صفحة الكاتب : موقع الكفيل

محطّاتٌ عاشورائيّة: خطبة فاطمة بنت الحسين (عليها السلام) في عاصمة جدّها
موقع الكفيل

رحلت فاطمة بنت الحسين(عليها السّلام) مع الركب الحسينيّ إلى كربلاء، وعاشت وقعة الطفّ بجميع فصولها الدامية والمأساويّة، ورأت ما جرى يوم عاشوراء الذي ما إن غَرَبتْ شمسُه حتّى نظرت إلى صعيد كربلاء، وإذا عليه أبوها وإخوتها وأعمامها وبنو عمّها والخيرة الأوفياء من ذويها وأصحاب أبيها.. صَرْعى مُرَمَّلين.
وما إن طلع فجر الحادي عشر من المحرّم، حتّى جاء أعوان عمر بن سعد بالإبل ليحملوا عليها كرائم الوحي ومُخَدَّرات الرسالة إلى الكوفة، لتودّع أباها بعيونٍ عَبرى وقلبٍ كئيب وهي على ظهر الناقة، ولتتّجه الى عاصمة جدّها أمير المؤمنين عليٍّ(عليه السّلام) الكوفة وتدخلها سبيّةً أسيرة، يستقبلها أهلها رجالاً ونساءً متفرّجين، غير مكترثين بما صدر منهم نحو العترة الطاهرة.
وقد أذهل هذا الموقفُ عقائلَ الوحي ومُخدَّرات الرسالة، فانفجرنَ بخُطَبهنّ، وكانت منها خطبةٌ لفاطمة بنت الإمام الحسين الشهيد (عليه وعليها السّلام) قالت فيها:
((الحمد لله عَدَدَ الرَّمل والحصى، وزِنةَ العرش إلى الثَّرى، أحمَدُه وأُؤمن به وأتوكّل عليه، وأشهد أن لا إله إلاّ اللهُ وحدَه لا شريك له، وأنّ محمّداً عبدُه ورسوله، وأنّ أولاده ذُبِحوا بشطّ الفرات، بغير ذَحْلٍ ولا تِرات!
اللهمّ إنّي أعوذ بك أن أفتريَ عليك الكَذِب، أو أن أقول عليك خلافَ ما أنزلتَ عليه مِن أخذ العهود لوصيّه عليّ بن أبي طالبٍ عليه السّلام، المسلوبِ حقُّه، المقتولِ مِن غير ذَنْب -كما قُتِل وَلَدُه بالأمس-، في بيتٍ من بيوت الله فيه معشرٌ مُسلِمةٌ بألسنتهم، تَعْساً لرؤوسهم! ما دَفَعَتْ عنه ضَيماً في حياته ولا عند مماته، حتّى قبَضْتَه إليك محمودَ النَّقيبة، طيّبَ العَريكة، معروفَ المناقب، مشهورَ المذاهب، لم تأخُذْه فيك اللهمّ لَوْمَةُ لائم، ولا عَذْلُ عاذِل، هدَيْتَه اللهمّ للإسلام صغيراً، وحَمِدتَ مَناقبَه كبيراً، ولم يَزَل ناصحاً لك ولرسولك صلّى الله عليه وآله، حتّى قبضتَه إليك زاهداً في الدنيا غيرَ حريصٍ عليها، راغباً في الآخرة، مجاهداً لك في سبيلك، رَضِيتَه فاختَرتَه فهدَيتَه إلى صراطٍ مستقيم.
أمّا بعدُ يا أهل الكوفة! يا أهل المَكْرِ والغَدر والخُيَلاء، فإنّا أهلُ بيتٍ ابتلانا اللهُ بكم وابتلاكم بنا، فجعَلَ بلاءنا حَسَناً، وجعَلَ عِلمَه عندنا وفَهمَه لدينا، فنحن عَيْبَةُ عِلْمِه، ووعاءُ فهمه وحكمته، وحجّتُه على الأرض في بلاده لعباده، أكرَمَنا الله بكرامته، وفَضَّلَنا بنبيّه محمّدٍ صلّى الله عليه وآله على كثيرٍ ممّن خلَقَ تفضيلاً بيّناً، فكذّبتمونا وكفّرتمونا، ورأيتم قِتالَنا حلالاً، وأموالَنا نَهْباً، كأنّنا أولادُ تُركٍ وكابُل كما قتلتُم جَدَّنا بالأمس، وسيوفُكم تَقطرُ مِن دمائنا أهلَ البيت؛ لحقدٍ متقدّم! قَرَّت لذلك عيونُكم، وفَرِحتْ قلوبكم، افتراءً على الله ومكراً مكرتُم، واللهُ خيرُ الماكرين.
فلاتَدْعُوَنّكُم أنفسُكُم إلى الجَذَل بما أصَبتُم مِن دمائنا، ونالتْ أيديكم مِن أموالنا؛ فإنّ ما أصابنا من المصائب الجليلة، والرَّزايا العظيمة، في كتابٍ مِن قَبلِ أن نَبْرأها، إنّ ذلك على الله يسيراً، لكي لا تأسَوا على ما فاتكم، ولا تفرحوا بما آتاكم، واللهُ لا يحبّ كلَّ مُختالٍ فَخور.
تَبّاً لكم! فانتظِروا اللعنةَ والعذاب، فكأنْ قد حَلَّ بكم، وتَواترَت من السماء نَقِماتٌ فيُسْحِتَكم بعذاب، ويُذيقَ بعضَكم بأسَ بعض، ثمّ تُخَلَّدون في العذاب الأليم يوم القيامة بما ظلمتُمونا، ألا لعنةُ الله على الظالمين!
وَيْلكم! أتَدرون أيّةُ يدٍ طاعَنَتْنا منكم، وأيّةُ نَفْس نَزَعَتْ إلى قتالنا، أم بأيّة رِجْلٍ مَشَيتُم إلينا تَبغُون مُحاربتَنا؟! واللهِ قَسَتْ قلوبُكم، وغَلظتْ أكبادُكم، وطُبع على أفئدتكم، وخُتم على سمعكم وبصركم، وسَوّلَ لكمُ الشيطانُ وأملى لكم، وجعل على أبصاركم غِشاوةً فأنتم لا تهتدون.
فتَبّاً لكم أهلَ الكوفة! أيَّ تِراتٍ لرسول الله صلّى الله عليه وآله قِبَلَكُم! وذُحولٍ لديكم بما صَنَعتم بأخيه عليِّ بن أبي طالبٍ جَدّي، وبَنيه وعِترتهِ الطيّبين الأخيار، فافتخرَ بذلك مفتخِرُكم فقال:
قد قَتَلْنا عليّـاً وابنَيْ عليٍّ بسيوفٍ هنديّـةٍ ورمـاحِ
وسَبَينا نساءهم سَبْيَ تُرْكٍ ونَطَحناهُـمُ فـأيّ نِطاحِ!
بفِيك أيُّها القائلُ الكَثْكَثُ والإثْلِب! افتَخَرتَ بقتلِ قومٍ زكّاهمُ الله وطَهّرَهم الله، وأذهَبَ عنهم الرِّجس؟! فاكْظِمْ، وأقْعِ كما أقعى أبوك، فإنّما لكلّ امرئٍ ما كسَبَ وما قَدَّمتْ يداه.
وحَسَدتمونا ـ وَيْلاً لكم ـ على ما فضَّلَنا الله!
فما ذَنْبُنا إنْ جاشَ -دهراً- بُحورُنا وبَحرُكَ سـاجٍ ما يُواري الدَّعـامِصا
ذلكَ فَضْلُ اللهِ يُؤتيهِ مَن يشاءُ واللهُ ذو الفضلِ العظيم، ومَن لم يَجعَلِ اللهُ له نُوراً فما له مِن نُورٍ)).

فارتفعت الأصواتُ بالبكاء والنحيب، وقالوا: حَسْبُكِ يا ابنةَ الطيّبين؛ فقد أحرَقْتِ قلوبَنا، وأنضَحْتِ نُحوَرنا، وأضْرَمتِ أجوافَنا! فسكتَتْ.


قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat


موقع الكفيل
 (للدخول لصفحة الكاتب إضغط هنا)

    طباعة   ||   أخبر صديقك عن الموضوع   ||   إضافة تعليق   ||   التاريخ : 2020/09/05


  أحدث مشاركات الكاتب :

    • جائزة قمر بني هاشم للقصة الصحفية  (أخبار وتقارير)

    • ممثل المرجعية الدينية الدينية السيد الصافي يشيد بجهود المركز الاسلامي للدراسات الاستراتيجية ويدعو الى المحافظة على تراث العلماء السابقين  (أخبار وتقارير)

    • مستشفى الكفيل يستضيف الورشة العلمية الثالثة لأطباء القلب في كربلاء  (أخبار وتقارير)

    • الفيلم الوثائقي | الطريق  (المرئيات (فيديو))

    • رسالةُ ماجستير في جامعة بابل تعتمد إصدار مركز تراث الحلّة مصدراً لها  (نشاطات )



كتابة تعليق لموضوع : محطّاتٌ عاشورائيّة: خطبة فاطمة بنت الحسين (عليها السلام) في عاصمة جدّها
الإسم * :
بريدك الالكتروني :
نص التعليق * :
 



حمل تطبيق (كتابات في الميزان) من Google Play



اعلان هام من قبل موقع كتابات في الميزان

البحث :





الكتّاب :

الملفات :

مقالات مهمة :



 إنسانية الإمام السيستاني

 بعد إحراجهم بكشف عصيانها وخيانتهم للشعب: المرجعية الدينية العليا تـُحرج الحكومة بمخالفة كلام المعصومين.. والعاصفة تقترب!!!

 كلام موجه الى العقلاء من ابناء شعبي ( 1 )

 حقيقة الادعياء .. متمرجعون وسفراء

 قراءة في خطبة المرجعية : هل اقترب أَجلُ الحكومةِ الحالية؟!

 خطر البترية على بعض اتباع المرجعية قراءة في تاثيرات الادعياء على اتباع العلماء

 إلى دعاة المرجعية العربية العراقية ..مع كل الاحترام

 مهزلة بيان الصرخي حول سوريا

 قراءة في خطبة الجمعة ( 4 / رمضان/ 1437هـ الموافق 10/6/2016 )

 المؤسسة الدينية بين الواقع والافتراء : سلسلة مقالات للشيخ محمد مهدي الاصفي ردا على حسن الكشميري وكتابيه (جولة في دهاليز مظلمة) و(محنة الهروب من الواقع)

 الى الحميداوي ( لانتوقع منكم غير الفتنة )

 السيستاني .. رسالة مهدوية عاجلة

 من عطاء المرجعية العليا

 قراءة في فتوى الدفاع المقدس وتحصين فكر الأمة

 فتوى السيد السيستاني بالجهاد الكفائي وصداها في الصحافة العالمية

 ما هو رأي أستاذ فقهاء النجف وقم المشرّفتَين السيد الخوئي بمن غصب الخلافة ؟

 مواقف شديدة الحساسية/٢ "بانوراما" الحشد..

أحدث مقالات الكتّاب :





 لنشر مقالاتكم يمكنكم مراسلتنا على info@kitabat.info

تم تأسيس الموقع بتاريخ 1/4/2010 © محمد البغدادي 

 لا تتحمل الإدارة مسؤولية ما ينشر في الموقع من الناحيتين القانونية والأخلاقية.

  Designed , Hosted & Programmed By : King 4 Host . Net