فيها وعذّبهم وقتلهم، ولم يكتفِ بقتلهم وحدهم بل قتل أسرهم كلها في بعض الأحيان. وأطلق عيونه بين الشعب وتخفى ليتجسس بنفسه على رعاياه، وكان يعاقبهم على كل كلمة تشتم منها رائحة العداة له. واستطاع أن يرد كيد أعدائه في نحورهم عدا كيد أزواجه وأبنائه. وكان له من الأزواج عشرة اجتمعت منهن تسع في وقت واحد، أما الأبناء فكان له منهم أربعون".

وفي عهد هيرود هذا ولد السيد المسيح (عليه السلام) بناءاً على ما ذكره الأب بولس الفغالي من ان المسيح وُلِدَ سنة 5 أو 6 قبل الميلاد[11]!

وتحت عنوان (الفصل الرابع- الشريعة وأنبياؤها) في "قصة الحضارة" نقرأ كيف أنَّه بعد وفاة هيرود تمّ تقسيم فلسطين بين ابنائه الثلاثة، وهذا الامر مفيد أيضاً لفهم أجواء قصة المسيح في العهد الجديد، فنقرأ: (أوصى هيرود قبل وفاته أن تقسم مملكته بين أبنائه الثلاثة الباقين أحياء. فحكم فيليب الإقليم الشرقي المعروف باسم بنتانيا Bantanea، الذي يحتوي على مدائن بيت سيده، وكبتولياس، وجراسا، وفلدلفية، وبصرى. وحكم هيرود أنتيباس بيريا Peraea ( الأرض الواقعة وراء نهر الأردن)، والجليل في الشمال حيث توجد أزدريلا، وطبرية، والناصرة. وكان نصيب أركلوس سمريتس، وغيدوميا، ويهوذا. وكان في هذا القسم الأخير كثير من المُدن والبلدان الشهيرة أمثال بيت لحم، وحيرون، وبير سبع، وغزّة، وجدارا، وإموس، ويمنيا، ويافا، وقيصرية، وأريحة، وأورشليم).

 

انقسام المجتمع اليهودي قوميّاً وثقافياً: و"كانت بعض المُدن الفلسطينية تغلب عليها الصبغة اليونانية، وبعضها تغلب عليه الصبغة السورية"... "وكان الوثنيون هم الكثرة الغالية في المُدن الساحلية ما عدا يافا، ويمنيا في "المدن العشر" القائمة على شاطئ نهر الأردن، أما في الداخل فيكاد السكان أن يكونوا كلهم من اليهود. وكان هذا الانقسام العنصري، غير المحبب إلى روما، مأساة فلسطين. وإذا أردنا أن نفهم سبب اشمئزاز اليهود الصالحين من شرك المجتمع الوثني وما كان يسوده من فساد خلقي فعلينا أن نرجع إلى زمن المتطهّرين المتزمّتين في إنكلترا. لقد كان الدين عند اليهود مصدر شريعتهم، ودولتهم، وآمالهم؛ وكانوا يظنون إنهم إذا رضوا أن يذوب هذا الدين في نهر الهلنية الجارف كان هذا بمثابة انتحار لقوميتهم؛ ومن ثم نشأت تلك البغضاء بين اليهود وغير اليهود حتى جعلت تلك الأمّة الصغيرة تقضي حياتها كلها في نزاع عصري واضطراب سياسي وحروب متقطّعة، تخبو نارها كلها تارة ثم تعود فتلتهب من جديد. يُضاف إلى هذا أن يهود يهوذا كانوا يحتقرون أهل الجليل ويصفونهم بالمروق من الدين، بينما كان أهل الجليل يحتقرون أهل يهوذا ويصفونهم بأنهم أرقّاء وقعوا في شراك أهل الشريعة. هذا إلى ما كان هناك من نزاع لا ينقطع بين أهل يهوذا والسامريين لأن هؤلاء يدعون أن يهوه لم يختر صهيون موطناً له بل اختار موطنه تل جرزين الواقع في بلادهم، وإلى رفضهم جميع أسفار الكتاب المقدّس ما عدا أسفار موسى الخمسة. وكان الذي يجمع بين هذه الأحزاب كلها هو كراهيتها لسيطرة الرومان، التي كانت تتقاضى من البلاد ثمناً باهظاً نظير ميزة السلم غير المحببة إليهم". هكذا كان المجتمع اليهودي في بلاد فلسطين مقسّماً الى يهود ووثنيين، متدينين باليهودية ومنجرفين وراء الثقافة اليونانية، ونفس اليهود كانوا منقسمين الى اهل يهوذا والسامريين! واهل يهوذا منقسمين ايضا الى اربعة طوائف: الصدوقيين والفريسيين والاسينيين والكتبة. "وكان يسكن فلسطين وقتئذ نحو مليونين ونصف مليون من الأنفس يقيم منهم في أورشليم وحدها نحو مائة ألف. وكان معظمهم يتكلمون اللغة الآرامية وكان كهنتهم وعلمائهم يفهمون العبرية؛ أما الموظفون والأجانب ومعظم المؤلّفين فكانوا يستعملون اللغة اليونانية.

الطوائف اليهودية الرئيسية الاربع: "وكان في الجمعية حزبان يتنازعان السيطرة عليها، كما يتنازعان السيطرة على معظم الجمعيات الأخرى، أحدهما حزب المحافظين الذين يتزعمهم كبار الكهنة والصدوقيون، والذين سموا بهذا الاسم نسبة إلى صدوق مؤسس هذه الطائفة وكان أعضاؤه وطنيين في مبادئهم السياسية، مستمسكين بدينهم، ينادون بفرض التوراة أو الشريعة المكتوبة على الأمّة اليهودية، ولكنهم كانوا يرفضون ما عدا هذا من العقائد أمثال الأحاديث والقصص الشفوية التي يتناقلها رجال الدين، والتفاسير الطليقة التي يقول بها الفريسيون. وكانوا يرتابون في خلود الروح، ويقنعون بامتلاك طيبات هذا العالم).

وقال عن الفريسيين: "وكان الصدوقيون هم الذين سموا الفريسيين بهذا الاسم (البروشم أي الانفصاليين)، ويقصدون بهذه التسمية أنهم قد فصلوا أنفسهم (كما انفصل البراهمة الصالحون) عن الذين تدنسوا بإهمال ما تفرضه عليهم طقوس التطهير وكانوا هم حلفاء الكسديم أو نسّاك العصر المكابي الذين كانوا ينادون بوجوب التزام قواعد الشريعة الموسوية إلى أبعد الحدود. وقد عرّفهم يوسفوس، وهو منهم، بأنهم "شيعة من اليهود يجهرون بأنهم أكثر استمساكاً بالدين من سائر أبناء ملّتهم، وبأنهم أدق من غيرهم في تفسير شرائعهم". ولكي يصلوا إلى ما يبغونه من هذا التفسير الدقيق أضافوا إلى أسفار موسى الخمسة المكتوبة الأحاديث والروايات الشفوية المشتملة على التفسيرات والأحكام التي وردت على ألسنة معلمي الشريعة المعترف بهم[12]. ويرى الفريسيون أن هذه التفاسير ضرورية لإزالة ما في قوانين موسى من غموض، ولبيان طريقة تطبيقها على الحالات الفردية، ولتعديل حرفيتها في بعض الأحيان حسب ضروريات الحياة وظروفها الدائمة التغير. وقد جمع هؤلاء الناس بين الصرامة واللين، فكانوا يخففون من صرامة الشريعة في بعض المواضع كما فعلوا في أوامر هلل الخاصة بالربا، ولكنهم كانوا يحتّمون على الناس أن يتقيّدوا بالروايات الشفوية كما يتقيّدون بالتوراة المنزّلة نفسها. ذلك أنهم كانوا يحسون بأن لا نجاة لليهود من انقراضهم وامتصاص الشعوب الأخرى لهم إلا بإطاعة هذه الأوامر المطوّرة والمتواترة. وإذ كان الفريسيون قد ارتضوا أن يخضعوا لسلطان الرومان فقد كانوا يطلبون السلوى فيما يأملونه من الخلود الجثماني والروحي. وكانوا يحيون حياة بسيطة، يبتعدون فيها عن الترف وينددون به، ويكثرون من الصوم، ويعنون بالاغتسال، ويتباهون من حين إلى حين باستمساكهم بالفضيلة مباهاة تضايق السامعين. ولكنهم كانوا يمثلون قوة اليهود الأخلاقية، وقد نالوا تأييد الطبقات الوسطى، وغرسوا في نفوس أتباعهم إيماناً وأحكاماً أنقذتهم من الانحلال والتضعضع حين ألمّت بهم المصائب. ولما أن خرب الهيكل (70م) فقد الكهنة نفوذهم، وأصبح الفريسيون عن طريق الأحبار هم المعلمين والرعاة لذلك الشعب الذي تشتت في بقاع الأرض ولكنه لم تحق به الهزيمة".

وجاء عن الأسينيين الغنوصيين: (وكانت أكثر شيع اليهود تطرفاً شيعة الإسينية التي أخذت تقواها عن الكسديمية، وأكبر الظن أن اسمها مشتق من اللفظ الكلدي أسشاي Aschai ( المستحم)، وأن أعضاءها أخذوا عقائدهم وعباداتهم من نظريات الزهّاد ونظمهم التي كانت منتشرة في العالم في القرن الأول قبل المسيح. ولعلهم قد تأثروا أيضاً بآراء البراهمة، والبوذيين، والمجوس عبدة النار، والفيثاغوريين، والكلبيين، وهي جاءت إلى أورشليم ملتقى الطرق التجارية في غرب آسية. وكان عددهم في فلسطين يبلغ أربعة آلاف، وقد نظموا أنفسهم في هيئة مستقلة عن غيرها، وكانوا يستمسكون أشد الاستمساك بالشريعة المكتوبة وغير المكتوبة ويعيشون معاً عيشة العزّاب الزاهدين، يزرعون الأرض في واحة إنجادي Engadi وسط الصحراء الواقعة غرب الميّت. وكانوا يسكنون منازل تمتلكها الجماعة التي ينتسبون إليها، ويطعمون مجتمعين وهم صامتون، وينتخبون زعماءهم بالاقتراع العام؛ ويخلطون متاعهم ومكاسبهم في بيت مال مشترك، ويعملون بالشعار: "مالي ومالك ملك لك". ويقول يوسفوس إن حياة الكثيرين منهم كانت تطول أكثر من مائة عام، بفضل طعامهم البسيط، وحياتهم المنتظمة. وكان الرجل يلبس ثياباً من نسيج التيل الأبيض، ويحمل معه فأساً صغيرة ليغطي بها فضلاته، ويغتسل بعدها كما يغتسل البراهمة، ويرى أن التبرّز في يوم السبت من أعظم الكبائر. وكانت قلة منهم تتزوج وتعيش في المُدن العامرة، ولكنهم كانوا يسيرون على القاعدة التي وضعها تولستوي وهي أنهم لا يضاجعون أزواجهم إلا بقصد إنجاب الأطفال. وكان أعضاء هذه الشيعة يبتعدون عن جميع الملذات الجسمية، ويسعون إلى الاتصال الصوفي بالله عن طريق التأمل والصلاة. وكانوا يأملون أن ينالوا بتقوى الله وبصيامهم واستغراقهم في التأمل والتفكير علم الغيب وقوة السحر. وكانوا كمعظم معاصريهم يؤمنون بالملائكة، والشياطين، ويعتقدون أن المرض ناشئ من تسلّط الأرواح الخبيثة على الآدميين، فكانوا لذلك يحاولون طرد هذه الأرواح بالتعاويذ السحرية. ومن "عقيدتهم السرية" جاءت بعض "أجزاء القبلة". وكانوا ينتظرون نزول المسيح لينشئ على الأرض مملكة شيوعية سماوية (ملسوس شمايم) يتمتع الناس كلهم فيها بالمساواة، ولا يدخلها إلا من كانت حياته تقية طاهرة. وكانوا شديدي التحمّس في الدعوة إلى السلام، يأبون أن يصنعوا شيئاً من أدوات الحرب؛ غير أنهم انضموا إلى غيرهم من الشيَع اليهودية في الدفاع عن مدينتهم وهيكلها حين هاجمت فيالق تيتس بيت المقدس والهيكل، وظلوا يقاتلون حتى لم يكد يبقى منهم أحد. وإذا ما قرأنا وصف يوسفوس لعاداتهم وآلامهم وجدنا أننا قد دخلنا في جو المسيحية: "ومع أنهم قد عُذبوا، وحُرقوا، وقُطّعت أجسامهم، ولاقوا جميع ألوان العذاب لكي يُرغَموا على التجديف في حق صاحب شريعتهم، أو أكل ما نهوا عن أكله، فإنهم أبوا أن يفعلوا هذا أو ذاك؛ أو أن يتملّقوا معذّبهم، أو تنحدر من أعينهم دمعة واحدة، بل إنهم كانوا يتبسّمون وسط آلامهم المبرحة، ويضحكون ساخرين ممن يعذبونهم، ويجودون بأرواحهم وهم مبتهجون، كأنهم يتوقعون أن تعود لهم هذه الأرواح مرة أخرى".

أولئك هم الصدوقيون، الفريسيون، والإسينيون، أشهر الشيع الدينية اليهودية في الجيل السابق لميلاد المسيح".

وقال عن الكتبة: (أما الحكمون ( Scribes) الذين يضمهم يسوع إلى الفريسيين في كثير من الأحيان فلم يكونوا شيعة من شيع اليهود بل كانوا أبناء مهنة خاصة؛ كانوا علماء متفقّهين في الشريعة، يحاضرون فيها في البيَع، ويعلمونها في المدارس، ويناقشونها في المجتمعات العامة والخاصة، ويطبقونها على الأحكام في القضايا المختلفة. وكان عدد قليل منهم أحباراً، وبعضهم صدوقيين، وكثرتهم فريسيين. وكانوا في القرنين السابقين لهلل كما كان الأحبار من بعده. كانوا هم فقهاء القانون في بلاد اليهود، وقد صارت فتاواهم القانونية، التي صفاها الزمان، وتداولتها الألسن، وانتقلت بالسمع من المعلم إلى التلميذ، صارت هذه الفتاوى جزءاً من الأحاديث الشفوية التي كان يعظمها الفريسيون كما يعظمون الشريعة المكتوبة، وبفضل ما كان لهم من نفوذ وسلطان نمت شرائع موسى حتى ضمت آلافاً من التعاليم المفصلة التي تواجه كل ظروف الحياة وأحوالها. وأقدم شخصية واضحة معروفة بين معلمي القانون من غير رجال الدين هي شخصية هلل، وحتى هذه الشخصية الواضحة تكاد تخفي معالمها في ذلك النسيج الواهي من الخرافات التي حاكها حول اسمه الخلف المفتتن به. ويقول مؤرخوه انه ولد في مدينة بابل (75 ق. م) من أسرة كريمة معروفة أخنى عليها الدهر. ثم جاء إلى أورشليم بعد أن اكتملت رجولته، وأخذ يعول زوجته وأبناءه بالعمل اليدوي" ... "وقد وضع ثلاث قواعد ليهتدي بها الناس في حياتهم: حُب الناس، وحُب السلم، وحُب الشريعة ومعرفتها. وسأله رجل يريد أن يهتدي أن يفسّر الشريعة فيما لا يزيد من الزمن على الوقت الذي يستطيع أن يقف فيه على قدم واحدة، فأجابه بقوله: {لا تفعل مع غيرك ما تكرهه لنفسك}. وكان هذا القول صورة سلبية حذرة من تلك القاعدة الذهبية التي صاغها اللاويون في صيغتها الموجبة من زمن بعيد. ومن تعاليم هلل الأخرى قوله: {لا تحكم على جارك حتى تكون أنت في مكانه}.

وقد حاول أن يهدئ ثائرة الشيع المتنازعة بوضعه سبع قواعد لتفسير الشريعة. وكانت تفسيراته هي نفسها قائمة على الحرية والتسامح، وأهم ما فيها أنه يسّرَ إقراض المال، والحصول على الطلاق. وكان هو نفسه ناشراً للسلام مصلحاً. وكان من نصائحه للشبان الثائرين في عصره: {لا تخرجوا على الجماعة}. وقد قبل هيرود على أنه شرٌّ لابد منه، وعين في عهده رئيساً للسنهدرين (30 ق. م) وأحبّته الأغلبية الفريسية حباً أبقاه رئيساً للمجلس الكبير إلى يوم وفاته (10م). ثم جعل هذا المنصب من بعده وراثياً في أسرته مدى أربعمائة عام تعظيماً لذكراه. وخصّ المجلس مكان الشرف الثاني فيه لمنافس هلل، وهو الحبر شماي المحافظ. وكان يفسّر الشريعة تفسيراً أدق وأضيق من تفسير هلل، ولا يجيز الطلاق، ويُطالب بتطبيق التوراة تطبيقاً حرفياً، لا يراعي فيه تغيير الظروف. وكان انقسام المعلمين اليهود إلى محافظين وأحرار قائماً قبل هلل بمائة عام وظل قائماً حتى خرب الهيكل)[13].

 

وفي "قصة الحضارة" أيضاً، تحت عنوان (الفصل الخامس- الامل الأكبر) ما يُشكِّل إنعكاساً للواقع الاجتماعي اليهودي، وما يحتويه من صراعات سياسية واجتماعية، على كتابة الأسفار المقدّسة. قال: (تكاد الآداب اليهودية التي وصلت إلينا من ذلك العصر تكون كلها آداباً دينية. ذلك أنه قد بدا لليهودي المتمسّك بدينه أن من الخطأ أن يكتب في الفلسفة أو الأدب إلا إذا كان الغرض النهائي من هذه الكتابة أن يحمد الله ويُمجّد الشريعة؛ كما كان يبدو له أن صنع التماثيل للإله إثم كبير وأن تزيين الهياكل بالفنون التشكيلية امتهان لها وانتهاك لحرمتها". .. "وبين عامي 130 ق. م، 40م نشر يهودي إسكندري - أو عدد من اليهود الهلنستيين - سفر أمثال سليمان، وهو سفر يحاول، كما حاول فيلو، أن يوفق بين اليهودية والأفلاطونية، ويهيب باليهود الذين ينادون بالاندماج في الثقافة اليونانية أن يعودوا إلى الشريعة، كل هذا في نثر لا يقل في جزالته وقوّته عن أي نثر آخر منذ عهد اشعيا. وأقل من هذا السفر قوة وجزالة سفر مزامير سليمان (حوالي 50 ق. م)، ويكثر فيه التنبؤ بظهور منقذ لإسرائيل. ويسري هذا الأمل في النجاة من روما ومن العذاب الدنيوي على يد منقذ إلهي في كل ما كتب في هذا العصر من أدب يهودي إلا القليل النادر منه واتخذ الكثير منه صورة رؤى تهدف إلى إيضاح الماضي والتسامح فيه بعرضه على صورة إعداد لمستقبل مجيد يظهره الله على لسان رسول من عنده. وكان كتاب دانيال الذي كتب في عام 165 ق. م ليشجع إسرائيل على الوقوف في وجه أنتيخس إبفانيس، لا يزال ذائعاً بين اليهود الذين لم يكونوا يعتقدون أن يهوه سيتركهم طويلاً تحت سيطرة الوثنيين. واتخذ كتاب أخنوخ، وهو في أكبر الظن من عمل عدة مؤلفين بين عامي 170، 66 ق. م صورة رؤى نزلت على الأب الأكبر الذي "سار مع الرب" في سفر التكوين (الآية 24 من الإصحاح الخامس) ويقصّ هذا السفر سقوط الشيطان ومن معه، وما أدى إليه ذلك من حلول الشر والألم في حياة البشر، ثم نجاة بني الإنسان على يد المسيح، وحلول مملكة السماء. وحوالي عام 150 ق. م شرع كاتب يهودي بنشر نبوءات سيبيلية صوّر فيها نبيّات تنتصر لليهودية على الوثنية، وتتنبأ بفوز اليهود النهائي على أعدائهم. والراجح أن فكرة الإله المنقذ قد جاءت إلى غربي آسية من بلاد فارس أو بابل. فالتاريخ كله والحياة كلها قد صورا في الديانة الزرادشتية في صورة صراع بين قوى النور المقدسة وقوى الظلمة الشيطانية؛ ثم يأتي في آخر الأمر منقذ - شؤسيانت أو مثراس - ليحكم بين الناس ويقيم حكم العدالة والسلام الدائمين. وكان يبدو للكثيرين من اليهود أن حكم روما جزء من انتصار الشر القصير الأجل، ولهذا كانوا ينددون بما في حضارة "الكفار" من شراهة، وغدر، ووحشية، ووثنية، وما في العالم الأبيقوري من "كفر بالله" وعبادة الشهوات. وقد جاء في سفر الحكمة أن المنافقين قالوا في أنفسهم مفتكرين إفتكاراً غير مستقيم: "إن عمرنا هو يسير ومحزن، ووفاة الإنسان ليس شفاء، ولم يعرف قط المحلول من الجحيم، لأننا ولدنا من لا شيء، وبعد هذه نكون كأننا لم نكن لأن النسمة دخان في أنوفنا، والنطق شرارة في تحريك قلوبنا، وإذا أطفأت يصير الجسم رماداً والروح ينسكب كالهواء المبثوث. واسمنا سينسى في الزمان، ولا يذكر أحد أعمالنا، ويزول عمرنا كزوال أثر الغمام، ويضمحل كالضباب الذي بدده شعاع الشمس وتثقله حرارتها، لأن عمرنا ظل عابر وليس لأجلنا إبطاء لأنه أمر محتوم ولن يردّه أحد. فهلمّ إذا نتمتع بالخيرات الموجودة، ونستعمل الملذات في البرية ما دام زمان الشبوبية، فنمتلئ من الخمر الفائقة والطيوب، ولا يفوتنا نسيم زهر الربيع. نتكلل بفقاح الورد قبل ذبوله، ولا يكون مرج إلا يجوز عليه تنعمنا". ويقول صاحب هذا السفر إن ثلاثة من الأبيقوريين يدلون بحجج باطلة. وإنهم يربطون عربتهم بنجم ساقط لأن اللذة شيء باطل زائل: "لأن رجاء المنافق كغبار تحمله الرياح، وكرغوة رقيقة تقدها الزوبعة، وكدخان ينحل في الرياح، وكذكر ضيف مكث يوماً واحداً وإرتحل. أما الصدوقيون فيحيون إلى الدهر، وعند الرب ثوابهم، وعند العلى اهتمامهم. فلهذا يتقلّدون مملكة البهاء وتاج الكمال من يد الرب". وسيقضى على هذا الشر والإثم - كما تقول أسفار الرؤيا- إما بتدخل الله نفسه، أو بإرساله إلى الأرض ابنه أو ممثله المسيح[14]. أولم يُنبئ به النبي إشعيا قبل ذلك العهد بمائة عام إذ يقول: "لأنه يولد لنا ولد ونُعطى ابناً وتكون الرياسة على كتفه، ويُدعى اسمه عجيباً مشيراً، إلهاً قديراً، أباً أبدياً، رئيس السلام". وكان كثيرون من اليهود يتفقون مع إشعيا (11: 1) فيما وُصِف به المسيح بأنه ملك دنيوي يولد من بيت داود الملكي؛ ومنهم من يسمونه بإسم إبن الإنسان كأخنوخ ودانيال، وصوروه بأنه سينزل من السماء. أما الفيلسوف صاحب سفر الأمثال والشاعر صاحب حكمة سليمان فلعلهما قد تأثرا بأفكار أفلاطون أو بروح الأرض التي يقول بها الرواقيون فتصوروه الحكمة مجسدة التي هي أول شيء "قناها الرب"، وهي الكلمة أو العقل ( Logos) التي لن تلبث أن يكون لها شأن عظيم في فلسفة أفلاطون، ويكاد مؤلفو سفر الرؤيا كلهم يجمعون على أن المسيح سينتصر انتصاراً سريعاً، ولكن إشعيا تصوره في فقرة من أروع فقراته بأنه: محتقَرٌ ومخذول من الناس، رجل أوجاع ومختبر الحزن ... لكن أحزاننا حملها وأوجاعنا تحمّلها ... وهو مجروح لأجل معاصينا مسحوق لأجل آثامنا ... وبجبره شفينا ... والرب وضع عليه إثم جميعنا ... من الضغطة ومن الدينونة أخذ وفي جيله من كان يظن أنه قطع من أرض الأحياء ... وهو حملَ خطيئة كثيرين وشفع في المذنبين". بيد أنهم جميعاً متفقون على أن المسيح سيُخضِعْ الكفار في آخر الأمر، ويحرر إسرائيل ويتخذ أورشليم عاصمة له، ويضم إليه الناس جميعاً ليؤمنوا بيهوه والشريعة الموسوية. ويسود بعد ذلك "عصر طيب" تسعد به الدنيا بأجمعها فتكون الأرض كلها خصبة، وتحمل كل حبة قدر ما كانت تحمله ألف مرة، ويصير الخمر موفوراً، ويزول الفقر، ويصبح الناس كلهم أصحاء، مستمسكين بالفضيلة، وتسود العدالة والصداقة والسلام في الأرض. وكان بعض الناس يظنون أن هذا العهد الصالح ستتخلله عهود غير صالحة وأن قوى الظلمة والشر ستبذل جهدها الأخير للهجوم على هذه المملكة السعيدة، وأن العالم سيحترق في الفوضى واللهب؛ وسيقوم الموتى في "يوم الدينونة الأخير" ليحاسَبوا أمام "قديم الأيام" (يهوه) أو أمام "إبن الإنسان"، وسيكون له السلطان المطلق الأبدي على العالم بعد أن تجدد وصلح، أي على مملكة الله؛ وسيُلقى الأشرار وهم صامتون "في الجحيم"، أما الأخيار فسيُستقبلون في دار النعيم الأبدي. ولقد كانت الحركة الفكرية في بلاد اليهود في جوهرها مماثلة للحركة الفكرية الدينية الوثنية المعاصرة لها: شعبٌ كان فيما مضى إذا فكر في المستقبل يحصر تفكيره فيما سوف يؤول إليه مصيره القومي، ثم فقد الآن ثقته بالدولة التي ينتمي إليها، وأخذ يفكر في النجاة الروحية الفردية. وكان الدين ذو الطقوس الخفية الغامضة قد بعث هذا الأمل في صدور الآلاف المؤلفة من اليونان، وفي بلاد الشرق الهلنستي وإيطاليا؛ ولكن هذا الأمل أو الحاجة إليه لم يكونا في بلد من البلاد أقوى مما كان في بلاد اليهود. فلقد كان الفقراء أو المحرومون، والمظلومون أو المُحتقَرون في هذه الأرض يتطلعون إلى أن يُرسل لهم الله من ينجيهم ويرفع عنهم نير الذل والعذاب. وتقول أسفار الرؤيا إن هذا المنقذ لن يطول غيابه وإنه حين ينتصر سيرتفع إلى الجنة كل العادلين، حتى من كان منهم في القبور، ليتمتعوا فيها بالنعيم السرمدي، وكان القديسون الشيوخ، أمثال شمعون، وكانت النساء المتصوفات أمثال أنا إبنة فانيول يقضون حياتهم حول المعبد، صائمين يترقبون، ويصلون، ويتضرعون لعلهم يرون هذا المنقذ قبل وفاتهم. وكان هذا الترقب يملأ قلوب الناس)[15].

 

وفي "قصة الحضارة"تحت عنوان "الثورة"، كتبوا عن تمرّد اليهود ايام قيصر اوغسطس، في نهاية القرن الاول قبل الميلاد: (ظل اليهود يكافحون قروناً طويلة، ولما أن مات هيرودس الأعظم نبذ الوطنيون نصائح هلل السلمية وأعلنوا الثورة على خليفته أركلوس وعسكروا في خيام حول المعبد. فقتل جنود أركلوس ثلاثة آلاف، كان كثيرون منهم قد جاءوا إلى أورشليم ليحتفلوا بعيد الفصح (4 ق. م)، لكن الثوار عادوا إلى التجمع في عيد العنصرة وتعرضوا في هذه المرة إلى ما تعرضوا له من قبل من قتل، وحُرقَت أروقة الدير ونهب الجنود ما فيه من الكنوز، واستحوذ اليأس على الكثيرين من اليهود فقتلوا أنفسهم. ثم تألفت عصابات من الوطنيين في الريف وهددوا حياة كل من يؤيد روما، ومن هذه العصابات واحدة تحت قيادة بوداس الجولوني استولت على صفورة عاصمة الجليل. وزحف قارس حاكم سوريا على فلسطين بعشرين ألفاً من رجاله، وهدم مئات من بلدانها، وصلب ألفين من الثوار، وباع ثلاثين ألفاً من اليهود في أسواق الرقيق[16]. وذهب وفد من زعماء اليهود إلى روما وطلب إلى أغسطس[17] أن يلغي الملكية في بلاد اليهود. فاستجاب أغسطس لطلبه وعزل أركلوس وجعل البلاد ولاية رومانية من الدرجة الثانية وعين عليها حاكماً مسئولاً أمام والي سوريا).

 

الثورة اليهودية: التي حدثت في منتصف القرن الاول الميلادي، في الفترة التي كانت فيها ارساليات "اليهود المسيحيين"، بزعامة بطرس، تجوب مدن حوض البحر المتوسط التي سكنها اليهود (نتيجة هجرتهم او سبيهم اليها) وكانت رحلات بولس مستمرة في نفس المنطقة، نقرأ في "قصة الحضارة" عن احداث الثورة اليهودية في فلسطين: (ونعمت هذه البلاد المضطربة بفترة صغيرة من السلام في عهد تيبيريوس[18]، فلما جلس كلجيولا[19] على العرش أراد أن يجعل عبادة الإمبراطور ديناً يوحد به أجزاء الإمبراطوريّة المختلفة فأمر أن تشمل كل العبادات قرباناً يقرب لصورته وأصدر تعليماته إلى الموظفين في أورشليم أن يضعوا تمثاله في الهيكل. وكان اليهود في عهد أغسطس وتيبيريوس قد خطوا نصف الطريق إلى ترضية الأباطرة بأن كانوا يضحون ليهوه باسم الإمبراطور، ولكنهم كانوا ينفرون أشد النفور من وضع تمثال منحوت لرجل وثني في هيكلهم، وبلغ هذا النفور درجة دفعت آلافاً منهم - على حد قول الرواية المأثورة- إلى أن يذهبوا إلى حاكم سوريا ويطلبوا إليه أن يذبحهم وإن لم يرتكبوا ذنباً قبل أن ينفذ هذا المرسوم. وحل كلجيولا هذا المشكل بموته. وأقنع أجربا[20] حفيد هيرودس الإمبراطور كلوديوس[21] فعينه ملكاً على فلسطين كلها تقريباً؛ فلما مات أجربا انطلقت الفتنة مرة أخرى من عقالها، وأعاد كلوديوس البلاد إلى ما كانت عليه في عهد أغسطس وعين عليها حاكماً من قبل رومة. وكان معظم الرجال الذين اختارهم معاتيقه ليشغلوا هذا المنصب عاجزين أو سفلة. ومن هؤلاء فليكس الذي عينه أخوه بلاس Pallas والذي "حكم بلاد اليهود" - كما يقول تاستس - "بقوة الملك وروح الرقيق". وكان فستس Festus أعدل من فليكس، ولكنه توفي أثناء هذه المحاولة. وجد ألبينس Albinus - إذا جاز لنا أن نصدق يوسفوس - في النهب وفرض الضرائب، وجمع ثروة طائلة بإطلاق المجرمين من السجون نظير أجر يتقاضاه منهم حتى "لم يبقَ أحد في السجن إلا من لم يتقاضَ منه شيئاً". وسلك فلورس Florus - كما يقول هذا الكتاب صديق الرومان المعجب بهم - مسلك "الجلاّد لا مسلك الحاكم" فنهب مُدناً بأكملها، ولم يكتفِ بأن يسرق هو نفسه، بل تغاضى عن سرقات غيره إذا نال سهماً من الغنيمة. بيد أن هذه الأقوال يُشتَم منها رائحى العداوة الحزبية؛ وما من شك في أن الحكام هُم الآخرون كانوا يشكون من أن اليهود شعب مشاكس ليس من السهل إخضاعه. وتألفت عصابات من "المتحمسين" و"الفدائيين" ليحتجوا على هذا الفساد. وأقسم أعضاؤها أن يغتالوا كل يهودي خائن، فكانوا يندسون وسط الجماعات في الشوارع ويطعنون ضحاياهم من خلفهم، ثم يختفون بين الجماهير في الفوضى التي تعقب عملهم هذا. ولما أن اغتصب فلورس سبع عشر وزنة (61200 ريال[22] أمريكي) من كنوز الهيكل، اجتمع أمامه جمهور غاضب يطلبون عزله؛ وأخذ جماعة من الشبان يطوفون بالمدينة وبأيديهم سلاّت يطلبون الصدقات له لأنه يعاني مرارة الفقر. لكن فيالق فلورس بددت شمل المجتمعين، ونهبت مئات من البيوت، وذبحت ساكنيها، وقبض على زعماء الفتنة، وجُلدوا وصُلبوا. ويقول يوسفوس إن (3600) يهودي قتلوا في ذلك اليوم. وأخذ شيوخ العبرانيين وأثرياؤهم يدعون الناس إلى الصبر، وحجتهم في هذا أن الثورة على هذه الإمبراطوريّة القوية ليست إلا انتحاراً قومياً؛ أما الشبان والفقراء فكانوا يتهمون هؤلاء بخور العزيمة ومحاباة الظالمين. وانقسمت المدينة، وانقسمت كل أسرة تقريباً بين هذين الحزبين، فاستولى أحدهما على الجزء الأعلى من أورشليم، واستولى الآخر على جزئها الأدنى، كلاهما يهاجم الآخر بكل ما يصل إلى يده من سلاح. ووصل الأمر في عام 68 إلى نشوب معركة دامية بين الحزبين انتصر فيها المتطرفون وقتلوا (12000) يهودي من بينهم الأغنياء كلهم تقريباً. وهكذا استحالت الفتنة ثورة. وأحاطت قوة من العصاة بالحامية الرومانية المعسكرة في مسادا Massada، وأقنعتها بأن تلقي سلاحها، ثم قتلت رجالها عن آخرهم. وفي ذلك اليوم نفسه حدثت في قيصرية عاصمة فلسطين مذبحة هائلة ذبِح فيها غير اليهود من السكان عشرين ألفا من اليهود، وبيع آلاف غيرهم بيع الرقيق[23]. وذبح غير اليهود من سكان دمشق عشرة آلاف يهودي في يوم واحد. وقام اليهود المختفون بتدمير عدد كبير من المُدن اليونانية في فلسطين وسوريا، وأحرقوا بعضها عن آخرها، وقتلوا عدداً كبيراً من أهلها كما قُتل منهم هم أيضاً كثيرون؛ ويقول يوسفوس في هذا: "وكان من المناظر المألوفة في ذلك الوقت أن نرى المُدن مملوءة بجثث الموتى ... مُلقاة فيها دون أن تدفن، وأن نشاهد جثث الشيوخ إلى جانب جثث الأطفال وبينها جثث النساء عارية من كل غطاء". وقبل أن يحل شهر سبتمبر من عام 66 كان الثوار قد استولوا على أورشليم وعلى فلسطين كلها تقريباً؛ وخذل حزب السلم وفقد أنصاره، وانضم معظم أعضائه إلى الثوار. وكان من بين هؤلاء كاهن يدعى يوسفوس، وكان وقتئذ شاباً في الثلاثين من عمره، ونشيطاً، نابهاً، وُهِبَ من الذكاء ما يستطيع به أن يحيل كل شهوة من شهواته فضيلة. وكلّفه الثوار بتحصين الجليل، فدافع عن حصنها جوتوباتا ضد قوات فسبازيان المحاصرة لها، حتى لم يبق من حاميتها اليهودية على قيد الحياة غير أربعين جندياً اختبئوا معه في كهف من الكهوف. وأراد يوسفوس أن يسلم لجنود فسبازيان، ولكن رجاله أنذروه بالقتل إن حاول التسليم. وإذ كانوا يفضلون الموت على الأسر، فقد أقنعهم بأن يحددوا بطريق القرعة الترتيب الذي يقتل به كل منهم على يد من يليه. ولما ماتوا جميعاً ولم يبق إلا هو وواحد منهم أقنعه بأن ينضم إليه في الاستسلام للعدو. وقبيل أن يرسلا إلى روما مكبلين بالأغلال تنبأ يوسفوس أن فسبازيان سيصبح إمبراطوراً فأطلقه فسبازيان من الأسر، وقرّبه إليه شيئاً فشيئاً وجعله ناصحاً أميناً له في حربه ضد اليهود. ولما سافر فسبازيان إلى الإسكندرية صحب يوسفوس تيتس في حصار أورشليم. وكان اقتراب الفيالق الرومانية إيذاناً بضم صفوف اليهود وتأليفهم وحدة حانقة متعصبة وإن جاء ذلك بعد فوات الأوان. ويقول تاستس إن (60000) من الثوار تجمعوا في المدينة، وإن "كل من يستطيع الانخراط في سلك الجندية قد تسلح ونزل إلى الميدان"، وإن الروح العسكرية في النساء لم تكن أقل منها في الرجال. ونادا يوسفوس من بين صفوف الرومان أهل المدينة المحاصرين إلى الاستسلام، ولكنهم اتهموه بالخيانة، وحاربوا إلى آخر رجل فيهم. وحاول اليهود بعد أن نفدت مئونتهم اختراق الصفوف للحصول على الطعام، فأسر الرومان آلافاً منهم وصلبوهم، ويقول يوسفوس إن "هؤلاء بلغوا من الكثرة حداً لم تتسع معه الأرض لإقامة الصلبان، ولم يوجد من الصلبان ما يكفي لأجسامهم". وازدحمت شوارع المدينة بجثث الموتى في المراحل الأخيرة من الحصار الذي دام خمسة أشهر. وكانت جماعات من النهابين تطوف بالموتى وتقطع أجسامهم وتنهب مالهم، ويُقال إن (116000) جثة ألقيت من فوق أسوار المدينة، وإن بعض اليهود بلعوا قطعاً من الذهب وخرجوا خلسة من أورشليم، وإن الرومان أو السوريين الذين قبضوا عليهم شقوا بطونهم أو بحثوا في برازهم ليحصلوا على ما ابتلعوه من الذهب. ولما استولى تيتس على نصف المدينة عرض على الثوار شروطاً ظنها لينة، فلما رفضوها أضرمت فرق الحراقين الرومان النار في الهيكل فلم يلبث هذا الصرح العظيم، وكان معظمه مشيداً من الخشب، أن احترق بأكمله. وقاتل الباقون من المدافعين عن المدينة قتال الأبطال، فخورين كما يقول ديو بموتهم في حرمه. فمنهم من قتل بعضهم بعضاً، ومنهم من ألقوا بأنفسهم على سيوفهم، ومنهم من قفزوا في اللهب. ولم يرحم المنتصرون أحداً، بل قتلوا كل من استطاعوا أن يقبضوا عليه من اليهود. وقد قبض على (97000) وبيعوا في أسواق الرقيق[24]، ومات كثيرون منهم في المجتلدات بعد أن سيقوا مرغمين إلى الألعاب التي أقيمت ضمن احتفالات النصر في بيروت، وقيصرية، وفلباي، وروما. ويقدّر يوسفوس عدد من هلك من اليهود في هذا الحصار وما أعقبه من حوادث بمليون ومائة وسبعة وتسعين ألفاً، أما تاستس فيقدّرهم بستمائة ألف (70م). ودامت المقاومة في أماكن متفرقة حتى عام 73، ولكن تدمير الهيكل كان في واقع الأمر نهاية الفتنة ونهاية الدولة اليهودية. وصودرت أملاك الذين اشتركوا فيها وبيعت، وكادت الدولة اليهودية أن تخلو من اليهود، وعاش من بقي منهم فيها عيش الكفاف. وكان أفقر فقرائهم يُرغم على أن يؤدي للهيكل الوثني في روما نصف الشاقل الذي كان العبرانيون الصالحون يؤدونه في كل عام لصيانة هيكل أورشليم. وأُلغيت مناصب كبار الكهنة والسنهدرين: واتخذت اليهودية الصورة التي احتفظت بها إلى أيامنا هذه: صورة دين بلا معبد مركزي، ولا كهنوت مسيطرين عليه، ولا قرابين. واختفت طائفة الصدوقيين، وأصبح الفريسيون والأحبار زعماء شعب لا وطن له، لم يبقَ له إلا معابده)[25].

وبعد تهديم الهيكل وتشتيت اليهود، دخل "اليهود المسيحيون" رغم ما قيل من عدم اشتراكهم في الثورة، في نفس المعاناة العامة التي لاقاها بقية اليهود. فبين حطام الهيكل والتقتيل والسبي، والذي بلا شك قد شمل عدداً كبيراً من عوائل "اليهود المسيحيين" فالعسكري الروماني لم يكن يفرّق بين اليهودي الصدوقي واليهودي الفريسي واليهودي المسيحي في الاستهداف وطريقة المعاملة. وبلا شك فإنَّ كل هذه الاحداث، قبل الثورة اليهودية وبعدها، قد ادّت الى تشكيل فكر بولس بضرورة "التملّص" من الإرث اليهودي الثقيل المستهدف سياسياً وإجتماعياً وثقافياً من قبل الرومان، منذ قرون، والانتقال بالدين الجديد الذي اعتنقه الى وحدة عامة تشمل جميع البشر يهوداً ووثنيين! فمن حق "دين المسيح" الذي يبشِّر به بولس، وقد رفضه أغلب اليهود وتقبله العديد من الوثنيين بإستجابة أسرع، أن يكون ديناً عاماً لكل من يتقبله من الناس! فبين تزمّت حاخامات اليهود ورفضهم الصلف للمسيح الذي شاهدوا معجزاته، وبين تولي تلاميذ المسيح بزعامة بطرس قيادة المؤمنين من اليهود بالمسيح، لم يكن امام بولس سوى الإنغماس في المجتمعات الوثنية للحصول فيها على موطأ قدم وإنتشار لدينه الجديد (الإله الأب وأبنه المسيح الرب).

وتحت عنوان التشتيت نقرأ في "قصة الحضارة" صراع اليهود مع الرومان بعد تدمير الهيكل، وثورته الأخرى التي ادت الى مأساة أخرى، كان من نصيب "اليهود المسيحيين" بلا شك، الشي الكثير منها، ولذلك كان هذا التيار الذي يمثل فكر وعقيدة المسيح في اضمحلال وتضعيف مستمر، شأنه شأن بقيّة اليهود. نقرأ في ذلك الكتاب: (لقد كانت هجرة مليون من اليهود أو تشريدهم مما عجل انتشارهم في جميع بلاد البحر الأبيض المتوسط، ومن أجل هذا أرّخ علماؤهم تشتيتهم من الوقت الذي دمر فيه هيرودس الهيكل. ولقد رأينا أن هذا التشتيت بدأ بالسبي أو الأَسْر البابلي قبل ذلك الوقت بستة قرون وانه تجدد باستيطانهم في الإسكندرية. وإذا كانت كثرة التناسل مما يحتمه الدين اليهودي والشريعة اليهودية على الصالحين المتقين، وإذ كان وأد الأطفال محرماً عليهم فإن انتشار اليهود كانت له أسباب من علم الأحياء نفسه فضلاً عن أسباب اقتصادية؛ وكان لا يزال لليهود بعض الشأن القليل في تجارة العالم. وقد قال عنهم استرابون قبل سقوط أورشليم بخمسين عاماً قولاً لا يخلو من المغالاة التي أملتها عليه نزعته المعادية للسامية: {يصعب على الإنسان أن يجد في العالم المعمور كله مكاناً واحداً خالياً من هذا الجنس من الناس، أو خير مملوك له}. ووصف فيلو قبل التشتيت بعشرين عاماً {القارات ... الملآى بالمحلات اليهودية ومثلها ... الجزائر وبلاد بابل كلها تقريباً}. وما وافى عام 70 من بعد الميلاد حتى كان آلاف من اليهود في سلوقية على نهر دجلة وفي غيرها من مدائن جارثية. وكانوا كثيري العدد في بلاد العرب، ومنها عبروا البحر إلى بلاد الحبشة. وكانوا في سوريا وفينيقية وكانت لهم جالية كبيرة في طرسرس، وإنطاكية، وميليتس، وإفسوس، وسرديس، وأزمير. وكانوا أقل من ذلك بعض الشيء في ديلوس، وكورنثة، وأثينة، وفلباي وبيرية، وسلانيك. أما في غرب البحر الأبيض كانت هناك جماعات من اليهود في قرطاجنة، وسرقوسة، وبتيولة، وكبوة، وبمبي، وروما، وحتى فنزويا موطن هوراس نفسها لم تكن تخلو من اليهود. وفي وسعنا أن نقدر عدد اليهود في الإمبراطوريّة الرومانية إجمالاً بنحو سبعة ملايين أي نحو 7% من سكانها وضعفي نسبتهم إلى سكان الولايات المتحدة الأمريكية في هذه الأيام. وقد أثاروا بكثرة عددهم، ولباسهم، وطعانهم، وختانهم، وفقرهم، وطمعهم، ورخائهم، وعزلتهم، وذكائهم، ونفورهم من الصور وتشددهم في مراعاة السبت رغم ما يسببه ذلك من العنت لهم، أثاروا بهذا كله حركة عداء للسامية تختلف من المزاح في الملاهي، والسخرية بهم في أقوال جوفنال وتاستس، إلى ذبحهم فرادى في الشوارع، وقتلهم زرافات في المذابح المدبرة. وقد نصب أبيون الإسكندري نفسه مدافعاً عن هذه الهجمات، ورد عليه يوسفوس برسالة صارمة شديدة اللهجة. وسافر يوسفوس مع تيتس إلى روما بعد سقوط أورشليم، وصحب قاهر بني جنسه في موكب نصر عرض فيه أسرى اليهود والمغانم اليهودية. ومنحه فسبازيان حق المواطنية الرومانية، ووظف له معاشاً وخصص له مسكناً في قصره وأقطعه أرضاً خصبة في بلاد اليهود. وتسمى يوسفوس نظير هذا باسم آسره فسبازيا، وهو فلافيوس، وكتب تاريخ حرب اليهود (حوالي عام 75)، ليدافع عن أعمال تيتس في فلسطين. ويبرز انشقاقه على بني جنسه، ويثبط عزائم اليهود إذا ما فكروا في الخروج على روما مرة أخرى بإظهار قوتها وبأسها. واشتد إحساسه بعزلته في شيخوخته فألّف كتاباً في قدم اليهود أراد به أن يستعيد عطف بني جنسه بأن يصور لغير اليهود ما قام به هذا الشعب من جلائل الأعمال، ويصف عاداتهم وأخلاقهم. وقصصه في هذا الكتاب واضح قوي، ووصفه لهيرودس الأكبر لا يقل امتعاناً عن وصف أفلوطرخس، ولكن تحيزه، والغرض الذي يكتب من أجله يفسدان موضوعية الكتاب. وقد تطلب قدم اليهود عدة سنين وأنهك قوى المؤلف، فلم يستطع أن يتمه، وكتب أمناء سره الكتب الأربعة الأخيرة من العشرين كتاباً التي يتألف منها هذا المجلد الضخم مستعينين على كتابتها بمذكراته. ولم يكن يوسفوس قد جاوز الخامسة والستين من عمره حين نشر الكتاب، ولكنه كان قد ضعفت قواه متأثرة بحياة المغامرات، والجدل، والعزلة الأخلاقية. واستطاع اليهود أن يعيدوا بالتدريج بناء حياتهم الاقتصادية والثقافية في فلسطين. وبينما كان الحصار مضروباً على أورشليم فر من المدينة تلميذ شيخ من تلاميذ هلل يدعى يوهنان بن زكاي لأنه خشي أن يبيد المعلمون كلهم في المذبحة فلا يبقى من ينقذ الأحاديث الشفوية. ولما خرج من المدينة أقام مجمعاً علمياً في كرم عند يبنى أو يمنيا قرب شاطئ البحر الأبيض المتوسط. ولما سقطت أورشليم نظم يوهنان سنهدريناً جديداً في يمنيا، ولم يؤلفه من الكهنة، وسياسيين، والأثرياء، بل ألفه من الفريسيين والأحبار أي معلمي الشريعة. ولم يكن لهذا المجلس المعروف باسم بيت الدين أية سلطة سياسية، ولكن معظم يهود فلسطين كانوا يعترفون بسلطانه في جميع الشئون المتعلقة بالدين والأخلاق. وكان الحاخام الذي يختاره المجلس رئيساً له يعين الموظفين الإداريين المشرفين على الجماعات اليهودية، وكان من حقه أن يخرج من حظيرة الدين مَن لا يرضى عنهم من اليهود. وكان من أثر النظام الصارم الذي فرضه الحاخام جماليل الثاني (حوالي سنة 100م) أن توثقت الرابطة بين أعضاء المجلس أولاً، ثم بين يهود يمنيا، ثم بين يهود فلسطين كلها فيما بعد. وحدث في أيامه أن أعيد النظر في التفسيرات المتناقضة للشريعة وهي التفسيرات التي نقلها هلل وشماي، ثم أخذ الرأي عليها، وكانت النتيجة أن قبلت معظم تفسيرات هلل وفرض على اليهود جميعهم أن يعملوا بها. وإذا كانت الشريعة قد أصبحت وقتئذ الرابطة القوية التي لا غنى عنها والتي تؤلف بين اليهود المشتتين الذين لا تؤلف بينهم دولة، فقد أصبح تعليم هذه الشريعة أهم عمل تقوم به الكنائس في جميع البلاد التي شتتت فيها اليهود. وحل المجمع محل الهيكل، كما حلت الصلاة محل التضحية، وحل الربان محل الكاهن. وأخذ الشراح (التنايم) يفسرون مختلف القوانين اليهودية المنقولة بطريق السماع (هلاكا) وكانوا يؤيدون شروحهم في العادة بعبارات يقتبسونها من الكتاب المقدس، يضيفون إليها قصصاً وعضات أو غيرها من المواد (هجاداً) ويوضحونها بها في بعض الأحيان. وأشهر هؤلاء التنايم هو الربان عكيبا بن يوسف. وقد انضم هذا الربان، وهو في سن الأربعين، إلى ابنه البالغ من العمر خمس سنين، وذهبا معاً إلى المدرسة فتعلم القراءة، واستطاع في زمن قليل أن يتلو عن ظهر قلب جميع أسفار موسى. وبعد دراسة دامت ثلاثة عشر عاماً افتتح له مدرسة تحت شجرة تين في قرية قريبة من يمنيا. وقد كانت حماسته، ومثاليته، وشجاعته، وفكاهته، بل وتعسفه الشديد سبباً في التفاف كثيرين من الطلاب حوله. ولما جاءت الأنباء في عام 95، أن دومتيان سيتخذ إجراءات جديدة ضد اليهود، اختير أكيبا وجماليل واثنان آخران من اليهود ليتصلا اتصالاً شخصياً بالإمبراطور. وبينما هم في روما إذ توفي دومتيان. واستمع نيرفا إلى رسالتهم وأظهر العطف على مطالبهم، وألغى الضريبة المفروضة على اليهود لإعادة بناء روما. ولما عادة أكيبا إلى يمنيا أخذ على عاتقه أن يقوم بذلك العمل الشاق الذي قضى فيه بقية حياته ونعني به تقنين الهلاكا، وأتم هذا العمل من بعده تلميذه الربان مير Meir وخليفتهما الأب يهوذا (حوالي 200م). وقد بقيت الهلاكا حتى في هذه الصورة المصنفة جزءاً من الأحاديث الشفوية، يتناقلها العلماء والحفاظ المحترفون جيلاً بعد جيل - فكانوا هم النصوص الحية للشريعة الموسوية. وكان في الطرق التي جرى عليها أكيبا من السخف بقدر ما في النتائج للتي وصل إليها من الصحة. وقد فسر الشريعة المسطورة تفسيراً عجيباً إذ جعل لكل حرف من حروفها معنى خفياً ثم استمد من هذا التفسير مبادئ حرة؛ ولعل للباعث له على هذا التفسير ما لاحظه من أن الناس لا يقبلون الشيء المعقول إلا إذا كان في صورة غامضة خفية. وعن أكيبا أخذ هذا التنظيم وذاك العرض لعلمي الدين والأخلاق اللذين انتقلا عن طريق التلمود إلى ابن ميمون، ثم انتقلا آخر الأمر إلى أساليب الفلاسفة المدرسيين. ولما بلغ سن التسعين وضعفت قواه وأصبح من الرجعيين ألفى نفسه، كما كان في أيام شبابه، محوطاً بالثورة من كل الجوانب. ذاك أن يهود قورينة، ومصر، وقبرص، وأرض الجزيرة، رفعوا لواء الثورة على روما مرة أخرى في عامي 115 - 116، وأخذ اليهود يقتلون غير اليهود، وهؤلاء يقتلون أولئك حتى أصبح التقتيل هو العادة المألوفة في تلك الأيام. ويقول ديو إن (220000) قتلوا في قورينة، و(240000) في قبرص. وتلك أرقام لا يقبلها العقل بطبيعة الحال، ولكنا نعرف أن قورينة لم تنتعش قط بعد هذا التخريب، وأن اليهود ظلوا عدة قرون بعد ذلك الوقت لا يسمح لهم قط بدخول قبرص. ثم أخمدت الفتن، ولكن من بقي من اليهود ظلوا محتفظين بأملهم القوي في ظهور مسيح يعيد بناء الهيكل ويعيدهم هم ظافرين إلى أورشليم. وأشعل الرومان، بحمقهم وبآلهتهم، نار الثورة من جديد. ذلك أن هدريان أعلن في عام 130 أنه يعتزم بناء ضريح لجوبتر في مكان الهيكل، ثم أصدر في عام 131 مرسوماً بتحريم الختان وتعليم الشريعة اليهودية علناً. وكانت آخر وقفة وقفها اليهود في التاريخ القديم لاستعادة حريتهم في عام 132 بزعامة شمعون باركوشيبا الذي ادعى أنه هو المسيح. وبارك أكيبا هذه الثورة رغم أنه كان طوال حياته يدعو إلى السلم، وذلك حين إعترف باركوشيبا أنه هو المنقذ. وظل الثوار ثلاث سنين مستبسلين في قتال الفيالق الرومانية حتى هزموا آخر الأمر بعد أن نفذ طعامهم وعتادهم. ودمر الرومان 985 مدينة في فلسطين وذبحوا (580000) يهودي ويقال إن الذين ماتوا من الجوع والمرض والحريق كانوا أكثر من هذا العدد. وخربت بلاد اليهود كلها تقريباً، وخرَّ باركوشيبا نفسه صريعاً أثناء دفاعه عن بيثار. وكان الذين بيعوا من اليهود في أسواق الرقيق[26] من الكثرة بحيث انخفض ثمن الواحد منهم حتى ساوى ثمن الحصان. واختبأ الآلاف منهم في سراديب تحت الأرض مفضلين ذلك على الأسر؛ ولما أحاط بهم الرومان هلكوا من الجوع واحداً بعد واحد، وكان الأحياء منهم يأكلون جثث الموتى. وأراد هدريان أن يقضي على ما في اليهودية من رجولة وقدرة على الانتعاش، فلم يكتفِ بتحريم الختان بل حرم معه الإسبات والاحتفال بأي عيد من أعياد اليهود أو إقامة أي طقس من الطقوس اليهودية علناً. وفرضت ضريبة شخصية جديدة أكبر من الضريبة السابقة على جميع اليهود، وحرم عليهم دخول بيت المقدس إلا في يوم واحد محدد في العام يسمح لهم فيه بالمجيء إلى دمشق ليبكوا أمام خرائب الهيكل. وقامت في مواضع أورشليم مدينة إبليا كبتولينا الوثنية، وشيد فيها ضريحان لجوبتر وفينوس، وساحات للرياضة وملاهٍ وحمّامات، وحل مجلس يمنيا وحرم أعضاؤه الاجتماع، وأجيز لمجلس عاجز أصغر منه أن يجتمع في لدا Lydda. أما تعليم الشريعة جهرة فقد منع منعاً باتاً، وأنذر كل من خالف ذلك بالإعدام، وأعدم بالفعل عدد من الأحبار الذين خالفوا. وأصر أكيبا، وكان وقتئذ في الخامسة والتسعين من عمره على أن يعلم تلاميذه، فزج في السجن ثلاث سنين، ولكنه لم ينقطع عن التعليم في سجنه، فحوكم، وأدين، وأعدم وهو ينطق بالعقيدة اليهودية الأساسية: "اسمعي يا إسرائيل، الرب إلهنا، والرب واحد". وظل اليهود قروناً عدة يعانون آثار النكبة التي حلت بهم بعد ثورة باركوشيبا، وإن كان أنطونينس بيوس قد خفف من صرامة مراسيم هدريان، ودخلوا من هذه اللحظة في دور الكهولة، وتخلوا عن كل العلوم الدنيوية ما عدا الطب، ونبذوا الهلنستية على اختلاف صورها، ولم يتلقوا السلوى أو الوحدة إلا من أحبارهم، وشعرائهم الصوفيين وشريعتهم. ولسنا نعرف شعباً آخر قد طال نفيه كما طال نفي اليهود، أو عانى من الأهوال مثل ما عانوا. لقد حرم عليهم أن يدخلوا المدينة المقدسة، وأُرغموا على تسليمها للوثنية ثم للمسيحية، وشُردوا في كل ولاية من ولايات الدولة الرومانية وإلى ما وراء حديد تلك الدولة، وضُربت عليهم المذلة والمسكنة، ولم يجدوا لهم صديقاً حتى بين الفلاسفة والقديسين، فابتعدوا عن المناصب العامة وعكفوا في عزلتهم على الدرس والعبادة، واستمسكوا أشد الاستمساك بأقوال علمائهم، وأخذوا يتأهبون لكتابتها آخر الأمر في تلمود بابل وفلسطين. وهكذا اختبأت اليهودية في ظلمات الخوف والفزع، بينما كانت وليدتها المسيحية تخرج لفتح العالم وسيادته)[27].

 


الهوامش:

 

[1] أنتيوخوس الرابع (215-164)ق.م.

[2] هذه العبارة تحتاج لبحث وتدقيق، حيث ان المقصود بها ان اليهود كانوا يجرون عمليات لإزالة الختان لكي يمارسوا الرياضة وهم عراة بدون تمييز بينهم وبين اليونانيين! وهذه العملية غير ممكنة طبياً كما ذكر لنا ذلك بعض الاطباء!! ثم لماذا يتحرّج اليهود من الاعلان عن يهوديتهم، كما يشير النص، وهم يمارسون الرياضة في بلادهم داخل فلسطين!!

[3] ربما هو اول سبي جديد بعد السبي البابلي، وكان من قبل السلوقيين.

[4] قصة الحضارة – ج8 ص(51-59).

[5] ويمكن الجمع بين فرض الختان على اليهود واستسلامهم للنزعة الهلنستية بأنهم كانوا يتمسكون بقشور الطقوس التوراتية وتعاليمها وفي حياتهم ينجرفون وراء الافكار اليونانية "الحداثوية" إنْ صح التعبير آنذاك! كما يحدث اليوم في العراق من قبل العديد من الاحزاب الدينية التي تجمع بين الصرامة في الدفاع عن الشعائر الدينية والتساهل في قبول المصارف الربوية والاختلاط بين النساء والرجال وتبرّج النساء والسفور والترويج لليانصيب وغض النظر عن استيراد الخمور وصنعها في العراق وفتح محلات بيعها ايضاً! والسماح بالملاهي التي تقود الدعارة الخفية تحت عنوان انها "مطاعم ليلية" وكذلك غض النظر عن الحفلات الغنائية، فارتفعت النعمة من بلاد الرافدين، فساء التعليم والصحة، وانتشر الجهل والقبليّة، وتردت الخدمات العامة، وتكالب على الوطن الطامعون فيه وانتشرت فيه قواعد عسكرية امريكية وتركية، مع نفوذ لبقية دول الجوار، ومخططات لتغييرات ديموغرافية لتسكين فلسطينيين في غرب العراق، وتسريب لخيرات العراق الى الاردن ومصر، ومحاولة جلب عمالة مصرية لتعمل في العراق الذي يعاني شبابه من بطالة عن العمل! الى غيرها من المآسي التي يعيشها الوطن الجريح اليوم!!

[6] بومبيوس (106-46)ق.م. أحد القادة العسكريين الرومان الذين برزوا في أواخر عصر الجمهورية الرومانية.

[7] هكذا ورد في المصدر المترجم، والظاهر ان الصحيح هو "دولار امريكي".

[8] ماركوس ليكينيوس كراسوس (115-53)ق.م. كوَّن كراسوس مع كل من قيصر وبومبي، المجلس الحاكم الثلاثي سنة60 ق.م.

[9] وهو ثاني سبي لليهود بعد السبيين البابلي والآشوري! ويمثل السبي الروماني الاول.

[10] قصة الحضارة – ج11 ص(161- 163).

[11] العهد الجديد، قراءة رعائية / جمعية الكتاب المقدس في لبنان / الطبعة الاولى 2004م ص10.

[12] وهو ما يقابل التقليد عند المسيحيين، وقد اوصى بولس اتباعه بالالتزام بكافة وصاياه، ولا ننسى ان بولس كان فريسياً، ولا بد انه اخذ من الفريسيين التمسك بالتعاليم الشفوية الى جانب المكتوبة.

[13] قصة الحضارة – ج11 ص(170-178).

[14] وقد وردت كلمة مسيح (وهي بالعبرية محسيح) في كثير من المواضع من العهد القديم. وترجمها اليهود الذين كتبوا الترجمة اليونانية السبعينية للتوراة (حوالي 28 ق. م) باللفظ اليوناني Christos أي الذي صب عليه الزيت المقدس أو مُسِحَ به. {عن هامش المصدر}

[15] قصة الحضارة – ج11 ص(179-183).

[16] وهو السبي الروماني الثاني، والسبي الثالث بعد السبيين البابلي والآشوري.

[17] الامبراطور اغسطس قيصر (63ق.م-14م)، وتولى السلطة سنة 27ق.م.

[18] ويسمى ايضا الامبراطور طيباريوس قيصر، وهو ابن اغسطس قيصر (42ق.م-37م).

[19] الامبراطور كاليجولا أو كاليغولا (12-41)م، تولى العرش بعد طيباريوس.

[20] أغريباس الأول أو هيرودس أغريباس الأول، أحد الملوك المحليين الذين حكموا جزءًا من فلسطين تحت حكم الإمبراطورية الرومانية في الفترة (41-44)م. {المصدر: ويكيبيديا الموسوعة الحرّة}

[21] واسمه الكامل تيبيريوس كلوديوس قيصر أو غسطس جرمانيكوس، تولى العرش في الفترة (41-54)م. وجاء بعده الى العرش نيرون الذي تولاه للفترة (54-68)م.

[22] هكذا ورد في الترجمة، ويبدو ان الاصح هو دولار.

[23] وهو السبي الروماني الثالث، والسبي الرابع بعد السبيين البابلي والآشوري.

[24] وهو السبي الروماني الرابع، والسبي الخامس بعد السبيين البابلي والآشوري.

[25] قصة الحضارة – ج11 ص(184-189)

[26] وهو السبي الروماني الخامس، والسبي السادس بعد السبيين البابلي والآشوري.

[27] قصة الحضارة – ج11 ص(190- 198).


قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat


نبيل محمد حسن الكرخي
 (للدخول لصفحة الكاتب إضغط هنا)

    طباعة   ||   أخبر صديقك عن الموضوع   ||   إضافة تعليق   ||   التاريخ : 2021/07/06



كتابة تعليق لموضوع : ملامح من تاريخ "اليهود المسيحيين" – (3) {الملحق}
الإسم * :
بريدك الالكتروني :
نص التعليق * :
 



حمل تطبيق (كتابات في الميزان) من Google Play



اعلان هام من قبل موقع كتابات في الميزان

البحث :





الكتّاب :

الملفات :

مقالات مهمة :



 إنسانية الإمام السيستاني

 بعد إحراجهم بكشف عصيانها وخيانتهم للشعب: المرجعية الدينية العليا تـُحرج الحكومة بمخالفة كلام المعصومين.. والعاصفة تقترب!!!

 كلام موجه الى العقلاء من ابناء شعبي ( 1 )

 حقيقة الادعياء .. متمرجعون وسفراء

 قراءة في خطبة المرجعية : هل اقترب أَجلُ الحكومةِ الحالية؟!

 خطر البترية على بعض اتباع المرجعية قراءة في تاثيرات الادعياء على اتباع العلماء

 إلى دعاة المرجعية العربية العراقية ..مع كل الاحترام

 مهزلة بيان الصرخي حول سوريا

 قراءة في خطبة الجمعة ( 4 / رمضان/ 1437هـ الموافق 10/6/2016 )

 المؤسسة الدينية بين الواقع والافتراء : سلسلة مقالات للشيخ محمد مهدي الاصفي ردا على حسن الكشميري وكتابيه (جولة في دهاليز مظلمة) و(محنة الهروب من الواقع)

 الى الحميداوي ( لانتوقع منكم غير الفتنة )

 السيستاني .. رسالة مهدوية عاجلة

 من عطاء المرجعية العليا

 قراءة في فتوى الدفاع المقدس وتحصين فكر الأمة

 فتوى السيد السيستاني بالجهاد الكفائي وصداها في الصحافة العالمية

 ما هو رأي أستاذ فقهاء النجف وقم المشرّفتَين السيد الخوئي بمن غصب الخلافة ؟

 مواقف شديدة الحساسية/٢ "بانوراما" الحشد..

أحدث مقالات الكتّاب :





 لنشر مقالاتكم يمكنكم مراسلتنا على info@kitabat.info

تم تأسيس الموقع بتاريخ 1/4/2010 © محمد البغدادي 

 لا تتحمل الإدارة مسؤولية ما ينشر في الموقع من الناحيتين القانونية والأخلاقية.

  Designed , Hosted & Programmed By : King 4 Host . Net