صغارنا غادروا طفولتهم رغماً عنهم، خلال سنوات الحصار، اذ تركوا مقاعدهم الدراسية خاوية وانطلقوا الى الشوارع يعملون من اجل قوت يومهم، بعد ان فقد معظمهم معيليهم .
اولئك الايتام الصغار لم يعودوا يحلمون، فقد سلبت الاحلام منهم بالقوة من قبل، وها هي ظروف اليوم تسلبهم ما تبقى بفعل المفخخات، وتضيف اليهم المزيد من اليتامى..
انهم لا يعرفون معنى ان تطبع الأم قبلة على جبين ولدها قبل ذهابه الى المدرسة.. لايدركون معنى ان يحمل تلميذ شهادة مرصعة بالدرجات العالية. وبالتالي فهم مشروع جيل امي او شبه امي، ومنحرف.
ان الخوف من تفشي امية جديدة بين صفوف ضحايا الحصار والحروب بالامس، والتخلخل الامني اليوم، بما تشيعه هذه الامية من مفاهيم سلبية وسلوكيات منحرفة هو الذي يدفع الخيرين لتوجيه نداء الى كل من تعنيه ابتسامة طفل وسط كل هذا الالم، ليحاول مدّ يده الى هذا المخلوق الشفاف البريء الذي فقدَ معيله بسبب المرض او الفقر او السيارة المفخخة التي تحرق كل ما هو جميل حتى احلام الاطفال الذين تتصاعد تأوهاتهم ،
(الطفلة رفل تبلغ من العمر ثلاث سنوات ـ نموذج من الواقع):
تطرق ابواب غرف البيت باباً باباً ..
اريد امي كريمة .. اين هي ؟ اين تختبئ عني ؟
ربما تتصور رفل ان امها تلعب معها لعبة الاختباء معها، لكن اللعبة طالت واختباء امها طال ..
لذا تصرخ : اخبروني اين امي ؟
انها تحتاج الى حضنها ، الى عناقها ، تريد ان تشم رائحتها وتلمس شعرها وتنظر في عينيها ..
لذا يتكرر السؤال : اين امي ؟
*****
(الطفل علي يبلغ من العمر ست سنوات ـ نموذج من الواقع):
انفجار حصل .. امي .. شيء ضرب عنقها .. قلع رأسها عن جسمها .. انا خائف مرعوب .. اين حضن امي ؟
كانت في ذلك اليوم تصحبني الى الطبيب ، لكنها سقطت امام عيني بلا رأس .. من فعل ذلك بأمي ؟!
*****
يستحضرني ، هنا، وجه طفل ظهر على شاشة احدى القنوات الفضائية، وقد علاه دخان الحرب وغبار الألم.. قال، وهو يفتش بين اكوام النفايات عن قمامة (صالحة) للبيع.. قال: ان والده توفي في انفجار.. فماذا عساه يفعل ليوفر القوت لعائلته؟
وبعد ان وجد نفسه امام ثلاثة خيارات: السرقة، والتسول، والعمل في جمع القمامة وبيعها، كان الخيار الثالث طريقه، وهو اهون الشر عنده.
صورة ذلك الطفل تتكرر يوميا في شوارعنا التي خرجتُ اليها في جولة ميدانية لأستمع الى اصوات بعض اليتامى الذين حُرٍموا من معيليهم واضطروا للعمل في الشوارع ..
*****
احمد صبي في الثانية عشرة من عمره ، حمل بيديه السكائر ليبيعها . كانت اشعة الشمس قد احرقت بشرته وجعلته يتصبب عرقاً في الظهيرة . سألته :
احكِ لي حكايتك يااحمد ؟ لماذا تعمل ؟ وماذا عن مدرستك ؟
اجابني انه فقد والده ، واضطر لترك المدرسة ليعمل ، وهو يعيش وامه وشقيقه مع خاله . سألته ألا يستطيع خاله ان يعيلهم ؟ اجاب بكبرياء عراقي واضح : لا اريد ان يتصدق عليّ احد ، لا اقبل ان امدَّ يدي الى احد .. انا اكسب بعرق جبيني لأعيل نفسي وامي واخي علماً ان اخي يعمل ايضاً .
*****
عادل شقيق احمد الاصغر ، يبلغ من العمر ثماني سنوات ، يبيع الدمى على مقربة من احمد . قال لي انه يتعرض للضرب من اخيه احياناً . سألته لماذا ؟ اجاب ان شقيقه لا يرضى له بأن يتحدث مع بعض الاولاد الذين يعملون قريباً منهما .. ولماذا ؟ اجاب ان شقيقه اخبره بأن اولئك الاولاد يدخنون السكائر ولديهم تصرفات سيئة ، وعليه ان لا يقترب منهم .
قلت له اسمع كلام اخيك دائماً .
*****
زهرة طفلة في الثامنة من العمر ، تركت المدرسة ايضا ً ، قالت لي انها بلا ابوين ، وتعيش مع احدى قريبات والدتها والتي سمحت لها بالعيش معها ، لقاء ان تأتيها الصغيرة بالمال ! فأضطرت زهرة للتسول لتؤمن عيشها وعيش المرأة التي وفرت لها مكاناً للنوم !
*****
ماجد صبي في العاشرة من عمره يبيع الجرائد عند التقاطعات المرورية ، قال لي انه يعيل اخوته الصغار بعد ان فقدوا والدهم . سألته الا يتمنى الذهاب للمدرسة ، قال انه يتمنى ذلك ، ويتألم حين يرى الاطفال الآخرين يحملون الحقائب ويتوجهون الى مدارسهم ، بينما يبقى هو يبيع الجرائد التي لايجيد قراءة موضوعاتها !
*****
باسم طفل لم يعرف البسمة ، هكذا قال لي حين اقتربت منه لأشتري منه الحلوى التي يبيعها في صينية . وحين اعطيته المال ولم أأخذ منه لقاءها الحلوى انفعل ووضع الحلوى في يدي ، وقال : انا لست متسولاً ، ولا ارضى بأن يعطيني احد مالاً بلا مقابل .
اعجبتني عزة نفسه . سألته عن احلامه ! اندهش ، وردّ علي ّ بسؤال مستغرباً : ماذا ؟!
*****
حنين صبية في الحادية عشرة من عمرها ، تحب الرسم لكن ظروف اليتم ارغمتها على ترك المدرسة والعمل في محل حلاقة ، حيث تقوم بالتنظيف . قالت انها يتيمة الأم التي كانت المسؤولة عن اعالتها ، لأن اباها عاجز . وبموت الأم اضطرت حنين الى العمل وترك حلمها في الرسم وراء ظهرها ، لاسيما انها تعود من العمل مساءً وتكون متعبة فلا تستطيع ممارسة هوايتها .
*****
مشكلة اولئك الصغار لاتنحصر في فقدانهم مدارسهم واحلامهم وضياع طفولتهم الندية في العمل او التسول فقط ، وانما في احتمال تعرضهم للاستغلال من قبل العصابات وذوي النفوس الضعيفة التي تتصيد في الماء العكر وتجد في اولئك الصغار اهدافاً سهلة ، فتجندهم لغاياتها وانحرافاتها . فكم من طفل تعرض للانحراف بسبب وجوده في الشارع بلا رقيب وحماية ، وكم من طفل تعرض للقتل والخطف للاستفادة من اعضاء جسده في عمليات مشبوهة ؟! وكم من طفل يدفعه شخص مستغل ليتسول ؟
أليس على المعنيين في العراق وضع هذه الصورة البشعة امامهم لكي يشعروا بما ألم ّ بصغارنا من وجع خطير ؟ ؟
قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat