علاقة الحاكم بالمحكوم في العهد العلوي
صباح محسن كاظم
المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.
صباح محسن كاظم

الامام علي بن ابي طالب ع النموذج الانساني في التقوى، والزهد، والعدل، والاستقامة، والفروسية، والشجاعة؛ رجل الانسانية الذي تدفقت منه الحكمة، والعلم، وأتصف بالزهد والورع... يقنن للعالم في عهده لمالك الاشتر(رضوان الله عليه) إسلوب الحكم والرأفة بالرعية في نسق علمي ومعرفي وحضاري، تنهل جميع الشعوب من عهده المبارك الذي يعد اهم وثيقة تأريخية في اقامة العدل والمساواة، إستقاها أمير البلاغة وسيد الفصاحة من المنهج القرآني والنبوي الشريف، فالعهد العلوي صك لحقوق الانسان المستل من الشرع المقدس.... كما ورد في القرآن الكريم: ((إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي)).
الفصل الاول:-
يذكر الشيخ المفيد: (فخرج مالك الأشتر رضي الله عنه فأتى رحله وتهيأ للخروج إلى مصر، وقدَّم أمير المؤمنين عليه السلام أمامه كتاباً إلى أهل مصر:
بسم الله الرحمن الرحيم، سلام عليكم، فإني أحمد إليكم الله الذي لا إله إلا هو، وأسأله الصلاة على نبيه محمد وآله، وإني قد بعثتُ إليكم عبداً من عباد الله لاينام أيام الخوف، ولا ينكل عن الأعداء حذار الدوائر، من أشد عبيد الله بأساً، وأكرمهم حسباً، أضر على الفجار من حريق النار، وأبعد الناس من دنس أو عار، وهو مالك بن الحارث الأشتر، لا نابي الضرس ولا كليل الحد، حليمٌ في الحذر، رزين في الحرب، ذو رأي أصيل، وصبر جميل، فاسمعوا له وأطيعوا أمره، فإن أمركم بالنفير فانفروا وإن أمركم أن تقيموا فأقيموا، فإنه لا يقدم ولا يحجم إلا بأمري، فقد آثرتكم به على نفسي نصيحة لكم، وشدة شكيمة على عدوكم. عصمكم الله بالهدى وثبتكم التقوى، ووفقنا وإياكم لما يحب ويرضى، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته). المصدر: الامالي المفيد/ص81
بالطبع سايكولوجية النفس البشرية مجبولة على حب المال والسلطة؛ لذلك يقع المحذور دوما من خلال الانجراف وراء المغريات المادية عند الحاكم او سواه؛ الا الانبياء والمعصومين ومن ينهج وفق الجادة المستقيمة ويتصف بالنزاهة والاخلاص. من هنا وثيقة العهد العلوي هي محاولة تأسيسية معرفية وفكرية اخلاقية وروحية لتجنيب الحاكم الهفوات في ادارته،... وهي وصايا بالرفق بالتجار والاغنياء والفقراء وادارة الشؤون الاقتصادية بحنكة ودراية دون التفريط بأي حقوق....
فما ورد بالعهد الشريف مثالا على ما اقوله:
...ثُمَّ انْظُرْ فِي حَالِ كُتَّابِكَ فَوَلِّ عَلَى أُمُورِكَ خَيْرَهُمْ واخْصُصْ رَسَائِلَكَ الَّتِي تُدْخِلُ فِيهَا مَكَايِدَكَ وأَسْرَارَكَ بِأَجْمَعِهِمْ لِوُجُوهِ صَالِحِ الأَخْلاقِ مِمَّنْ لا تُبْطِرُهُ الْكَرَامَةُ فَيَجْتَرِئَ بِهَا عَلَيْكَ فِي خِلافٍ لَكَ بِحَضْرَةِ مَلا ولا تَقْصُرُ بِهِ الْغَفْلَةُ عَنْ إِيرَادِ مُكَاتَبَاتِ عُمِّالِكَ عَلَيْكَ وإِصْدَارِ جَوَابَاتِهَا عَلَى الصَّوَابِ عَنْكَ فِيمَا يَأْخُذُ لَكَ ويُعْطِي مِنْكَ ولا يُضْعِفُ عَقْداً اعْتَقَدَهُ لَكَ ولا يَعْجِزُ عَنْ إِطْلاقِ مَا عُقِدَ عَلَيْكَ ولا يَجْهَلُ مَبْلَغَ قَدْرِ نَفْسِهِ فِي الأُمُورِ فَإِنَّ الْجَاهِلَ بِقَدْرِ نَفْسِهِ يَكُونُ بِقَدْرِ غَيْرِهِ أَجْهَلَ...
ثُم اسْتَوْصِ بِالتجارِ وذَوِي الصنَاعَاتِ وأَوْصِ بِهِمْ خَيراً المُقِيمِ مِنهُمْ والمُضطَرِبِ بِمَالِهِ والمُتَرَفقِ بِبَدَنِهِ فَإِنهُمْ مَوَاد المَنَافِعِ وأَسْبَابُ الْمَرَافِقِ وجُلابُهَا مِنَ الْمَبَاعِدِ والْمَطَارِحِ فِي بَرِّكَ وبَحْرِكَ وسَهْلِكَ وجَبَلِكَ وحَيْثُ لا يَلْتَئِمُ النَّاسُ لِمَوَاضِعِهَا ولا يَجْتَرِءُونَ عَلَيْهَا فَإِنَّهُمْ سِلْمٌ لا تُخَافُ بَائِقَتُهُ وصُلْحٌ لا تُخْشَى غَائِلَتُهُ وتَفَقَّدْ أُمُورَهُمْ بِحَضْرَتِكَ وفِي حَوَاشِي بِلادِكَ واعْلَمْ مَعَ ذَلِكَ أَنَّ فِي كَثِيرٍ مِنْهُمْ ضِيقاً فَاحِشاً وشُحّاً قَبِيحاً واحْتِكَاراً لِلْمَنَافِعِ وتَحَكُّماً فِي الْبِيَاعَاتِ وذَلِكَ بَابُ مَضَرَّةٍ لِلْعَامَّةِ وعَيْبٌ عَلَى الْوُلاةِ فَامْنَعْ مِنَ الاحْتِكَارِ فَإِنَّ رَسُولَ الله (صلى الله عليه وآله) مَنَعَ مِنْهُ ولْيَكُنِ الْبَيْعُ بَيْعاً سَمْحاً بِمَوَازِينِ عَدْلٍ وأَسْعَارٍ لا تُجْحِفُ بِالْفَرِيقَيْنِ مِنَ الْبَائِعِ والْمُبْتَاعِ فَمَنْ قَارَفَ حُكْرَةً بَعْدَ نَهْيِكَ إِيَّاهُ فَنَكِّلْ بِهِ وعَاقِبْهُ فِي غَيْرِ إِسْرَافٍ ثُمَّ الله الله فِي الطَّبَقَةِ السُّفْلَى مِنَ الَّذِينَ لا حِيلَةَ لَهُمْ مِنَ الْمَسَاكِينِ والْمُحْتَاجِينَ وأَهْلِ الْبُؤْسَى والزَّمْنَى فَإِنَّ فِي هَذِهِ الطَّبَقَةِ قَانِعاً ومُعْتَرّاً واحْفَظِ لله مَا اسْتَحْفَظَكَ مِنْ حَقِّهِ فِيهِمْ واجْعَلْ لَهُمْ قِسْماً مِنْ بَيْتِ مَالِكِ وقِسْماً مِنْ غَلاتِ صَوَافِي الإِسْلامِ فِي كُلِّ بَلَدٍ فَإِنَّ لِلأَقْصَى مِنْهُمْ مِثْلَ الَّذِي لِلأَدْنَى وكُلٌّ قَدِ اسْتُرْعِيتَ حَقَّهُ ولا يَشْغَلَنَّكَ عَنْهُمْ بَطَرٌ فَإِنَّكَ لا تُعْذَرُ بِتَضْيِيعِكَ التَّافِهَ لإِحْكَامِكَ الْكَثِيرَ الْمُهِمَّ فَلا تُشْخِصْ هَمَّكَ عَنْهُمْ ولا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لَهُمْ وتَفَقَّدْ أُمُورَ مَنْ لا يَصِلُ إِلَيْكَ مِنْهُمْ مِمَّنْ تَقْتَحِمُهُ الْعُيُونُ وتَحْقِرُهُ الرِّجَالُ فَفَرِّغْ لأُولَئِكَ ثِقَتَكَ مِنْ أَهْلِ الْخَشْيَةِ والتَّوَاضُعِ فَلْيَرْفَعْ إِلَيْكَ أُمُورَهُمْ ثُمَّ اعْمَلْ فِيهِمْ بِالإِعْذَارِ إِلَى الله يَوْمَ تَلْقَاهُ فَإِنَّ هَؤُلاءِ مِنْ بَيْنِ الرَّعِيَّةِ أَحْوَجُ إِلَى الإِنْصَافِ مِنْ غَيْرِهِمْ وكُلٌّ فَأَعْذِرْ إِلَى الله فِي تَأْدِيَةِ حَقِّهِ إِلَيْهِ وتَعَهَّدْ أَهْلَ الْيُتْمِ وذَوِي الرِّقَّةِ فِي السِّنِّ مِمَّنْ لا حِيلَةَ لَهُ ولا يَنْصِبُ لِلْمَسْأَلَةِ نَفْسَهُ وذَلِكَ عَلَى الْوُلاةِ ثَقِيلٌ والْحَقُّ كُلُّهُ ثَقِيلٌ وقَدْ يُخَفِّفُهُ الله عَلَى أَقْوَامٍ طَلَبُوا الْعَاقِبَةَ فَصَبَّرُوا أَنْفُسَهُمْ ووَثِقُوا بِصِدْقِ مَوْعُودِ الله لَهُمْ واجْعَلْ لِذَوِي الْحَاجَاتِ مِنْكَ قِسْماً تُفَرِّغُ لَهُمْ فِيهِ شَخْصَكَ وتَجْلِسُ لَهُمْ مَجْلِساً عَامّاً فَتَتَوَاضَعُ فِيهِ لله الَّذِي خَلَقَكَ وتُقْعِدُ عَنْهُمْ جُنْدَكَ وأَعْوَانَكَ مِنْ أَحْرَاسِكَ وشُرَطِكَ حَتَّى يُكَلِّمَكَ مُتَكَلِّمُهُمْ غَيْرَ مُتَتَعْتِعٍ فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ الله (صلى الله عليه وآله) يَقُولُ فِي غَيْرِ مَوْطِنٍ لَنْ تُقَدَّسَ أُمَّةٌ لا يُؤْخَذُ لِلضَّعِيفِ فِيهَا حَقُّهُ مِنَ الْقَوِيِّ غَيْرَ مُتَتَعْتِعٍ ثُمَّ احْتَمِلِ الْخُرْقَ مِنْهُمْ والْعِيَّ ونَحِّ عَنْهُمُ الضِّيقَ وَ الأَنَفَ يَبْسُطِ الله عَلَيْكَ بِذَلِكَ أَكْنَافَ رَحْمَتِهِ ويُوجِبْ لَكَ ثَوَابَ طَاعَتِهِ وأَعْطِ مَا أَعْطَيْتَ هَنِيئاً وامْنَعْ فِي إِجْمَالٍ وإِعْذَارٍ ثُمَّ أُمُورٌ مِنْ أُمُورِكَ لا بُدَّ لَكَ مِنْ مُبَاشَرَتِهَا مِنْهَا إِجَابَةُ عُمَّالِكَ بِمَا يَعْيَا عَنْهُ كُتَّابُكَ ومِنْهَا إِصْدَارُ حَاجَاتِ النَّاسِ يَوْمَ وُرُودِهَا عَلَيْكَ بِمَا تَحْرَجُ بِهِ صُدُورُ أَعْوَانِكَ وأَمْضِ لِكُلِّ يَوْمٍ عَمَلَهُ فَإِنَّ لِكُلِّ يَوْمٍ مَا فِيهِ...
يقول الوالي مالي وللبلاد وعمرانها اليوم، وغداً لاعلم لي اين المفر فلابد من جمع المال على عجل اما جشعا وحباً في المال او طلباً لارضاء من قوته بالتملق والتظاهر بالاخلاص في اداء الواجب او ليبذل الرشاد والهدايا لحواشي الملوك والحكام ليدفعوا عنه طائلة الحساب, او يكفوا عنه اذى الوشاة، ويؤكد عليها ان ذلك سبيل معوج، وسياسة فاشلة، ويستكثر على الولاة للسالكين هذا السبيل عدم اتعاظهم بمن كان قبلهم واعتبارهم بما نالوه من الفشل وسوء المنقلب.
فلابد من وجود كاتب بارع بمختلف وسائل المعارف خبير بأحوال الرجال, محيط بما يجد من الاحداث والامور، ورقية الكاتب اليوم في مكتب رئاسة الوزراء ووزير الدولة ومدير التحريرات والمستشار الشخصي ولهذا تجد امير المؤمنين ع يؤكد اهتمامه في ان يكون كتاب ولاته حاوين لافضل الصفات، مسلحين بالعلم والمعرفة، تقيين من معايب الرجال، لان الكاتب واجهة مهمة من واجهات الحكم والحاكمين. فيذكر عليه السلام بأمور من الواجب توفرها فيمن يشغل هذا المنصب, بأن لا تبطره الكرامة والمركز الذي يحصل عليه من الوالي فيجاهر بالعصيان والمخالفة...
ثم الطبقة السفلى من اهل الحاجة والمسكنة الذين يحق رفدهم ومعونتهم وفي الله لكل سعة ولكل على الوالي حق بقدر ما يصلحه وليس يخرج الوالي من ذلك الاهتمام والاستعانة بالله وتوطين نفسه على لزوم الحق والصبر عليه فيما خف عليه او ثقل قول من جنودك أنصحهم في نفسك لله ولرسوله ولامامك واتقاهم حسيباً وأفضلهم حلماً ممن يبطىْعن العفيف ويستريح الى العذر ويرأف بالضعفاء وينبو على الاقوياء وممن لايثيره العنف ولا يقصد به الضعف . ثم الصق بذوي الاحساب واهل البيوتات الصالحة والسوابق الحسنة ثم اهل النجدة والشجاعة والسخاء والسماحة فأنهم جماع من الكرم وشعب من العرف .
ثم تفقد من امورهم ما يتفقد الوالدان من ولدهما ولايتفاقم في نفسك شيء قويتهم به ولا تحقرن لطفاً تعاهدتم به وإن قل فأنه داعية لهم الى بذل النصيحة لك وحسن الظن بك ولا تدع تفقد لطيف امورهم إتكالاً على جسيمها فأن لليسير من لطفك موضعاً ينتفعون به وللجسيم موقعاً لايستغنون عنه وليكن أثر رؤوس جندك عندك من واساهم في معونته وافضل عليهم من جندك فيما يسعهم وما يسع من ورائهم من خلق اهليهم حتى يكون همهم هماً وأخذاً في جهاد العدو فأن عطف عليهم يعطف قلوبهم عليك وإن أفضل قوة عين الولاة استقامة الورك في البلاد وظهور مودة الرعية وانهم لا تظهر مودتهم إلا بسلامة صدورهم ولا تصبح نصيحتهم إلا بحيطتهم على ولاة الامور وقلة استثقال دولهم وترك استبطاء انقطاع مدتهم، فافسح في امالهم واوصل في حسن الثناء عليهم مثل ارائهم ونفاذهم وليس عليه مثل اصارهم واوزارهم ممن لم يعادون ظالماً على ظلمه ولا اثما على اثمه أولئك اخف عليك مؤونة واحسن لك معونة واحنى عليك عطفاً واقل لغيرك الفاً فاتخذ اولئك خاصة لخلواتك وحفلاتك...
يقول الشيخ ايه الله محمد باقر الناصري في كتابه عن العهد العلوي: (ينهى (ع ) عن استيزار من كان للأشرار قبلك وزيراً خاصة منهم من شارك في إثم أو أعان في الظلم فإياك واتخاذهم بطانة فإنهم قلما يصلحوا وعلى فرض صلاحهم فان الناس لا يركنون إليهم ويرون فيهم مثل الانتهازي المتلون وذلك يجر الطعن على الدولة ويشجع الخصوم على التشهير بالحكم وانك بمقياس الفضيلة والتقوى ستجد حينما تطلب خيراً منهم ممن لم يعادوا ظالماً على ظلمه... )
هنا أتوقف بين العهد الشريف وبين الميكافيلية والتي تقوم ان الغاية تبرر الوسيلة حيث ان استخدام جميع الوسائل الشرعية وغير الشرعية من اجل تحقيق المصالح السياسية والاجتماعية لدى الحكام ان كانت ترضي الله وتسخطه وهذا ديدن الظلمة والطواغيت في شتى العصور... بالطبع اي استنتاج معرفي وعلمي من هذه الوصايا العلوية ينتج القيم الايجابية في بناء المجتمع والدولة معا لأن الحكومة جزء من الشعب، والشعب هو الذي اختار حكومته، فكل تطبيق لتلك المثل والمبادئ العلوية في العهد (الاشتري) يعد محصلة نجاح وتحقيق الاهداف السامية والغايات المقدسة للقضاء على التفاوت الطبقي أو هضم الحقوق المشروعة من خلال استغلال المنصب وسوء الادارة وبالتالي حصول النكسة الاقتصادية والاجتماعية بتفشي الفساد والظلم، فمعالجة العهد العلوي هي الانجع في توطيد العدل والنزاهة وقيادة البلد.
قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat