بدخول الطفل هذه المرحلة، ينتقل نقلة أساسية من حيث النمو المعرفي؛ ذلك أنه بعد أن كان (يفكر بجسمه) يصبح الآن (يفكر بعقله). وفي نقلة لاتميز فقط هذه المرحلة عما قبلها، بل تميز النمو المعرفي عند الطفل في المراحل التالية أيضا. بعبارة أخرى يكتسب الطف بانتقاله إلى هذه المرحلة خاصية المعرفة كإنسان، وهي استخدامه للرموز لغوية كانت أم غير لغوية.. غير أن الحدود التي يمكن أن يصل إليها في هذا الاتجاه، تجعل الفرق لا يزال شاسعاً بينه وبين الراشد الكبير، بالرغم من أنه قد لا يبدو كذلك في نظر الكبار المحيطين به.
والواقع أننا لكي نوضح معالم النمو المعرفي لهذه المرحلة، لابد أولا أن نبين الفرق بينها وبين المرحلة السابقة؛ لقد تركنا طفل المهد وقد كوّن مفاهيم ثابتة عن الناس والأشياء، واستطاع أن يحل بعض المشكلات البسيطة التي تواجهه، واستطاع أن يقوم بعملية تصنيف للأشياء التي حوله، أي أن يدرك أوجه الشبه والاختلاف بين هذه الأشياء بعضها وبعض، واستطاع أن يحتفظ ببعض الآثار لما يقع على حواسه من مثيرات، واستطاع أن يدرك العلاقة بين الأسباب والمسببات، إلا أن الحصيلة المعرفية لطفل المهد لا تعدو في الواقع عن كونها مجموعة من الإستراتيجيات لردود الأفعال نحو الأشياء والأشخاص، أو بتعبير (بسياجيه)، فإن ذكاء الطفل في هذه المرحلة يتلخص فيما يكونه من أنساق للأفعال، وتطوير لهذه الأنساق. ويحدث ذلك كله، دون استخدام للألفاظ أو الرموز، فمعرفة طفل الستة أشهر بـ(الشخشخة) مثلا تتلخص في الأفعال التي يقوم بها نحوها: عضها وهزها ورميها.. الخ. وقد يستمتع الطفل عندما يهزها، فتحدث صوتا، فيستمر في تكرار هذا النشاط، لكي يطيل من إحداث هذا التأثير السار؛ ويكتسب الطفل بذلك نسقاً حركياً نحو (الشخشخة)، وهو أن يقوم بهزها كلما وقعت في متناول يده. ولكن لنفرض أن هذه اللعبة قد وقعت من طفلنا هذا (ذي الستة أشهر) على مرأى منه، ولكن بعيدة عن متناول يده، ليس أمامه في تلك السن إلا أن يبكي لكي يحصل عليها، ولكن بتقدم السن (من سن سنة إلى سنة ونصف مثلا) يصبح بإمكانه أن يقوم بمحاولات عشوائية للحصول عليها.
وقد تصدر منه بالصدفة حركة مثل جذب الملاءة مثلا، فيجد أن اللعبة تقترب.. إنه على أبواب تعلم نسق جديد: جذب الملاءة للحصول على اللعبة الموجودة على طرفها الآخر. وقد يستخدم الطفل هذا الفعل في مواقف أخرى. وهكذا تتكون حصيلة الطفل المعرفية في تلك المرحلة (مرحلة المهد) من مجموع هذه الأنساق الحركيةالتي يكتسبها عن طريق المواءمة، (أي الميل إلى التغير كاستجابة للبيئة)، ثم الاستيعاب (أي إدماج عناصر من العالم الخارجي، ضمن نشاط الطفل الذاتي). بعبارة أخرى فإن معرفة الطفل لم في تلك المرحلة تنحصر فيما هو موجود (حاضر) وآني (مباشر) من أشياء وأفعال، إنه يفكر بجسمه أي عن طريق نشاطه الحركي، وليس عن طريق نشاطه العقلي، إلا أنه في قرب نهاية تلك المرحلة (الحسية الحركية) أي فيما بين السنة والنصف والسنة من عمر الطفل تقريباً، وهو ما يسميه (بياجيه) بالطور السادس من المرحلة الحسية الحركية، يصل الطفل إلى فهم تام لدوام الأشياء، أي يكتمل لديه مفهوم دوام الشيء، ومعنى ذلك أن صورة ذهنية عن الشيء، تكون موجودة لديه في حالة غياب الشيء نفسه.. وعندئذ فقط، يكون في استطاعة الطفل أن يفكر بعقله وليس بجسمه.
ونضرب لذلك مثالاً: طفل عمره سنتان، بيده كوب عصير أو ما أشبه ذلك.. يريد أن يفتح الباب وبيده الكوب فلا يستطيع! يضع الكوب على الأرض، لكي يفرغ يديه الاثنتين، ليستخدمهما في فتح الباب.. وفي أثناء تركيز نظره على الباب، يكون في نفس الوقت صورة ذهنية عن فتح الباب، وعن كوب العصير الذي يعترض الطريق (ولا تنس أن ذلك لا يمكن أن يحدث قبل أن يكتمل مفهوم دوام الشيء). وعند هذه النقطة وليس قبل ذلك، يستطيع الطفل أن يحل مشكلاته عن طريق تكوينات (عقلية)، صوراً ذهنية كانت أو رموزاً كبدائل للأشياء ذاتها.. بعبارة أخرى، فإنه لا يكون عندئذ في حاجة إلى الوجود الطبيعي للأشياء، لكي يستطيع أن يدركها أو يتعامل معها أو يحل المشكلات المتعلقة بها. تلك هي الخاصية الرمزية التي يتميز بها تفكير الطفل في هذه المرحلة، والتي تجعلنا نقرر أن الطفل هنا يفكر بعقله بدلا من جسمه.
قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat