ليلةٌ أقسى من حَسَكِ السعدان
ام قنوت
المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.
ام قنوت

لم تكنْ ليلةُ العاشر من محرم كأخواتِها من الليالي؛ فحالُ آلِ بيتِ الرسول (صلى الله عليه وآله) قبلها ليس كما هو بعدها، ضمّتْ في أعماقِها أحداثًا طُبِعت في ذاكرةِ الأممِ وفي قلوبِ المُحبيّن..
حوصرَ سيّدُ الشهداءِ (عليه السلام) بخيلِ العدو في تلك الليلة وقلّ ناصره، ساعاتٌ دقائقُها تشبعّتْ بذكرِ الله (تعالى) ما بين قائمٍ وساجدٍ وذاكرٍ وتالٍ للقرآنِ الكريم، خليطُ مشاعر عاشَها الجميعُ في ليلةٍ لا مثيل لها على مرِّ العصور. هالةُ إيمانٍ تكبُرُ مع كُلِّ حرفٍ يُنطَقُ أو يُسمعُ، حواسٌ مشغولةٌ بعبادةِ الأحدِ الصمدِ تُخاطِبُ ربَّها بخطابٍ يشرحُ الاستعدادَ لبذلِ النفوس الأبيّة التي لا تكتفي بالقرابينِ المُقدَّمةِ على هيئةِ أرواحٍ فقط، فنظراتُ الوداعِ ولهفة أنفاسِ مَن كان حولَ الإمامِ الحسين (عليه السلام) تُلقي بظلالِها على سقفِ التضحيات.
غدًا، ستُفصَلُ الرؤوسُ عن الأجسادِ، تُحرَقُ الخيامُ، وتتراكضُ النسوةُ والأطفالُ، ولربما علِقَتْ أشواكُ السعدانِ بأرجلهم، نباتٌ حَسَكُهُ حادٌّ كمخلبِ طيرٍ جارحٍ ينغرسُ في القدمين ويُدميهما..
يثب الإمامُ الحسينُ (عليه السلام) ليبحثَ عن السعدانِ بهدفِ جمعِه، عسى أنْ يُخفِّفَ بعضَ الألمِ الذي ستعيشُه بناتِ النبوّة بعدَ رحيله، يعلمُ جيدًا أنَّ أنينَ قلوبِهن سيُنسيهنَّ وجعَ الحَسَك، لكنّه أبى أنْ يَدَعَ لوحةَ عاشوراء خاليةً من لونِ العطف؛ فقلبُه الذي كزُبَرِ الحديد على أعداءِ الدين، هو أترفُ من بتلةِ زهرةٍ على حريمِه وأطفالِه.
استجوِبْ التاريخ!
لا، بل حقِّقْ مع الحاضرِ وربّما المستقبل!
مَن مِن قادةِ العالمِ يُمثِّلُ الإنسانيةَ مثلما فعلَ الإمامُ الحُسينُ (عليه السلام)؟
قد يظهرُ جانبٌ واحدٌ من جوانبِهم الإنسانيةِ في ظرفٍ ما مثلًا، لكنّ سبطَ الرسولِ (عليه السلام) لم يتركْ ثغرةً إلّا رَدَمَها بخُلُقِه وإنسانيتِه، لم تشغلهُ التخطيطاتُ العسكريةُ عن واجباتِه الدينية والاجتماعية، لم يحمِ نفسَه مثلما فعلَ جاهدًا لحمايةِ أهلِه وأطفالِه، لم يحتمِ في قصورٍ بيضاء وخلفَ أسلحةِ دمارٍ شاملٍ تُهلِكُ أقطارًا بأكملِها ثم يدّعي النصر!
كانت ليلةُ العاشرِ من مُحرمٍ أقسى على الإمامِ الحسين (عليه السلام) من حَسَكِ السعدان، لا لاقترابِ الأجل؛ وإنّما ليقينِه بشراسةِ العدو وهمجيتِه، وبما سيحلُّ بأهلِه بسببِهم بعدَ أنْ يُسلِّمَ الروحَ إلى ربِّه.
لا يومَ كيومِكَ يا أبا عبدِ الله.
قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat