ان الصفة الغالبة على الفلم الوثائقي والتي تتجلى في واقعية الحدث الذي ينقله الى عيون المشاهدي، وهو نقيض الروائي الذي هو نسيجٌ من أحداث متخيلة قد لايكون لها وجود في الواقع بكل التفاصيل. ولا يمنع ان يتدفق من الفلم الوثائقي بالرغم من واقعيته عالم آخر تنسجه مخيلة الكاتب أو المخرج لتنشيط مخيلة المتلقي بتكوين سلسلة من الصور بتجاوراتها وتناقضاتها لتحمل دلالات واسعة ليس لها حدود بأبعاد وصياغات جمالية يندمج بواسطتها الواقع والمتخيل فتكون المادة الفلمية المطروحة قد حققت غايتها المنشودة. ومن خلال ذلك أدخل في قراءة متواضعة الى (العرين) لأتبرك بالأسد الذي تناوله نص الشاعر ( علي الخباز) الذي حلـّق بنا بلغته الشعرية الى عوالم وآفاق تلونت وأزدحمت بأسراب من طيور مخيلتنا وفراشات أحاسيسنا. وهو نص يدخل ضمن مجموعة من نصوص سبقته كتبها الشاعر بنفس الاسلوب منها فلم ( القاسم) و(ماء الخلود) وهي من اخراج عادل الياسري وانتاج قناة الانوار الفضائية، وفي رأيي الشخصي إن هذه المجموعة من النصوص الفلمية اتخذت أسلوباً مغايراً عن الافلام الوثائقية الأخرى والتي تناولت نفس الموضوع وذلك من خلال اللغة الشمولية المستخدمة في كتابة التعليق وطريقة قراءته حيث تفجير جملة من الاحاسيس بتلوين صوتي يتوافق مع شعرية النص وشاعرية الصورة وحيويتها، فنتساءل الى أي مدى استطاع مخرج العرين الأستاذ( دريد سلمان داود) والذي قام بمونتاجه أيضاً أن يرتقي بالنص ويحقق هدفه . فمن خلال مفردة ( العرين) عنوان الفلم يمكننا أن ننتقل إلى المنطقة التي اشتغل عليها الكاتب، وقد استعارالمخرج لقطة رائعة بالحركة البطيئة وهي لقطة الأسد وكأنه يريد أن يفسر لنا كلمة (العرين) مما أدى الى كشف الموضوع من البداية وبشكل مباشر، ليقول لنا ان الذي يرقد خلف الشباك هو (الأسد)، واذا كان لابد من استخدام هذه اللقطة الرائعة كان على المخرج أن يفتح لنا من خلالها أبواباً تعرفنا بالأفعال البطولية للشخصية وتاريخها وشجاعتها، وذلك بإمكانية تجسيد وربط بعض المشاهد الدرامية التاريخية لتعميق وتوضيح جوانب مهمة للشخصية ومن خلال تكوينات الصورة المرئية التي تتلقاها عيوننا ثم الانتقال تدريجياً إلى المكان المطلوب الذي ظهر في لقطة تالية.
إن هناك تبايناً كبيراً بين قوة لقطة الأسد في حركته التي تشد المشاهد وبين لقطة الضريح الذي لا حركة فيه والأوْلى والأجدر أن تربط لقطة الأسد مع لقطة متحركة أيضاً كالراية مثلاً أو لقطة لفارس يشق الصحراء وما شابه ذلك .
حاول المخرج أن يجسد لنا بعض عوالم النص المكتوب بلقطات شاعرية جميلة تألقت في تعبيريتها بعدسة المصور (غسان عبد العزيز الياسري) وبزوايا تصوير وحركة كاميرا ذات دلالات واضحة.
أن التدفق الشعري للنص يحتم على المخرج أن يتدفق بصور مرئية ترتقي به وتعمقه من خلال تفجير مرئي للكثافة الشعرية فتكون الصورة المرئية حينذاك بمستوى الصوت الذي يعبر عن الصورة ذاتها. أقول: لقد استطاع المخرج إلى حدما أن يبرز لنا بعض اللقطات المغايرة لما هو مألوف في اللقطات الأخرى من الفلم، فمن اللقطات الجميلة والمتميزة (لقطة المئذنة الممتزجة مع لقطة مئذنة أخرى وهي ترتفع إلى الأعلى بحركة كاميرا من الأعلى إلى الأسفل) أعطت للمئذنة شموخاً مركباً وكأنها تصعد إلى السماء.
ولقطة دخول الزائرين في الباب يحيطهم الضباب حيث نقلتنا هذه اللقطة إلى عالم ملكوتي وكأنهم يدخلون إلى جنة الخلد في جو مليئ بالطهارة والنقاء والرفعة.
ولقطة انهمار الماء كالشلال حول الضريح وتوحي بشلال العطش وشلال الفكر والأهداف والقيم السامية وغيرها من اللقطات التي كان يمكن الوقوف عندها.
وتعميق مضامينها وإطالتها فهي أكثر تأثيراً على المتلقي مما تجعله مندمجاً فيتأمل ويفكر ويسبح في عوالمها وهذا هو التأثير الذي تحدثه الصورة.
وفي حقيقة الأمر لقد طغى النص على الصورة في تدفق الأفكار وبالمقابل أيضاً كان النص مثقلاً بالدرجة التي لم يفسح للمخرج التصرف في ربط الصور وإعطاء لحظات تأملية يستريح بها المشاهد.
كانت المعلومات تأتي متتالية وسريعة وبصوت المعلق (جاسم أبو فياض) الذي حاول أن يعبر بصوته بالشكل الذي يجسد معنى الكلمة ويطلق أحاسيسه الجياشة بين آونة وأخرى حسب ما تتطلبه الصورة، ولكن في الكثير من مواضع الفلم اختلف جو الإلقاء عن المواضع الأخرى حيث انعدام الانسيابية والتدرج فأحسسنا بقطوعات مفاجئة واختلاف في طبيعة الصوت ويتحمل جزء من هذا الخلل مهندس الصوت (أحمد العويدي) وفي محاولة ربط الماضي بالحاضر وظـّف المخرج بعض الصور الفوتوغرافية الثابتة وبطريقة المزج لأطفال سبايا وعطاشى لإيجاد العلاقة بين ما حدث ومايحدث.
ولكن كان من الأفضل استخدام أو استعارة صور متحركة ذات فعل درامي مؤثر لا سيما أن واقعة الطف لها ذاك الفعل الحركي والمؤثر على طول الزمن، وعلى العموم أن الفلم استطاع أن يقول ما يريد بالرغم من الإطالة التي وردت في قسم كبير منه تجاوز النصف ساعة، وكان بالإمكان اختصار ذلك بوقت أقل وإذا كان الهدف من الإطالة التشويق للوصول إلى الغاية فالأجدر أن ينوع المخرج بلقطاته وبجمالياته وتكويناته الصورية كي لا يحدث التشتت والملل وبذلك فقط يكون الوصول إلى (العرين) بوقع وتأثير أكبـر على المتلقي، . أن تناول موضوعة الواقعة بكل ما تحمل من معاني وأفكار ومواقف يجعلنا أن نكون أكثر ارتقاءً وتجسيداً وابرازاً للمفاهيم الانسانية من خلال الصورة المرئية المؤثرة بصيغ ابداعية وبتقنيات ورؤى حديثة تصل إلى مستوى التضحيات التي بذلها الإمام الحسين(ع) .
قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat