أتمنى أن ألتقيه، أحاوره، أحمله في إجازة لكربلاء، أسأله: كيف حال الجراح، النزيف، الدم، كتفه المخلوعة..؟ كان يجتمع الأبالسة حوله حلقات والكل يضرب، اندهشوا لكتفه التي ما مالت من ألم، ولا هزها خوف فخلعوها، لم يرعب قلبه القساة، ولا اهتم للتهديد والوعيد والشتائم والسباب المر، فهو يعرفهم، وهم لا يعرفون شيئاً عنه، سأقول له: الحمد لله على السلامة دكتور، واعلم انه استشهد وذهب الى الله سابحاً بدمه، (رغم أن والدته تقول: ابني طبيب، لم يفعل شيئاً، وتظن انه سجين لحد هذه اللحظة..!).
سأحاول أن لا أعكر عليه صفو الشهادة وهناءة منزلته، هو مجرد استذكار يحمل نبضات القلب ثم يعود، كيف سيكون شكل اللقاء لا أعلم، وكل الذي أعرفه اني سأحذر أهله من العناق سأقول لهم:ـ احذروا.. فالكتف المخلوعة ما زالت تؤذيه، ليستطعم منها حلاوة الجراح.
لا أعتقد اني بحاجة لبطاقته الشخصية: كالاسم، الكنية، تأريخ الولادة، رقم المسكن؛ لكونه شهيداً، والشهادة هوية بحد ذاتها لا تحتاج الى تعريف، ولكي لا أكسر خاطر متلقيه أعرفه، هو علي ثابت شبل الساعدي مواليد 1965م كانوا يفتشون عنه في البيوت، الأزقة، الجامعة، المستشفى، المراقد والجوامع، لم يتركوا خيمة من خيام الطف المبارك إلا فتشوها، بحثوا عنه في صدر كل متعب، خافوا أن يضمّه بين آهات حسرته.
قلت: دعوني أساير الراوية، ولا أقفز على الأحداث، بذرة كربلائية طاهرة، هو ابن الشعائر الحسينية، هو ابن الزيارة الشعبانية ببهجتها، وابن الزيارة الاربعينية بما تمتلك من جراح، كربلاء تئن فيه مجروحة، لطمت صدور بنيها في عاشوراء الحسين (عليها السلام)، لكنها وقفت بوجه الموت، القذائف، شراسة الجيش الهمجي، وحملت الجيش الدكتاتوري اضعاف ما كان يتوقع من خسائر، استغنينا حينها عن التوابيت وحتى عن المقابر، فدفنا الشهداء أمانة في اعناق الأرض، والأغلب منهم ابتلعتهم دوائر الأمن وأحواض التيزاب، أكل هذه الآلام وتريدون منا ان نلتزم تسلسل الأحداث؟ هل تتصورون أني أكتب رواية مثلاً.. لا.. أنا اكتب عن اوجاع امة، ومصير شعب، وأحلام الشهداء، أنا اكتب عن ذكرياتهم وبهجتهم المليئة بالجراح.
كان معدله يؤهله لطب بغداد، لكنه فضل طب الكوفة، الحياة لم تكن طيبة مع الجميع، والدنيا ليست واسعة مع من لا ينتمي لحزب يعتمد على شكلية الانتماء العددي، لذلك يقسر الانتماء على الناس وخاصة الموظفين والطلبة، عانى علي ثابت الساعدي من الدعاوى الكيدية لحزب يعتبر الدعاء منشوراً سرياً يهدد أمن الدولة.
كربلاء لا تركع امام القذائف والصواريخ وقنابل الكيماوي؛ كونها كحلت عين التراب الكربلائي بوهج الحسين (عليه السلام) الزاكي، ولذلك رغم أنه الأول على دفعته لكنهم اختاروا طالبا آخر للدراسات العليا، ينتمي لهوية الطغاة، أدهشني قول أحد القادة العسكريين ممن تجاوز على قدسية مدينة، يقول: أنهكت القوات المتجحفلة كربلاء، لكنها لم تمت، حين مشيت في شوارعها أدركت قوة الحنين الحسيني المغروس في قلبها، كربلاء المدماة نهضت لشهدائها أشعرتني بأن النصر على كربلاء وهم تناسلته الأحقاد من يوم ان اعتمر ابن سعد صلاة الشكر لانتصاره الموهوم على كربلاء..!
تظل كربلاء رقيقة المشاعر، رغم ما مر بها من جراح وألم، فبعد دوام سنة في المستشفى الحسيني أخذوه عنوة الى الكويت أيام غزو العتاة، فكان يحن على مرضاهم، اطمئني يا كربلاء، ابنك لا تجرفه غزوات السراق، يبقى الحنين الكربلائي ينبض بالغيرة والمحبة والوجدان، عالج طفلة صغيرة كان يناديها (كناري).. شاب مثقف يدور الوطن بين مقلتيه ويتجه قلبه الى الرفض.. الله.. ما أجمل كربلاء في عيون محبيها في ثباتهم، في عنادهم.
زار بيته يوماً الدكتور كاظم جودي (رحمه الله) بعد عودة الدكتور علي من الكويت ليترجى والده ان يحثه لاستلام الراتب، فرفض الراتب محنة توقع صاحبها بحرج قد يصل به الى السجن والتعذيب والقتل، ويعني انه غير راض عن الحرب، عن الحزب، وعن القائد الضرورة، لهذا كانت الفكرة استلام الراتب وإهداؤه لجهة خيرية، وفي الانتفاضة كان الموقف واضحاً هو الدفاع عن هوية كربلاء المطعونة الظهر، لوضع حد للظرف المأساوي، ومنذ أول ساعات الانتفاضة، فتح عيادته في صحن العباس (عليه السلام)، وراح يسعف الجرحى ويعالجهم ويداوي المرضى، لم تثنِ عزيمته القذائف ولا الوعيد الشرس، وتحمل كل هذا العويل؛ لكي تغفو كربلاء بقيلولة أمان.
الجيوش تتوافد وتتوزع على جهات المدينة الصغيرة، لكن الغريب في الأمر كانت تتسع، تكبر ليتيه فيها جيش الطاغية، الكربلائيون فاجؤوا القوات بصلابة تحديهم، والدكتور علي يجوب الأزقة ويعالج الجرحى في بيوتهم، يعبر جسر الموت الذي أعدته القوات الهمجية لترعب كربلاء، ولتمنع حراك الناس؛ لتأمين حركتها لا شيء يدور في رأسه سوى أن يصل الى الجرحى في بيوتهم، يعبر جسر الموت الذي أعدته القوات الهمجية لترعب كربلاء يترك قلبه عندهم.
ينهض الطف المبارك في أعماقه، الرصاص يأتي ليتطهر في ربى هذا الطهر، تصعد بهدوء الى السماء، كربلاء تصغي لشهادات الشهود ممن عاشوا معه ويلات الرضوانية أمثال: الأستاذ فايق عوز، وسيد صادق ماميثة، تجاوز صبره اثر التعذيب فراح يسب الطغاة في قعر دارهم.
وفي أحدى مواقفه البطولية كان احد الاذناب يعذبه فزاد من ضراوة الألم، هجم عليه وأخذ من يده السلاح في الرضوانية، وهو يقوم بمثل هذا العمل الجريء، فبالغوا في تعذيبه، عطش وجوع وضرب وإهانات، تهديد ووعيد، وكل جريمته انه طبيب مد يد الإسعاف لجرحى من بني الانسان..!
لا ادري.. هل أنا اكتب الآن تواريخ الوجع، الموت، أم شهادات حياة؟، خلعوا كتفيه وتركوه في القاعة يعاودون عليه نوبات التعذيب، عزة النفس التي فيه رفضت السكوت على ما يجري، ما كان يستحق كل هذا التعذيب، طبيب يزاول مهنته في كل الظروف فليس كل من جرح هو مقاتل، هناك أطفال ونساء وشيوخ عجزة.
وذات صباح حديدي، جمعوا كل الأساتذة والخريجين وأصحاب الشهادات من السجناء، يبدو أن مكرمة الموت شملتهم بهدوء، هل انتهت القصة، قصة العابرين على جسر الموت الى الحياة..؟
لا.. هناك انتظار الاهل الملتهب بجمرة القلق والترقب والخوف من مضايقات الامن ضد عوائل السجناء واهاليهم، كان حلمهم ان يفتح عيادة يعالج بها الفقراء واليتامى مجاناً، ويخصص كل خميس للثواب، كان حلم أهله ان يزوجوه، لكن كان حلمه الوحيد اكمال دراسته البورد، ووعده أستاذ هندي كان يدرس في جامعة الكوفة أن يتبنى تسهيلات السفر للهند، لكن الحياة شاءت ان يتخرج الدكتور علي لينال اعلى الشهادات بدرجة شهيد..!
وأقرأ في استذكار سجين كربلائي، كتب: عند ملتقى الموت يصغر كل شيء في عين الانسان إلا كربلاء، كربلاء التي ما صغرت أبداً في عيني سجين، هي تكبر مع كل آهة جريح أو صمت شهيد.. إن صمت الشهيد اشهر أنواع الصرخات وأقواهن، وأنا الذي رأيت بعيني كيف تسلب الحياة عنوة، وكيف يخنق الصوت البار.. لقد رأيت بعيني كيف خلعوا كتف الدكتور علي ثابت، وكيف أعدم وهو يردد: البقاء لله، ولكربلاء العزة والحياة.
قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat