ديخ مقراطية عراقية من فرن العم سام !
وليد سلام جميل
المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.
وليد سلام جميل

في سنة 2006 ، بعد سقوط نظام الحكم في العراق بثلاث سنوات ، كنتُ حينها في الصف السادس الإبتدائي ، في مدرسة الغفران الإبتدائية للبنين في قضاء الحر التابع لمدينة كربلاء . كان معلم اللغة العربية في مدرستنا ، معلماً عاشقاً لدرسه ، حتى أنّه يعنّف التلاميذ بصوته المرعب أو ضربهم بكفّ يده العريضة ، مقارنة بوجوه الطلاب الصغيرة ، في حال أصابوا اللغة العربية بنزف جديد ، نتيجة تغربنا عن اللغة !. أحببتُ هذا المعلم كثيراً ، وما زلتُ أحبُّه وألتقي به ، فهو مَن غرس حبّ اللغة العربية في قلبي . هذا المعلم ، الأستاذ طالب ، طيب الذكر ، كان يردد على مسامعنا كلمة لم نكن نفهم معناها في وقتها ، كنّا نتصوّر أنّه يستخدمها من باب المزاح أو ( التحشيش ) باللسان الشّعبيّ !.
في بداية الأمر ، الكثير من العراقيين الطيبين ، كانوا يزغردون ويحيّون القوات الأمريكية ، التي أزاحت كابوس الحاكم ( الخالد ) على كرسيه ، في الشّوارع والسّاحات ، بابتسامة يملؤها التفاؤل والأمل . لقد جاء الخير في جيوب قوى المعارضة ، القوى التي تركب في الدّبابات الغازية ، التي تجتاح بغداد والبصرة وعموم محافظات العراق . ألقوا علينا كلمة الشفاء أو جرعة السّمّ الكاذبة ، صاحوا ، ( الديمقراطية ) معنا ، ستكونون شعباً حرّاً متحضراً ، ستبنون البيوت الفارهة ، ستملّون من نور الكهرباء ، ستفيضون بمياه الخير ، ستشرق الشمس من دون غياب ، سيحكمكم المخلصون ، الذين باعوا دنياهم من أجل أن يجلبوا لكم السعادة ، سيتلقى أبناؤكم أفضل تعليم في أحدث المدارس ... يا لها من أماني كبيرة ، كانت مجموعة كلّها في مفردة جديدة ساحرة ، مفردة ( الديمقراطية ) ، التي لم نسمع بها من قبل ورددناها بسذاجة ، لأنها غريبة غربية ، وهي خير ما جاء به الأنبياء !.
أكادُ أجزم ، أن العراقيين ، الذين رددوا هذه المفردة ، لم يكونوا يفهمون ما تعني أصلاً ، ونحن الصغار ، بالتأكيد ، لم نكن نفهمها أيضا . كان الإستاذ طالب ، الذي تحدثتُ عنه في البداية ، يكرر في درسه كلمة ( الديخ مقراطية ) ، ويضرب يداً بيد متحسراً ، عارفاً بالخدعة الكبيرة ... كم تحملُ من السحر هذه الكلمة ! ، يا لجمالها ! ، الآن يمكنكم تكرار الكلمات السّحرية السّهلة ، ( حرية .. ديمقراطية .. ) ، وسترون كم هي جميلة أخّاذة للعقول !. سترون ، بعد أن تغمضوا أعينكم للحيظات ، حمامات السّلام ، تحوم فوق رؤوسكم ، والشّعب يعيش البهجة في كلّ ربوع بلاد ما بين النّهرين . لا تنسوا بأنّ تجربة إغماض العينين خدعة أيضاً !.
حينما أقرأ الدستور العراقيّ الآن ، الدّستور الذي يمثل الديمقراطية أو ( الديخ مقراطية ) ، يصيبني نوبة من الإكتئاب والغثيان ، فالمشرّعون ، وهم مجموعة من القانونيين والسّياسيين ورجالات الدّين المعروفين وغيرهم ، يكتبون في الدستور ، في مادته الثانية ، أن الإسلام دين الدّولة الرّسميّ ، ويلحقون المادة بفرعين متناقضين ، ينصّ الأول على عدم جواز تشريع القوانين المتعارضة مع ثوابت أحكام الإسلام ، فيما يشير الثاني لعدم جواز معارضتها لمبادئ الديمقراطية !.
هل تجتمع ثوابت أحكام الإسلام مع مبادئ الديمقراطية ؟ يكفي مطالعة بسيطة ، لنفهم أن ذلك وهم وكذب وخديعة ، فالتعارض كبير جداً ، لكنّ المشرّع كان يقصد ( الديخ مقراطية ) كما يبدو !. نفس المشرّع ( الديمقراطي ) ، يهاجم ثوابت الإسلام ، لتعارضها مع الحضارة الحديثة برأيه ، وكذا صديقه المشرّع الإسلاميّ ، يهاجم مبادئ الديمقراطية ، المتقاطعة مع ثوابت الإسلام !. نعم يمكن الدّمج والتقريب بينهما ، لكن على أسس مبادئ ( الديخ مقراطية ) ، حسب تعبير معلمنا العزيز ، الأستاذ طالب ...
قبل اسبوع تقريباً ، بالتحديد يوم 14.01.2021 ، في برنامج إنذار أبيض مع علي جواد ، كان الضّيف ، السّياسيّ ( غالب الشابندر ) ، الذي كتب مذكراته ، في كتابه الصادر قبل مدّة ، ليست بطويلة ، بعنوان ( خسرتُ حياتي ) ، يتحاوران عن ( دور النخب ) ، محور الحلقة . انتقد الشابندر التغوّل الأيدلوجيّ ، حسب تعبيره ، الذي أثّر سلباً على النّخب وقيّد حرياتهم الفكرية ، ووصف الشابندر سياسية النظام السّابق بسياسية ( التّبعيث ) ، ولا أعتقد أنّ صدام حسين ، مارس سياسية ( التبعيث ) ، بل ذهب أكثر من ذلك ، كان صدام حسين صدّامياً فقط وفقط ، كان البعثُ صدامياً في حكم صدام ، ولم يكن صدّام بعثياً !... قضى صدّام حسين على فكرة الإنسان الحرّ ، صانعاً دولة الرّعب والإنسان الخائف دوماً . وما زال تأثير ذلك سارياً لهذه اللحظة ( الديخ مقراطية ) . لقد خسر الشابندر حياته ، وخسرنا جميعاً كلّ شيء في هذا النّظام الفاشل . لم نرَ حرية المثقف الفكرية قد أُتيح لها أن تغرد كيفما تشاء ، بل كان القتل وتكميم الأفواه حاضراً بقوة ، وفي ذكرى المغدور هشام الهاشمي مثالاً جليّاً .
( قد لا نحتاج إلى أمل ) ، هذا هو فصل من فصول كتاب ( التّداوي بالفلسفة ) ، لكاتبه ( سعيد ناشيد ) ، كتاب أنصح بقراءته ، يبيّن معنى أن تكون ( بسيطاً ) ، بلغة رائعة وتساؤلات فلسفية ، تنساب بسرد جميل . يقول سعيد في هذا الفصل : " على شاهد قبر الرّوائيّ اليونانيّ الشهير نيكوس كازانتزاكيس ، مكتوبة العبارة التالية : " لا آملُ شيئاً ، لا أخشى شيئاً ، أنا حر " . مغزى العبارة ، أن الأمل يمثّل خطراً على الحرية . ومجمل القول ما قاله مولانا جلال الدين الرومي : " هناك الكثير من الأمل في غياب الأمل " .
هذه ليست دعوة لليأس ، بل دعوة للإتزان بالأمل وعدم الإفراط فيه . أنتجت ساحات الإحتجاج الشعبي في العراق ، خطين متعارضين ، يدفع الأول بأمل كبير نحو الإنتخابات ، فيما يدفع الثاني بيأس مفرط للمقاطعة . سيخسر الأول كثيراً من طاقته وحيويته ، في أول صدمة ستواجهه ، بسبب كمّ طاقة الأمل المفرطة ، فيما يستنزف الثاني كلّ طاقته بيأس أكبر من اللازم . الإتزان ما بين الأمل واليأس ، يخلق لنا رؤية ووضوحاً ، تساهم في إعادة التفكير ، وبرمجة الآليات المناسبة ، فما أتعس أن ينتهي كلّ شيء ب ( خسرتُ حياتي ) ! .
قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat