أبو ذر الغفاري (رضوان الله تعالى عليه)
عبد المحسن الباوي
المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.
عبد المحسن الباوي

هو جُندب بن جُنادة على الأصح الأشهر. وقيل اسمه: برير بن جنادة، وقيل جندب بن سكن وقيل السكن بن جُنادة، ولكن المشهور المتسالم عليه هو جندُب بن جُنادة ، ولا يُعرف في كتب التراجم بغير هذا الاسم.
لقد بايع أبو ذر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، على أن لا تأخذه في الله لومة لائم، وعلى أن يقول الحق، ولو كان مُرَّاً.
فالتزم ببيعته وكان جريئاً في جنب الله آخر عمره، كما كان في أول أمره.
ولعل أجرأ نداء صريح في مسمع حاكم ظالم، كان نداء أبي ذر (رض) على أبواب الخضراء (أتتكم القطار بحمل النار! اللهم إلعن الآمرين بالمعروف التاركين له، اللهم العن الناهين عن المنكر، المرتكبين له).
هذا هو أبو ذر، صاحب الكلمة الجريئة، التي لا تعرف المداهنة، ولا الرياء ولا الوجل. خاطب معاوية ذات مرة، مجيباً إياه: (ما أنا بعدوٍّ لله ولا لرسوله، بل أنت وأبوك عدوّان لله ولرسوله، أظهرتما الإسلام، وأبطنتما الكفر، ولقد لعنك رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ودعا عليك مرات أن لا تشبع.
فقال معاوية: ما أنا ذاك الرجل.
فقال أبو ذر: بل أنت ذلك الرجل ! أخبرني بذلك رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وسمعته يقول، وقد مررتَ به: اللهم إلعنه، ولا تشبعه إلاّ بالتراب).
بعث إليه معاوية ذات يوم بثلاثمائة دينار، فقال: إن كانت من عطائي الذي حرمتمونيه عامي هذا، قبلتها، وإن كانت صلة، فلا حاجة لي فيها.
وقال له ـ ذات مرة ـ حبيب بن مسلمة أحد القادة : (لك عندي يا أبا ذر ألف درهم، وخادم، وخمسمائة شاة.
قال أبو ذر: إعطِ خادمك، وألفَكَ، وشويهاتِكَ، من هو أحوج الى ذلك مني ! فإني إنما أسألُ حقي في كتاب الله !).
بهذه الصراحة، وبهذا الوضوح يرسم لنا أبو ذر بعض مواقفه، إنه لم يكن ليثأر، ويغضب لنفسه، بل للحق الذي طالب بتثبيته، وبذلك جعل من نفسه رمزاً يدفع بالمقهورين والمظلومين الى المطالبة بحقوقهم، وعرض ظلاماتهم. فكان في تصرفاته تلك رائداً من رواد الحق، يجازف بنفسه من أجل الآخرين. وما أغناه عن أن يقاسي ما قاسى، لو أراد.
لقد كان بوسعه أن يعيش حياة الرفاهية والترف، شأن بعض الصحابة ممن هم دونه في الفضل بمراتب لو أراد، ولكن في هذه النقطة تكمن احدى الفوارق ما بين الإنسان الرسالي، والإنسان العادي.. نعم، كان أبو ذر إنساناً رسالياً، ولم يكن إنساناً عادياً. وكان في بعض مواقفه يمثل مواقف أمير المؤمنين علي (عليه السلام). ولا غرو ولا عجب، فهو تلميذ الإمام وواحد من أكثر الناس إخلاصاً له.
قال أمير المؤمنين عليه السلام: (ولو شِئتُ لاهتديتُ الطريق الى مُصفى هذا العسلِ، ولُبابِ هذا القمح، ونَسائجِ هذا القزِّ، ولكن هيهات أن يغلبني هواي، ويقودني جَشعي الى تخيُّرِ الأطعمة، ولعلَّ بالحجاز أو اليمامة، من لا طمع له في القرص، ولا عهد له بالشبع، أوَ أبيتُ مبطاناً، وحولي بطونٌ غرثى، وأكبادٌ حرَّى، أوَ أكونُ كما قال القائل:
وحسبك داءً أن تبيتَ ببُطنةٍ * وحولك أكباد تحِنُّ الى القِدِّ
لقد كان أمير المؤمنين علي (عليه السلام)، يقول هذا، ومقدرات الأمة تحت قبضة يده، بل المعروف أن صدقاته الخاصة وحدها كانت تساوي آلاف الدنانير ذهباً.
نعم، كان يقول هذا ـ ويعمل بما يقول مع نفسه ـ ليلفت أنظار المسلمين الى ضرورة تفقد الضعفاء، والمقهورين، والمدفوعين عن حقوقهم، ويلفت أنظار الولاة الى الرِّفق بالرعية وتفقد أحوالهم.. وكان أبو ذر ـ تلميذ الإمام ـ ممن سار على هذا الهدي، فقد كان عطاؤه السنوي أربعمائة دينار ذهباً، ومع هذا فانه كان لا يدخر منها..
هذه نفحاتٌ عطرة حول هذه الشخصية الفذة التي اُلفت حولها المؤلفات، وتجاذبت فيها الآراء بين مُشككٍ لئيم، ومنصفٍ ينظر بعين الحقِّ والإنصاف، وبين ضالٍّ لم يعرف حقيقة أبي ذر ودوافعه المخلصة في مواقفه الخالدة.. فسلامٌ عليك سيدي يا غريب الرَّبَذة حتى تلقى ربك عز وجل مُجللاً بظلامتك من بني أمية وأتباعهم، وأنت الصابر الثابت الذي لم تزعزكَ المُلمات، ولم تجبرك الشدائدُ على التراجع والتقهقر، بل كان صوتك الهادر بالحق هو الأعلى إلى يوم الناس هذا.
قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat