الرواية العراقية.. الهروب إلى الهاوية

المتابع للمشهد الثقافي العراقي طوال العقد المنصرم الذي انقضى منذ ان حل بنا الاحتلال كزلزال لا يرحم، لا بد وأن يلحظ أن حال الرواية العراقية كان يتململ طوال السنوات السبع عشرة أو أكثر، ولكن سلبا أو ايجابا؟.. هذا ما أحاول الاجابة عليه هنا.

أنا لن اتردد لحظة واحدة في اعلان رأيي بأن حال الرواية العراقية غير مطمئن حاليا، والسبب هو تهافت المدعين عليها.. وكأن هذا لم يكفها، فأضاف استسهال بعض الشعراء والقصاصين لكتابتها هما آخر إليها، فغمر شارعنا الثقافي سيل من روايات أقل ما يقال عنها أنها لا تستحق ثمن الورق الذي استهلك في طباعتها!.. وقد يحاججني البعض بفكرة أن الكم وإن أفصح عن تدني في المستوى مؤقتا، لا بد أن ينتج نوعا متميزا في النهاية، ولكن حجتي حاضرة إذ أقول أن هذا يصح عندما تكون هناك معاييرا لعملية النشر، فهل هناك معايير بالفعل؟.. أنا لا أعتقد!.

أما عن المدعين، فإن هذا يقودني إلى الحديث عن ظاهرة (الكتاب الأميين)! التي برزت بشكل أكثر من واضح مؤخرا.. فالروائي ليس مجرد كاتب امتلك زمام اللغة فقط، بل هو رجل خبر الحياة وامتلك فلسفة تجعله واعيا لكل كلمة يطلقها كرسالة ضمن نصه، فهل هذا هو حال الأسماء التي ملأت صفحات الصحف الثقافية التي اصبحت مؤخرا أكثر من الهم على القلب؟!.. مرة أخرى، أقول، وعلى مسؤوليتي، لا أعتقد!.. وليت الأمر يقتصر على السذاجة في الطرح أو التزييف في الحقائق فقط، بل يتعدى الأمر إلى الافصاح عن جهل كامل بفقه اللغة.. واملائها.. ونحوها!، لتكون النصوص المطروحة محض هذر لا معنى له، ولا فائدة ترتجى منه، أو بكلمة أخرى، نصوص قبيحة، ولعل أول الضحايا في هذا هو ذائقة المجتمع نفسه، فالنشء الجديد الذي هو عماد المجتمعات، كل المجتمعات، يكون في الغالب فاقد الحصانة ازاء الجيد والرديء من النصوص خاصة في ظل تردي النظام التعليمي للمجتمع ككل، ولذلك هو يحتاج إلى وقاية صارمة على مستوى التلقي للمحافظة على الحد الأدنى من الذائقة السليمة، وانتشار النصوص السيئة يجعل من تلك الوقاية أمرا مستحيلا وهكذا سيدفع المجتمع ثمنا غاليا لسنوات عديدة قادمة إن لم يتصد الروائيون الحقيقيون لعملية التدمير الشائنة التي يقوم بها المدعون سواء أكانوا متقصدين في عملهم أم مجرد خطاة!.

أما بعض الشعراء والقصاصين (ولا أقصد الكبار منهم)الذين هبوا للدخول في عالم الرواية بكل حماس فأنا اعتقد بأن الدافع الأول لمحاولتهم ذلك هو نضوب موهبتهم الضعيفة اساسا واستسهال كتابة الرواية يجعل منها تعويضا لعالمهم الذي كادوا أن يودعوه، وهكذا نشرت روايات أخرى، قد تكون جيدة اللغة ولكنها تفتقد كل، أو بعض، اشتراطات الرواية الأخرى التي هي ليست أسرارا، بل يمكن للجميع أن يطلع عليها من خلال عملية اطلاع بسيطة على الكم الهائل من الكتابات التي تناولت هذا الموضوع المهم.. الرواية جنس قائم بذاته وتوهم البعض أنها مجرد قصة طويلة (بمن فيهم بعض القصاصين!) يفتح المجال واسعا أمام نصوص يفترض أنها روائية ولكنها في الحقيقة أبعد ما تكون عن ذلك، وهذا يعطي مثالا سيئا للأجيال الجديدة التي تنتظر دورها لتدلو بدلوها في هذا المضمار الأدبي الحيوي وستكون هناك حتما نتائج مضرة جدا بالرواية العراقية التي لم تبلغ أشدها أساسا، على المدى الطويل بدلا من أن ينتج النوع كما نأمل، لأن فاقد الشيء لا يعطيه بكل تأكيد!.

ولكن ما سر هذا التهافت الغريب؟!.. أنا أعتقد أن السر يكمن في تحول عملية النشر من هم ثقافي إلى هم اقتصادي بحت! فمع غياب المؤسسة الرسمية التي كانت مسؤولة عن معيارية ما ينشر، وإن شاب ذلك رقابة صارمة لأسباب سياسية بحتة أحيانا، اصبح الطريق سالكا أمام من يشاء، فمجرد امتلاك ثمن النشر يجعل من حلم اصدار كتاب امرا ممكنا للجميع وبغض النظر عن امكانياتهم الأدبية الحقيقية، وهذا ما ملأ اسواقنا الأدبية بكم هائل من الكتب التافهة، وكان للرواية حصتها من هذا الحصاد السيء.. لا شك أن المؤسسة الرسمية التي كانت تدير عملية النشر في العراق قد اقترفت الكثير من الموبقات بسبب ممارستها دور الرقيب على الأفكار، ولكنها كانت في النهاية تضمن النوعية على الأقل، وأنا ارى أن الفوضى التي عمت بعد تبدل الظروف سيكون لها أبلغ الأثر (السلبي طبعا) على عملية تطور الرواية في العراق، فلكي تتطور يجب أن تكون المعايير متوفرة لكي نسمح للنماذج الجيدة من الكتاب بالتنافس من اجل كسب قصب السبق في التميز الروائي، ولعل قائل يقول أن النص الجيد يطرد النص السيء دوما، وهذا صحيح طبعا، ولكنني افكر بمدى الاحباط الذي يشعر به الروائي الحقيقي وهو يرى نفسه محاطا بهذا العدد من المدعين الذين يدعون أنهم روائيون، فالتفوق في وسط مريض لا يمكن أن يعتبر تميزا، لأن التميز الحقيقي يكون بالتفوق على الجيدين، وهكذا فلا بد من وجود جهة تكون مسؤولة عن المستوى اللغوي والمنطقي والأدبي للنصوص من دون التورط في محاسبة الكاتب على أفكاره مهما كانت، وإن كانت الحكومة قد بادرت إلى تعيين مجلس امناء مسؤول عن الاعلام في العراق، فلم لا يكون للأدب مجلس امنائه؟!. وإن كانت هناك خشية من اشراف الدولة على هذا القطاع المهم جدا للمجتمع فبامكان اتحاد الكتاب أن يضطلع بهذه المهمة، على أن يكلف خبراء حقيقيين بالأمر، فقط يجب أن لا تترك الرواية لمصيرها المظلم هكذا!.. ولكن ما دمنا قد ذكرنا الرقيب السابق، دعونا نناقش هنا مسألة مهمة تتعلق بالأمر.. هل يعني غياب الرقيب الرسمي بعد عام 2003 أن الطريق قد أصبح سالكا أمام الروائيين لمناقشة ما شاؤوا من مواضيع من دون خشية من عقوبة أو استهداف؟!.. ايضا لا أعتقد، لأن الرقيب إن غاب فإن شرطي المجتمع ما زال موجودا، بل لعله ازداد قسوة وعتوا مع تنامي التيارات الدينية وامتلاكها القوة الضاربة المتمثلة في مليشياتها وسيادة الأعراف العشائرية وغياب القانون المنظم لعلاقة الكاتب بمجتمعه أو الكفيل بحفظ حقوقه كمواطن حر، أو حتى الحفاظ على حياته!. كل هذا منع وسيمنع أي كاتب حقيقي من مقاربة الحقيقة أو الحديث عنها بصراحة تكفل توفر الحلول الممكنة للسلبيات التي يمكن أن يؤشرها الأدب وينبه إليها.. وامر آخر، إن الفوضى التي عمت العراق طوال السنوات السابقة وغياب الجهد الحكومي الحقيقي لفرض سيادة البلد فتحت أبواب العراق أمام مختلف الجهات الطامعة التي تحتاج إلى قطاعات مجتمعية في الداخل لتمرير مؤامراتها أو صفقاتها، ولا يخفى على أحد اهمية الكتابة في هذا الشان، ولذلك سيكون الكثير من الكتاب عرضة للمساومة والشراء من قبل تلك الجهات للاضطلاع بمهمة الترويج للأفكار التي تؤدي إلى تحقيق أهدافها.. انا شخصيا لا دليل عندي على هذا ولكننا لا نستطيع أن ننكر أن المنطق وحال البلد يفترضان أنه موجود بشكل واضح.

أنا أعتقد شخصيا أن الرواية العراقية كانت تعاني منذ زمن طويل من علة واضحة، وهو أنها تكتب للنقاد والمختصين، وهذا ما جعلها تبتعد عن القطاع الأهم الذي يعطيها شرعيتها وتميزها، واقصد به جمهور القراء الذي يجب أن تكون الرواية له، ويبدو أن الروائيين الجدد لم ينتبهوا لهذا فأصروا على السير في نفس الدرب الذي رأوا من سبقهم يسير فيه فراحوا يمعنون في استعراض مهاراتهم اللغوية (إن كانوا يمتلكونها بالفعل!) ليقدموا لنا أشكالا كتابية قد تستحق الاشادة للجهود المبذولة فيها، ولكنها لا يمكن أن تجنس كرواية!.

كما إن واحدا من أهم مآزق الرواية العراقية حاليا، هو اضطرار ثلة من احسن فرسانها إلى التوزع في أصقاع العالم ولأسباب مختلفة، فابتعدوا بذلك عن المعين الذي يستلهمون منه رؤاهم، فاعتمدوا السمع بدلا عن التجربة، وشتان ما بين الاثنين، ولذلك شاب نتاجهم بعض الضعف رغم مواهبهم المتميزة. فيما بقت القلة من المتميزين في الداخل محاصرة بكم كبير من المدعين، وهذا لا يقلل من شأن نتاج روائيي الداخل بالطبع لأنهم يمتلكون المقدرة بالاضافة إلى الرصيد اللازم من التجربة والتواصل، ولكن ما قد تفعله بضع روايات أمام سيل جارف من النصوص المتهافتة التي سميت روايات جزافا! والتي تبدو للمطلع العارف مجرد نسخ متتالية لنص متهافت واحد تتميز بلغة متدنية ومنطق متهافت وضعف في الخيال مع الحرية في اقتراف ما يشاء الكتاب الاميون من اخطاء نحوية واملائية وهم يكونون لنا بنى لغوية لا علاقة لها بجمال أو فهم.. ولكي يزيدوا طين أذاهم بلة نراهم قد تكالبوا على مواضيع محددة تكون في اغلبها سياسية تتعلق بالوضع قبل وبعد الاحتلال وكأن غرض الرواية هو سوسيولوجي بحت، متناسين أن مدى الرواية يسع الحياة نفسها.

الملاحظة الأكبر التي يخرج بها المتابع من خلال قراءته معظم الروايات العراقية (وأنا هنا محدد بالنصوص التي اطلعت عليها بالفعل طبعا) هو أنها تفتقد إلى واحد من أهم أسس الرواية وأقصد به الامتاع، فما نطلع عليه فيها يكون في معظم الأحيان اجترارات يجهد كاتبها نفسه لاضفاء صفة المفكر على نفسه فلا ينجح الا في تأكيد مدى سذاجته في محاولاته الفلسفية الفاشلة!.. ولا أعرف متى سيفهمون أن قراءة رواية بلا امتاع لن تكون الا تأدية لواجب يثقل على النفس ويدفع القارئ الى التوقف عن متابعة القراءة سريعا!

وأمر آخر.. نعرف جميعا أن وجود النقد في أي مجتمع يضمن لنا دائما تطور الجنس الأدبي المعني به، ولذلك فان غيابه يؤشر ضعفا مفترضا بكل تأكيد، وبنظرة سريعة على حال النقد في العراق حاليا بعد رحيل بعض الأساتذة الكبار، وتقاعد البعض الآخر، نجد أن الساحة قد أصبحت نهبا للمدعين الذين لا يفهمون من النقد غير (مصطلحات) مبهمة لا تؤدي إلا إلى توعير النصوص التي يقدمونها على أساس أنها نقد، وليت الأمر يقتصر على ذلك بل أنه يتعدى إلى أنهم كرسوا أنفسهم لخدمة (كما يتصورون!) أصدقائهم وأقاربهم الكتاب، حارمين الآخرين من نعمة (نقدهم!)، وهناك صنف آخر نذر نفسه لمدح أية امرأة لها محاولة كتابية وبغض النظر عن امكانياتها الحقيقية.. إن النص النقدي ابداع موازٍ للنص المبدع الذي ينقده، فإن عجز عن أن يكون كذلك فلا حاجة له بكل تأكيد.

كل هذا إنما هو آراء شخصية لي، قد أخطئ فيها أو اصيب، ولكن شفيعي أنني لست بناقد، بل أنا مجرد قارئ يهمه حال الأدب في بلاده ويزعجه جدا أن يراه عليلا. كما أرى أنه من الواجب علي أن أؤكد أن للرواية العراقية كتابها المتميزين الذين لا يمكن أن ينكر دورهم، ولكن تهافت المدعين يؤثر عليهم كثيرا.. وأخيرا، ما هذا إلا صرخة استغاثة لن تضر المجتمع إن تبين أنها انذار كاذب، ولكنها ستقدم له أعظم خدمة إن صحّت وأخذ بها في الوقت المناسب.


قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat


    طباعة   ||   أخبر صديقك عن الموضوع   ||   إضافة تعليق   ||   التاريخ : 2020/11/14



كتابة تعليق لموضوع : الرواية العراقية.. الهروب إلى الهاوية
الإسم * :
بريدك الالكتروني :
نص التعليق * :
 



حمل تطبيق (كتابات في الميزان) من Google Play



اعلان هام من قبل موقع كتابات في الميزان

البحث :





الكتّاب :

الملفات :

مقالات مهمة :



 إنسانية الإمام السيستاني

 بعد إحراجهم بكشف عصيانها وخيانتهم للشعب: المرجعية الدينية العليا تـُحرج الحكومة بمخالفة كلام المعصومين.. والعاصفة تقترب!!!

 كلام موجه الى العقلاء من ابناء شعبي ( 1 )

 حقيقة الادعياء .. متمرجعون وسفراء

 قراءة في خطبة المرجعية : هل اقترب أَجلُ الحكومةِ الحالية؟!

 خطر البترية على بعض اتباع المرجعية قراءة في تاثيرات الادعياء على اتباع العلماء

 إلى دعاة المرجعية العربية العراقية ..مع كل الاحترام

 مهزلة بيان الصرخي حول سوريا

 قراءة في خطبة الجمعة ( 4 / رمضان/ 1437هـ الموافق 10/6/2016 )

 المؤسسة الدينية بين الواقع والافتراء : سلسلة مقالات للشيخ محمد مهدي الاصفي ردا على حسن الكشميري وكتابيه (جولة في دهاليز مظلمة) و(محنة الهروب من الواقع)

 الى الحميداوي ( لانتوقع منكم غير الفتنة )

 السيستاني .. رسالة مهدوية عاجلة

 من عطاء المرجعية العليا

 قراءة في فتوى الدفاع المقدس وتحصين فكر الأمة

 فتوى السيد السيستاني بالجهاد الكفائي وصداها في الصحافة العالمية

 ما هو رأي أستاذ فقهاء النجف وقم المشرّفتَين السيد الخوئي بمن غصب الخلافة ؟

 مواقف شديدة الحساسية/٢ "بانوراما" الحشد..

أحدث مقالات الكتّاب :





 لنشر مقالاتكم يمكنكم مراسلتنا على info@kitabat.info

تم تأسيس الموقع بتاريخ 1/4/2010 © محمد البغدادي 

 لا تتحمل الإدارة مسؤولية ما ينشر في الموقع من الناحيتين القانونية والأخلاقية.

  Designed , Hosted & Programmed By : King 4 Host . Net