موسيقى اللفظ المفرد في نهج البلاغة الجزء الأول
ميثاق علي عبد الزهره
المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.
ميثاق علي عبد الزهره

إن كل لفظة تحمل في طبيعة صياغتها نغماً وموسيقى، ناتجاً عن جرس أصواتها، يميزها عن غيرها في الاستحسان والقبول، فالجرس يعتبر (خصيصة ذاتية محسوسة في بناء اللفظة، من خلال تباين أجراس حروفها التي بنيت عليها، وتشكل هذه الحروف في ائتلافها وتنافرها نغـم الألفاظ وقيمها الحسية)، فجرس اللفظة هـو الموسيقى الداخلية أو وحـي الأصوات المفردة الـذي ينشأ من تأليف أصوات حروفها وحركاتها، ومدى توافق هذه الموسيقى مع دلالة اللفظة.
وقـد لاحظ القدمـاء أن الطبيعة النغمية للصوت تلعب دوراً مهماً في حسن اللفظة وسلاستها من جهة، وفي نقل دلالتها الإيحائية وما تحمله من ظلال للمعنى من جهة أخرى، فقد عنيت العرب بجرس الأصوات وأحسّت بأثره في بناء الألفاظ، فما استسهلته في النطق كثر في أبنية كلامها.
إن لجرس اللفظة دلالـة إيحائية تشيع في النفس مناخاً تخييلياً خاصاً يتمشى وحـركة النفس الشعورية، لكـنّ إدراك المعنى الإيحائي يختلف من فرد لآخر، بمعنى أن لفظة ما قد تثير في نفس سامع معين ما لا تثيره من الظلال والإيحاءات في نفس سامع آخر، ولا شك ان هذه اللفظة قد اكتسبت معناها الإيحائي من تجارب ذلك الفـرد أو من طبيعة مزاجه، فصارت تعني عنده بجانب معناها الأصلي ما لا تعني عند غيره.. وان للجرس قيمة حسية في الألفاظ و(نوعاً من الموسيقى يوحي إلى الأذهان بمعنى فوق المعنى الذي تـدل عليه الألفاظ).
وقـد اصطلح (ريتشاردز) الصورة السمعية للجـرس وذلك في قـوله: (ويندر ان تحدث الاحساسات المرئية للكلمة بمفردها، إذ تصحبها أشياء ذات عـلاقة وثيـقة بها، بحيث لا يمكن فصلها عنها بسهولة، واهم هذه الأشياء (الصورة السمعية)، أي وقـع جرس الكلمة على الأذن الباطنة أو أذن العقل، وإذا كانت النصوص المبدعة والجيدة هي التي تكشف الستار عما كمن في الألفاظ من دلالات وإيحاءات وظلال معان، بجرسها الموسيقي الناتج من ائتلاف أصواتها، فان نهج البلاغة هو من ابرز النصوص التي أتقن فيها استعمال اللفظة، وما تحمله في طياتها من دلالات.
قال الإمام علي (عليه السلام) في وصف الفتنة: ((ثم يأتي بعد ذلك طالع الفتنة الرجوف، والقاصمة الزحوف)).
ان كلمتي (الرجوف) و(الزحوف) فيما تحملانه من دلالة إيحائية ناتجة عن موسيقى أصواتهما، تجعلان السامع يتخيل مدى ضراوة هذه الفتنة وشدتها، وما سيصاحبها من أحداث مهـولة، فان صوت (الـراء) المكرر المجهور مع صوت (الجيم) المجهور الشديد في كلمة (الرجوف) مضافا إليهما صوت (الزاي) الصفيري في كلمة (الزحوف) هذه الأصوات توحي بجرسها العنيف إلى ما في هذه الفتنة من الشدة والغلظة والعنـف، ولا يخفى ما في صوت المد (الواو) من دلالة موحية في الكلمتين السابقتين، نتيجة الإشباع الموسيقي الذي ينشط به الذهن، فيرسم صورة معبرة تحاكي الموقف الذي أراد الإمام وصفه.
قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat