مجتمعنا بين الأسلمة والوسطية التأليفية
محمد الحمّار
المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.
محمد الحمّار

بقدر ما كان الإيمان بالله وباليوم الآخر مسألة شخصية بقدر ما يتضح أنّ تطبيق الإسلام في كليته، لمن رغب في ذلك، عمل يتطلب علما لتحقيقه ويتطلب دربة على الآليات وتجربة للممارسات ورصدا للسلوكيات. من هذا المنطلق و نظرا لأننا في عصر يتسم بالحريات الفردية وعلى رأسها حرية المعتقد، كيف السبيل إلى طريقة للتفكير الجماعي تكون مرنة بشكل يضمن حقوق كل الأطراف الإيديولوجية الاندماج فيها والانخراط في المشاريع والبرامج المنبثقة عنها؟
إننا لم نفلح لا في الاشتراكية ولا في الشيوعية و لا في التعاضدية ولا في الليبرالية ولا في العلمانية ولا في الائيكية. وحتى الإسلامية التي هي بصدد التجريب الآن، وبعد أشهر من إزاحة الأنظمة الفاسدة في كل من مصر وتونس و (بكل تحفظ) في ليبيا، فهي تواجه صعوبات جمة لم يتوقعها حتى روادها والمدافعون عنها. ويتمثل التوجس من الإسلامية في وجود وعي تحرري لاإسلامي ينافسها على جميع الأصعدة، مما سيضطر الإسلاميين إلى اعتبار الإسلامية مفصلا من مفاصل الجسد الإيديولوجي للمجتمع الواحد، لا الجسد كله. لكن ما هو الدور الذي يمكن أن يلعبه هذا المفصل نظرا لتمتعه بشرعية الانتماء الهووي من جهة وبشرعية الانتخابات من جهة أخرى؟
بمجرد إدراك أنه ليس بوسعنا، والحالة تتسم بالخلط بين الحساسيات تارة و بالإقصاء في ما بينها طورا، أن نكون اشتراكيين مثلما كان الاشتراكيون أو تعاضديين مثلما كان التعاضديون، إلى غير ذلك، أو إسلاميين مثلما يكون الإسلام المصدري، لم يبق سوى خيار الوفاق. والوفاق فكري بالأساس أو لا يكون. فمجتمعاتنا لم تحسم السجال الفكري حتى تجرؤ على حسم السجال السياسي. والحسم السياسي مستحيل في المرحلة الراهنة لأنّ المعركة ليست على مستوى الأفكار والاستراتيجيات وإنما على مستوى كيف نشكل الأفكار وكيف نرسم الاستراتيجيات. وطبيعة المعركة عائق بحد ذاتها لأنها لا تحسم بالأدوات السياسية. وإلا لكأن الطبيب الجراح سينزع إلى إجراء عملية على العين بأدوات تستخدم عادة في جراحة المعدة أو المفاصل.
إن نزعة التأليف ضرورية لرفع اللبس وتفادي الخلط في الأدوات ووضع الإصبع على مكمن الداء. كما أنها ناجعة لإقامة حاجز نهائي أمام الشعبوية. لكن يشترط أن يتم التأليف في ما بين كافة الحساسيات، عدا الإسلامية، لأنّ من المحبذ أن تتحول هذه الأخيرة إلى عامل تأليف بعد أن كانت (وما زالت إلى اليوم) عامل منافسة إزاء بقية الحساسيات.
ما من شك في أن الفرز الإيديولوجي الذي تعيشه مجتمعاتنا إلى اليوم بين الإسلامية من جهة وسائر الحساسيات من جهة أخرى آل إلى الاستفحال عوضا عن التقلص، وذلك بالرغم من محاولات التوفيق التي تمت على امتداد عدة أشهر ومن المجهودات المبذولة في سبيل الوفاق. وهذا دليل على زيغ المعطى الإسلامي عن دوره الطبيعي، دور المحرك، وتشبث الحساسية الإسلامية بدور المتباري.
إن النظرة الجديدة إلى الأشياء هي الكفيلة حسب اعتقادي بتعديل موازين القوى السياسية على المدى المتوسط و البعيد. وتكون حركة التعديل جارية حول مركز يسمى (مجددا) "الوسطية". وتكون حركة التعديل السائرة نحو المركز الوسطي "وسطية تأليفية" نظرا لسعي الأطراف الإيديولوجية الضالعة فيها ، وهي هجينة بما أنها غير متأصلة بَعدُ في البيئة الداخلية، إلى الانصهار في وسط يتسم بالحيوية بما أنه يستمد عضويته من حركية الإسلام، وهو الصالح لكل زمان ومكان.
هكذا يتحرر الإسلام من الجمود الذي فرضته عليه الرؤية القروسطية والنرجسية. و تتحرر أيضا كل الطاقات الإيديولوجية المستوردة من عند العالم القديم. و تكون الوسطية التأليفية تجربة الإنسان الذي يعيش في الفضاء العربي الإسلامي، لا إيديولوجية الإسلام المفروض على المسلمين وعلى غير المسلمين. لكن كيف يمكن أن تتعامل ميدانيا الأحزاب الدينية الحاكمة (نسبيا) في مجتمعات "الربيع العربي" مع رؤية مثل هذه؟
محمد الحمّار
قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat