اسقاط الأنا في الشعور الجمعي
د . حنان فاروق
المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.
د . حنان فاروق

مركز الدراسات التربوية والأبحاث النفسية
منذ أن أطلق (فرويد) نظريته في التحليل النفسي، وعلى الرغم من الإعتراضات المادية والموضوعية على مفارز هذه النظرية، الا ان الكثير من الباحثين مازالوا يعتمدونها في توصيف نتائج بحوثهم على وفق ايقوناته الثلاث (الهُو – الهِي، الأنا، الأنا العليا) ولو سلمنا ان (الأنا) هو الحقل الذي يشمل وظائف (الإدراك والمهارات الحركية والتفكير) وهي تقع مجتمعة ضمن ايقاع ظروف البيئة المنضوية تحت آليات الدفاع عن نفسها بما يعرف بالحيل النفسية، التي عادة ما تقوم على تنظيم العواطف والإندفاعات، وتتحكم في اتخاذ القرار، والمشي والحركات الإرادية والحواس الادارية مثل السمع واللمس والرؤية، ويستعملها النفسيون في بعض الأحيان لتعني (الذات)، اما في الاستعمال الدارج في تعني الأنانية او (حب الذات) او الغرور.
وعندما تنغمس (الذات) في اللاشعور الجمعي الذي من وجهة نظر (يونج) يعبّر عن اشكال تفكير عالية، واستعداد لإدراك العالم وفهمه، تصبح جزءا لا يتجزأ من هذا التكوين الذي يرسم خارطة على ادق ادوات الاحتفاظ بالتسجيل المتوازن عبر الزمان والمكان، لتظهر في حالة تواتر الحدث (زمانيا ومكانيا) لتبدو وكأنها خبرة معادة، غالبا ما يشعر معها المرء وكأنه مرّ بهذه الخبرة في مرحلة ماضية من عمره، وذلك لوجود خارطة (الكروموسومات) التي أقرّ العلم الحديث بأنها افضل مخزن لكل الخبرات السابقة لأجيال متقدمة في حياة الفرد الواحد، وتتصل بخبرات البيئة والمجتمع.
من هنا ننطلق الى ان الشعائر الدينية سيما (الحسينية) منها نابعة من ذلك الموروث الذي يعد من القيم الثابتة، تسليما بأن ثبات القيم يأتي بعد مرور ثلاثة قرون على تداولها، هذا في حال انها نابعة من حاجة امة ما يتوافق الشعور الجمعي عليها، ما بالنا اذا كانت نابعة من نهج الرسول الاعظم - صلى الله عليه وآله - الذي قال فيه رب العزة: (وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى) فكان من وحي الإله لرسوله ان السبط الثاني يُقتل مذبوحا على رمضاء كربلاء، فكان مأتمه الأول بين يدي رسول الله - صلى الله عليه وآله - هنا تعامل الشعور الجمعي في حينه على ان المأتم على الحسين عليه السلام من الثوابت الدينية، وليس ثيمة طارئة افرزتها حاجة الأمة لحاجة ما في زمن ما.
وهذا يتوافق مع منظوق النظريات النفسية في تشكل اللاشعور الجمعي عبر العصور (على انه يعتمد على الاستعدادات المتوارثة، وهي ليست الذاكرة والخبرات الشخصية المكبوتة بل تنتج عن التأثير الانفعالي التراكمي للخبرات الإنسانية، اي ردود الأفعال للاستجابة بطريقة محددة ورثت عن الأجيال).
ولما كانت الشخصية العراقية ذات سمات خاصة تتفاعل مع الحدث بحسب قوته وقدرته على التأثر والتأثير في الكم والنوع، نجد ان الشعائر الدينية تلقى اهتماما كبيرا سيما شعيرة الأربعين لمقتل الامام الحسين عليه السلام، اذ يتم فيها اسقاط (الأنا) بكل مكوناتها المادية (الفيزيقية) من المال والمنصب والمكانة العلمية، وبتجرد تام لتذوب في التكوين العام بعيدا عن الذاتية والأنانية والغرور، التي كانت تمارس بوعي او بدونه، فتصبح خليطا متجانسا مع ما يعد في موازين السلم الاجتماعي مع من هم ادناه.
ولا يقتصر الامر على ذلك فحسب بل تصبح خدمة اعلى السلم الاجتماعي لأدناه من دواعي السمو والارتقاء بل الفخر، يتأتى بأساليب تقديم الخدمات القصوى، والتنازل عن الموقع المتقدم في المجالس، والبذل في اعلى مستوياته، والتفاني في ايصاله بسباق قد لا يصل اليه افضل العدائين.
كل ذلك ينطلق من كون:
1- ان الشعور الجمعي يتفق على انها من شعائر الله تعالى، ولولا ذلك لما اقدم رسوله الامين - صلى الله عليه وآله - على اقامة اول مأتم للسبط عليه السلام في حين لم يقِمْه على ابنائه.
2- توافق الشعور الجمعي على هدف واحد وباتجاه واحد وبأسلوب واحد، على الرغم من وجود بعض الاختلافات غير الضمنية لأتباع آل البيت عليهم السلام سيما في التقليد المرجعي.
3- توحد الهم الشخصي في الإحساس بالمظلومية وتوافقها مع مظلومية سيد الشهداء الحسين عليه السلام بتوالي الاحتلالات السياسية والاختلالات الفكرية واثر ذلك على اتباع اهل البيت عليهم السلام.
نخلص من ذلك الى التساؤل كم من الجهد والمال والوقت لتوفير مصحّات تستوعب الملايين لإخراجهم من عقدة الشعور بالأنانية والتعالي والغرور.
قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat