أرى قلمي في حيرة واضطراب عما سيكتبه ويخطه في حضرة امير المؤمنين عليه السلام، وما الجديد الذي نريد ان نذكره عنه عليه السلام ، وذكره قد عم الخافقين؟ ومن منا لايعرف من هو علي بن ابي طالب، صريخ المؤمنين، هداية التائهين ونور الضالين وامل الضعفاء والمحرومين؟
الا أن الطمع قد اخذ مأخذه مني، فتجرأت لكتابة بعض السطور، وهي غيض من فيض هذا العملاق الذي لم يستوعبه التاريخ، عسى ان تكون تلك السطور شافعة لي يوم لا ينفع مال ولابنون...
نشأ أمير المؤمنين عليه السلام في منزل رسول الله صلى الله عليه وآله، استقى عروقه من منبع النبوة، وتهدلت أغصانه من نبع الصدق والامانة، تربى في بيت الوحي والتنزيل ولم يفارق النبي صلى الله عليه وآله، وهو نفس النبي بنص آية المباهلة (فقل تعالوا ندع ابنائنا وأبنائكم ونساءنا ونساءكم و أنفسنا وانفسكم)آل عمران /61.
تأسى امير المؤمنين بالانبياء والمرسلين في طعامه ولباسه كما جاء في بعض خطبه التي يقول فيها :(لقد كان لي برسول الله أسوة إذ قبضت عنه أطرافها ووطئت لغيره اكنافها، وأن شئت ثنيت بموسى كليم الله اذ يقول :ربي أني لما انزلت إلي فقير، والله ما سأله الاخبزا يأكله، وإن شئت ثلثت بداوود صاحب المزامير، وقارئ أهل الجنة فقد كان يعمل سفائف الخوص بيده ويقول لجلسائه:ايكم يكفيني بيعها ويأكل قرص شعير من ثمنها، وإن شئت قلت في عيسى بن مريم فلقد كان يتوسد الحجر ويلبس الخشن ويأكل العشب، وكان آدامه الجوع وسراجه الليل والقمر، وظلاله في الشتاء مشارق الارض ومغاربها وفاكهته وريحانه ماتنبت الارض للبهائم، ولم تكن له زوجة تفتنه ولا ولد يحزنه ولا مطمع يذله دابته رجلاه وخادمه يداه.) '1. وقد قال الامام الحسن عليه السلام في صبيحة اليوم الذي استشهد فيه امير المؤمنين:ايها الناس ان هذه الليلة التي توفي فيها ابي هي ليلة القدر، وقد نزل بها القرآن وقتل يوشع بن نون، والله انه لافضل الاوصياء الذين كانوا قبله ويأتون بعده ما ترك صفراء ولا بيضاء الا سبعمائة درهم فضلت من عطائه كان يجمعها ليشتري بها خادما لأهله. "2
فقد ترك عليه السلام متاع الدنيا وملذاتها تحت قدميه فكان بهذا التأسي يشكل مرآة عاكسة لشخصية الرسول الاعظم صلى الله عليه وآله.
ولعلي عليه السلام مع الليل حكاية لايفهمها الا العارفين، كانت عبادته نابعة عن علم ودراية وملؤها الاخلاص لله تعالى، قال ضرار بن ضمرة يصفه عليه السلام:كان والله صواما بالنهار قواما بالليل، والله لقد رأيته ليلة من الليالي وقد اسدل الظلام سدوله وغارت نجومه وهو يتململ في المحراب تململ السليم ويبكي بكاء الحزين ولقد رأيته مسيلا للدموع على خده قابضا على لحيته يخاطب دنياه فيقول :(يا دنيا اليك عني أبي تعرضت ام اليّ تشوقت؟ لاحان حينك هيهات غري غيري، لا حاجة لي فيك قد طلقتك ثلاثا لا رجعة لي فيك....) " 3.
ولم تكن عبادته عليه السلام طمعا في جنة ولا خوفا من نار وانما وجده اهلا للعباده فعبده وتلك هي عبادة الاحرار. فكان عليه السلام يرى الله تعالى في كل شئ، ولم يكن يرى غيره. ولم يغفل عن ذكر الله تعالى حتى في اشد وأقسى الظروف، وموقفه مع عمر بن ود العامري حينما أراد اللعين أن يستفزه خير مثال على ذلك فقد كان أمير المؤمنين جالسا على صدره يريد ان يحتز رأسه، لكنه عليه السلام قام عنه ثم عاد اليه وذبحه، فسأله رسول الله عن ذلك، فقال :(قد كان شتم أمي، وتفل في وجهي، فخشيت أن اضربه لحظ نفسي، فتركته حتى سكن مابي، ثم قتلته في الله ) "4
نعم هذا امير المؤمنين عليه السلام الذي تعجز الاقلام عن وصفه لانه عطاء لانهاية له، عمرا حافلا بأروع صور الأمثلة والبطولات ترك الدنيا وزينتها لعشاقها، وقد ودع الحياة وهو يوصي ويقول :الله الله في الفقراء والمساكين فاشركوهم في معايشكم ، الله الله في ما ملكت إيمانكم فأن رسول الله في آخر ما أوصى به قال :أوصيكم بالضعيفين مما ملكت إيمانكم، ومضى يقول :قولوا للناس حسنا كما أمركم الله ولا تتركوا الامر بالمعروف والنهي عن المنكر فيتولى ذلك غيركم، وتدعون فلا يستجاب لكم....) " 5
.................
1-سيرة الائمة الاثني عشر ص306
2-نفس المصدر ص307
3- لمنتخب من سيرة المعصومين ص135
4مستدرك الوسائل ج18ص28
5-سيرة الائمة الاثني عشر
قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat