كان نهارا لاهبا، .. شمسه تذيب الحصى.. إنه نهار ليس ككل النهارات، يكتنفه الوجوم.. وكأنه ينذر عن خطب عظيم في خضم عاصفة سوداء عاتية.
فالأبصار شاخصة تنتظر ساعة السعادة الأبدية، والقلوب حرى والأكباد عطشى.. تجف شيئا فشيئا، والبطون خمصى لم تذق كسرة خبز، والشفاه قد ذبلت من شدة العطش.. لكنها تلهج بذكر الواحد الأحد فتقدموا غير مكترثين بالحياة بل شوقا إلى الموت الذي لابد منهه فانتهوا في ساعتهم.
وهناك وقفت شامخة.. كشموخ الجبال الشاهقات، واعتلت تلة يتيمة وحيدة، كيتم أطفال شهداء الطف.
نظرت نظرات فاحصات، وإذا بجموع غربان ووحوش الامويين يتحلقون حول الجريح الشجاع.. قد أصابهم الرعب والخوف وهم يترددون في الوصول إلى جسده الطاهر المنهك، خوفا ورهبة، لانهم أمام ليث عجزت الليوث الفاتكات عن مجاراته او الصمود امامه، صاح بهم ابن سعد - لعنه الله - (ويلكم اريحوا الرجل.. أريحوه)! ولكن من يجرؤ على التقرب منه أو لمس جسده المقدس، علت غبرة سوداء واخذ يصطدم بعضهم بالبعض، كارهين النظر إليه، رغم أنه جريح متعب، فقد كان كالبدر في ليلة تمامه حتى قال أحدهم: (لقد شغلني نور وجهه عن الفكرة في قتله).. إنهم قتلة قست قلوبهم وباتت تنهل من حميم الحامية، تتلظى قسوة وجسارة، والحقد الدفين يملأ قلوبهم القاسية.
ثم جثى اللعين على صدره الطاهر لا يرعوي ولا يخاف ذمة ولا ضميرا وكأني بهم قد جردت قلوبهم من الرحمة والشفقة.
كيف سولت لهم أنفسهم فعل هذا!؟ ألم يعلمو أنه حبيب المصطفى (صلى الله عليه وآله)، ألم يعلموا أنه ابن من (دنا فتدلى فكان قاب قوسين أو أدنى)!؟
حتى كأن ابليس الرجيم، تعجب واندهش لهول المصيبة، وعظم المصاب الجلل، وهو يقول: ربي إن هذا أشد مني مضاضة وكرها ولا أجرؤ على فعل ما فعلوه بابن بنت نبيك (صلى الله عليه وآله)، وفعلوها.. وكأني بالسماوات تريد أن تطبق على الارض واهتز العرش وبكت ملائكة السماوات (تهدمت والله أركان الهدى) فقالت الحوراء زينب (سلام الله عليها) بعينين مغرورقتين بالدموع: (إلهي تقبل منا هذا القربان).
وهي تحث النساء المخدرات العلويات على الصبر على ما جرى وعلى الآتي!. وتحلق حولها الصبية اليتامى.. تحلق الاطفال حول الأم الرؤوم. الخيام تحرقها نيران الغدر والحقد والكفر.. هناك طفل يصرخ..، إنه يفتش عن ملاذ يلوذ به وسط دخان كثيف بينما أيادي القتلة العابثين راحت تعبث بأشيائهم وممتلكاتهم دون وازع من ضمير أو إنسانية، وأجساد الشهداء تناثرت على الرمضاء هنا وهناك تحت وطأة حرارة الشمس اللاهبة؛ هذا مقطوع الرأس، وذلك مقطوع الكفين، ومن بعيد كان القمر الزاهر قد تضرج بدمه الزاكي..! قد قطعوا زنديه وكفيه، وفي جبينه سهم وعينه وجبهته.. جسده الطاهر قد امتلأ بالسهام الغادرات - واحر قلباه- ما أشد جرأتهم على الله عز وجل. وما أقسى تطاولهم على محمد المصطفى (صلى الله عليه وآله)... كأن الدين أصبح لعقا على أفواههم.. وأصبح الدرهم والدينار إمامهم، وقتل ذرية رسول الله صلى الله عليه وآله ديدنهم، فنساهم التاريخ وعفت قبورهم واندرست.
واليوم اصبحت قبور الشهداء محجة للزائرين وقبلة للمحبين يلهون بالدعاء للدرجة الرفيعة التي ارتقوا إليها.. يطلبون الشفاء ويتوسلون بالشفاعة لهم إلى يوم الدين
قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat