تأملات في سورة المطففين
عبير المنظور
المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.
عبير المنظور

سورة صُبّتْ جميع مقاصدها في بيان عظمة دين الاسلام في الجانبين النظري والتطبيقي على حد سواء اضافة الى ذكر عاقبة الفجار والابرار لتسلية قلوب المسلمين ومراعاة مشاعرهم في ظل الظروف الصعبة.
جاء في فضل سورة المطففين عن النبي ص: (من قراها سقاه الله من الرحيق المختوم)(١)
وعن الامام الصادق ع قال: (من قرأ في فرائضه ويل للمطففين اعطاه الامن يوم القيامة من النار ولم تره ولم يرها...)(٢)
والمطففون هم الذين ينقصون المكيال والميزان (والطفيف النزر القليل وهو مأخوذ من طف الشيء وهو جانبه، والتطفيف التنقيص على وجه الخيانة في الكيل او الوزن)(٣)
تعرضت السورة الى اربع مفاصل مهمة يجب التأمل فيها قليلا:
١- ذكر المطففين واحوالهم:
ان افتتاح السورة بتوعد المطففين بالويل يوحي بأهمية الموضوع من ناحية ومن ناحية اخرى يوضح الاختلاف على مكية ومدنية السورة فاسلوب السورة شبيه بالسور المكية الذي يوجه النظر الى تقرير اصول العقيدة التوحيدية والنبوة والوحي والاخرة من حساب وجزاء مع التقويم الاخلاقي للمؤمنين وتسليتهم في تحمل اذى المشركين خاصة وان ايات في السورة تذكر ان المشركين كانوا اكثر عددا من المسلمين ويستهزءون بهم وبضعفهم وهذا ينطبق تماما على المسلمين في مكة الا ان ذكر المطففين من جهة اخرى يوحي باسلوب السور المدنية الذي ينظم الحياة الاجتماعية في المجتمع الاسلامي الذي قام كدولة في المدينة
اضافة الى حديث ابي جعفر ع (نزلت على نبي الله ص حين قدم المدينة وهم يومئذ اسوأ الناس كيلا فأحسنوا الكيل)(٤) وهو نفس الحديث المشهور عن ابن عباس مما دفع بعض المفسرين الى القول بمدنيتها، ودفع البعض الاخر بقول ان اوائل السورة مدنية وبقية السورة مكية الا ان الراي الراجح والغالب انها من السور المكية(٥) وان ذكرت المطفيين في افتتاحيتها بدلالة حرف الجر (على) في قوله (الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ) (المطففين/٢) هنا عبّر القران ب (اكتالوا على الناس) وليس (اكتالوا من الناس) كما هو معلوم وهذا يوحي بان من يكتال على الناس له سطوة اقتصادية عليهم كمشركي قريش وكبرائهم من التجار الذين اضطهدوا المجتمع المكي اقتصاديا.
٢- ذكر الفجار وصفاتهم ومصيرهم
الفجار هم المتجاوزون للحد في الاثام والمعاصي وان كتابهم في سجين
كما ذُكر المكذبين بيوم الدين ومصيرهم جهنم بسبب الرين على قلوبهم ومصيرهم في الجحيم.
٣-ذكر الابرار وصفاتهم ومصيرهم
وكما هو اسلوب القرآن في المقابلة ذكر الابرار قبال الفجار وان كتابهم في عليين قبال سجين ثم عرجت الايات على ذكر نعيم الابرار في الجنة (إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ ۲۲ عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ ۲۳ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ ۲٤ يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ ۲٥ خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ ۲٦ وَمِزَاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ ۲٧ عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ ۲۸)
بشرى للمؤمنين ولزيادة ارتباطهم بالاخرة وتحثهم على تحمل المصاعب والابتلاءات الدنيوية والتنافس في الخيرات لنيل ذلك النعيم وقد اكال السياق ذكر نعيم الابرار قياسا بعاقبة الفجار تمهيدا للنفصل الرابع في السورة.
٤- تسلية المسلمين في تثبيت مبدأ ان الجزاء من جنس العمل في قوله (إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آَمَنُوا يَضْحَكُونَ ۲۹ وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ ۳۰ وَإِذَا انْقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمُ انْقَلَبُوا فَكِهِينَ ۳۱ وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُوا إِنَّ هَؤُلَاءِ لَضَالُّونَ ۳۲ وَمَا أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حَافِظِينَ ۳۳ فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ ۳٤ عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ ۳٥) في هذا المفصل من السورة اطال السياق الحديث عن كيفية تعامل الكفار مع المسلمين بالضحك والاستهزاء والغمز وميف يقومون بذلك وهم فكهين مسرورين
وبينت الايات كيف ان الجزاء في الاخرة يكون من جنس العمل في الدنيا ففي الاخرة المؤمنون من الكفار يضحكون على الارائك ينظرون اي ينظرون لهم وهي في رفعة ومكانة عظيمة تكريما لصبرهم على استهزاء الكفار وثباتهم على الحق رغم الاذى الذي لحق بهم .
ثم ينتهي عرض الايات السابقة بخاتمة تعبيرية رائعة باستفهام (هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ ۳٦)
ان ذكر لفظة (ثواب) للكفار تحقير واهانة لهم فلا ثواب للكفار كما نعلم وانما جزاء ولكن ذكر الثواب لان الكفار كانوا يعتقدون انهم على حق وان مثابون على فعلهم وانهم يحسنون صنعا فهذا السؤال بهذه الكلمة في الاخرة يكفي لتقريعهم واذلالهم.
وبلحاظ ما تقدم فان التأمل في سورة المطففين نستنتج منها مجموعة دلالات وفوائد منها:
١- ان التطفيف اي بخس الحقوق والغش في الميزان قظ ينطبق على مفاهيم معنوية اوسع كالموظف الذي ينقص من ساعات دوامه او من يغش الناس وينقص من حقوقهم مصيره مصير المطففين في السورة .
٢- الحرب الازلية بين الفجار والابرار مستمرة على مر العصور ولكن بمصاديق متحددة تتلائم مع متطلبات كل عصر .
٣- على المؤمنين ان يتحلوا بالصبر ويجدوا في مقاومة الفجار مهما كثر عددهم وعدتهم وسلطانهم وتحكمهم في العالم -كالماسونية- لان سنن الله الكونية تقتضي هذا الصراع بين الحق والباطل وفي النهاية فان العاقبة للمتقين الابرار في نعيم الجنة الذي فصلته السورة وانه لغاية عظمى يتنافس فيه المتنافسون.
الهوامش:
(١)مجمع البيان، ج١٠، ص٢٦٠.
(٢)الامثل، ج٢٠، ص١٢.
(٣) التبيان في تفسير القرآن، ج١٠، ص ٢٨٥.
(٤) تفسير القمي، ج٢، ص٤١١.
(٥) راجع تفسير الامثل، ج٢٠، ص١١.
قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat