تأييد الأئمة لشعراء الفاجعة، كان له أبلغ الأثر في حفظ تراث المشروع الحضاري المرتكز على بيان النواحي الفكرية والعقائدية والتشريفية للثورة الحسينية، وإذكاء جانب العاطفة، وضرورة ممازجة القلبي بالعقلي، وإدخال عنصر العاطفة، فليس هناك ملحمة استطاعت من رفد المعرفة العقلية والفكرية كالملحمة الحسينية الخالدة- ولكي لا يؤدي تردي الحالة السياسية إلى تردي الحياة الثقافية والفكرية. وقف أئمة الهدى (ع) وعياً وثقافة وفكراً أبان الحكم الأموي والعباسي- وما عجزت عنه وسائل الإعلام من دمج العاطفة في الفكر، استطاع المنبر الحسيني فعله. فالجانب المأساوي بدأ في الروايات المنقولة عن الأئمة وخطب العقيلة زينب (ع) حيث سيطر الحس الوجداني مع دلالات فكرية ساطعة مع التأكيد على القصد الثوري الأول لقائد الملحمة المتمثل في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
فقد سعى لتعديل كثير من الأعمال السلوكية، ليصبح الأداء المأتمي جزءا من البكاء الواعي الذي هو نصرة، وتوجيه الروح إلى مفهوم إصلاحي، وهذا هو حرص الأئمة عليهم السلام على الزيارات، واستثمار المناسبات وتشجيع الأدب المصائبي لكونه يتجه لإثارة الجانب الفكري، ولهذا الأمر تم إخراج السيدة زينب من المدينة سنة 61هـ أي بعد 7 أشهر من الإقامة فيها، لكونها ساهمت في تقوية الجانب العقائدي والفكري البنـّاء الذي أصبح يهدد حكومة الأمويين، وهذا ما شعرت به الدولة العباسية في عهد المنصور والمتوكل وإصرارهما على محو أثر الإمام الحسين (ع). ولكن زيارات الأئمة عليهم السلام استثمرت لحشد التأييد للمشروع الحسيني الإسلامي، والعمل على إبراز الأثر المعنوي، فالجانب المأساوي ساهم بشكل كبير في بلورة مشروع نهضوي.
وبعد مرحلة الـتأسيس المنبري التي أنشئت على يد العقيلة زينب والإمام السجاد عليهما السلام أصبح الدور الأول للشعراء في عقد المجالس بحضور الأئمة (ع). وبعد ظهور الحكم الشيعي في حلب والقاهرة وإيران ساعد في تدعيم المنبر الحسيني. وبعد سقوط بغداد على يد هولاكو تم التركيز على القصة لكونها تعكس الجو السياسي والوجداني، مما أدى إلى تطوير المنبر، فقد كان العراق هو المرجع الثري للمنبر الحسيني، وقد تخرج من هذا البلد سادة التجديد والتطوير كالشيخ كاظم السبتي المتوفى عام 1919م أديب وخطيب له باع في حفظ نهج البلاغة عن ظهر قلب، والسيد صالح الحلي المتوفى عام 1929م أديب وخطيب ورجل تاريخ، والشيخ اليعقوبي المتوفى عام 1965م والشيخ الوائلي (رحمه الله) الذي ادخل الأدب بالعلم- وكانت كل مدرسة من هذه المدارس خطوات متدرجة في تطوير المنبر إضافة إلى السيد محسن الأمين الذي وضع منهجية تجديدية ساهمت في بلورة مهمة للالتفات على دور الإمام المعصوم بما يحمله من ثقل روحي وفكري ومعرفي معطاء، ثم وجود الوعي العاطفي الذي له آثار كبيرة في بقاء المآتم الحسينية، بالتوازي مع الجانب العقلي الذي أذكى صوت المنبر الحسيني وأعطاه سنداً ساعد في بقائه... والآن نجد أن أحد الطرق التي يسلكها التبليغ الحسيني في الدول الأوربية هو توضيح إن الحسين قتله طاغية مدمن خمر، غرق بوقوفه ضد العدالة وضد حقوق الإنسان، فالخطابة المنبرية تحتاج إلى تنوير وتأهيل ومنهجية، وقراءة المفاهيم التاريخية والإجتماعية قراءة صحيحة، ولا تقتصر على تناول القضايا الشخصية.
سئل الإمام الرضا عليه السلام: كيف يحيي الموالي أمركم؟ قال (ع): (يتعلم علومنا ويعلمها للناس، فإن الناس لو علموا محاسن كلامنا لاتبعونا...) وهذا يعني ضرورة تحسين الأداء التخاطبي مع الآخر الذي هو خارج المذهب أو خارج الدين، ودعم هذا التوجه بمختلف الأساليب- فعلى الخطيب الحسيني أن يكون ملماً بكثير من النواحي الفكرية الواردة في كتاب الله والسنة المطهرة. ومعرفة علم إيصال الحديث والعلوم الإنسانية والإسلامية والعربية مع وجود الإخلاص والتقوى والشعور بالمسؤولية، بإبعاد المنبر الحسيني من الذاتية والفردية والفئوية، وامتلاكه الوعي العام والتحلي بصفات مهنية ثقافية، وتشكيل قاعدة أكاديمية لتفعيل الجانب العاطفي.
قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat