أسبل جفنه السماوي ذاك الذي كأنه جنح ملائكي يتهادل في عالم الملكوت،تلك العينان اللتان تختصران العالم حين تراهما،ذلك الطول الفارع كنخلة سامقة لا تأبى الخضوع،أصوات العطاشى تلوذ بصمته، كانوا على ثقة به أنه يجلب لهم مايريدون، فالنخل لا يبخل على من هزّ أعذاقه،فلملمَ خيوط إشراقه، وراح على مطهمه،جلب الماء للعيال أكبر همه، حتى تكنى بأبي قربتهِ.
في الجانب الآخر،تكمن البغايا الذين سرقوا عيون الماء وكُحلها، ومنعوا الماء على الحسين (عليه السلام) وعياله، لم يمنعوه عليهم فقط بل على محمد المصطفى (ص)، وأي كبدٍ أعطشتموه..؟! كانت البسمة لاتفارق شفتيه، وقربته تتدلى على كتفيه،أم البنين (عليها السلام) ترتجز له حتى يصل، حتى يسقي عطش الحسين (عليه السلام)،إيهٍ على عطش الحسين.. اي وفاء أرضعته، أي صفاتٍ أسبغته،يا فائقة الوفاء يا سيدة العطاء يا حبيبة الزهراء، أي قربانٍ قدمتِ لريحانتهم،يا أم البنين ماذا فعلتِ؟!
في الضفة الأخرى أصحاب الشمال،وقود النار التي لم تبرد نارها إلى يوم القيامة،أزيزهم كوحوش لم ترعوي يوماً ولن ترعوي،كان ومازال لهم عواء يؤذي سكان الجحيم،أي جرم فعلوا بهذا الكريم،نادوا بأصواتهم النكراء من معسكر ابن أبيه، ذلك الذي لا يعرف سوى قرع الطبول،فأي آية من آيات ربه اليوم تنجيه؟! نادوا بحناجرهم الخالية من ذكر الله،امنعوا عنهم الماء..
راح يكرم القربة من ذاك الفرات.. وهو سيد مائه
صفع هواه براحتيه كأنه.. ذاك الصراط المستقيم الأنزعُ
وراح ينظم في الوفا أبياته .. أني أنا السقاء لا لا أجزعُ
حمل قربته،وراح يجاهد نفسه: (والجود بالنفس أقصى غاية الجودِ)،
يا نفس من بعد الحسين هوني .. وبعده لا كنتِ أن تكوني
محى وجوده في حضرة سيده،وراح يسقي العارفين على حده، هناك الكل واقف على أمل اللقاء،زينب تنتظر ظله لتحتمي به كيما تراها أرض ولاسماء،سكينة التي تعده دعاء ندبتها،وأما الحسين فكيف سيقوم بلا ظهره،عمود خيمته الشامخ ينتظر عودته كي يشمخ أكثر بعودته، الكل ينتظره فمتى تعود يا عماهفظهورنا قد احدودبت ...
هناك بدأت أم البنين (عليها السلام) تصلي صلاة الآيات إيذانا بخسوف قمر نينوى،هناك حدثت ظاهرة كونية لم تشهدها الأرض يوما وكذا السماء،شعر الحسين بانحناءة مفاجأة في ظهره،والكل شعر بذات الشعور،وتقلقلت بين يدي السطور، هرع الحسين على صوت لم يسمعه يوما يردد بذاك الصدى،كان يسمعه يناديه بالموالاة والسيادة،سمعه اليوم مناديا: (يا أخاه أدرك أخاك)، نزلت دمعة بلورية على ذلك الخد الملكوتي،من ذلك الجسد لم يبقَ شيء على قيد الحياة لم يقطعه البغايا سوى ذلك الصوت الذي مازال يدوي صيته في أذن تاريخ الماضين والحاضرين، وقص له قصته ورأى كفيه إلى جنبه وقربته،والسهم ماذا يفعل في عينه واحسرته..!
عاد الحسين إلى الخيام لوحدهِ، كفاه ملعب للرياح،وجهه يعلوه النياح،يمشي على غير عادته، منكسر الظهر وهو في جل هيبته،راح يطوي عمود خيمته،فهوى العمود ايذانا برحيل صاحبه:
من أي عضو سالم ذاك الفتى .. قال الحسينُ بدمعةٍ متسافلة
عيناه تحكي للجموع خسوفه .. فهوت سكينةُ والعظامُ ناحلة
أم البنين تشد عضْد حسينها .. تفديك روحيَ وابنها متسائلة
أني أريده حاميا عن سيدي.. أو هل وفىأم كيف أمسى مقتله؟
يا أمنا يا نبعة الإحسان يا أم الوفا.. عباسُ قد أمسى بصدر القافلة
قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat