صفحة الكاتب : هيثم الطيب

الإنزلاقية النصية بين المكتوب واللامكتوب .بحث في فكر النص .في ديوان(أقرب مما ينبغي)
هيثم الطيب

محمد شنيشل فرع الربيعي .

 

(ويبقى الشعر ذلك الكائن الوجودي الذي ينظر للمكونات الكونية على أنها مادة خصبة للمخيال ، وتعاطي في الإسلوب ، ومعجم كبير من مفردات اللغة والفكر الخام . إنه منجم من الأفكار تنفع وصفةً في تجديد الوجود وديمومة شبابه .

إنه (الشعر) يمسح في سرديات الوجود كل تلك الكُنى الكونية ليلتصق بأكتافه تميمة تبعث بأساطيرها ، وحقيقتها ، وتعابيرها ، ورسائلها طمأنينة لكل الكائنات... لئلا تنفرد الحركة المضادة بفعلها المعاكس في إطلاق مشفراتها وتقطع بتفاصيل الموجودات على نحو لا يتقبله الإنسان ، إنه طاقة الجزء القابلة للحياة في كلية ذلك الوجود قبل أن يتمادى فعل العطب البشري ليغطي مساحة ذلك الوجود .

ينبجس الشعر مدافعا عنه (الوجود) فيصطبغ بفعلةِ التجنيح وتهدئة الألم بطريقة إشهار ورصد معاضله كلها) راجع كتابنا ، عبد الجبار الفياض ، حكيم من أوروك.

.   .   .

لا شك في أن كل نص يخضع الى ظروف تشكّل سياقه الأول فنيا ، ووعيا ، ومفهوما ، وتناصا ، وخيالا ، وأرخنة... وهذا التمعن في السيرورة يفضي بنا الى البحث عن اختيار طريقة تناسب قراءة  النصّ ، طريقة تبحث عن الإستقراء في تجديدية الدلالة ، والأخذ بتطور الوعي وأثره في قصّ كل ما مستحدث.

 

حول المقدمة .

في مقدمة كتاب الأستاذ هيثم الطيب (أقرب مما ينبغي) يجد الكاتب أن النص في لحظته هو شكل يشترط فيه السطر الواحد... الى الستة ، ثمَّ ترقيم ، أي وضع علامات عددية متسلسلة 1، 2 ، 3...أعلى النص ، يقول الأستاذ هيثم الطيب : (الذي أريد قوله هنا : أن أطلاق هذه التسمية العراقية لهذا النمط الشعري الذي يتضمن نصا يتألف ربما من سطر واحد أو أثنين ولغاية ستة أسطر يعني بأن إشتراطات هذا النص قد أكتملت من ناحية الشكل وسيكون بعدها على الشاعر وضع علامة عددية...) أقرب مما ينبغي ، ص3

ثم يتعرض هيثم الطيب الى فكرة اللغة والمعنى والإسلوب (التكنيك) أي فنية شكل الكتابة على أقل تقدير من وجهة نظر المكتوب ، فيستعرض قضية النمطية الكتابية ورؤيته فيها ليوعزها الى موضوعة (ما بعد الحداثة) في قوله : (من خلال بحثنا في الشكل والتكنيك الحديث ورؤيتنا الخاصة لما بعد الحداثة وجدنا بأن الجراة في توظيف المعنى يُحقق حضورا لغويا لافتا...) المصدر السابق نفسه ، ص5  .

يتضح مما سبق أن هيثم الطيب في منهجه الكتابي يقترب كثيرا من المثالية النصية (الشكل) أما الإجابات الأخرى فتأتي تباعا في إطار إرهاصات المادة (المضمون) ويجعل من اللغة قرينا للمعنى  وذلك بمزاولة النص لتوظيف المعنى بحضور اللغة ، وهوالقائل : (بأن الجرأة في توظيف المعنى يحقق حضورا لغويا لافتا) أي أنه يرى أن التتابع اللغوي هو من يصدر خطوات الحقيقة في البنية النصية ، وبالتالي هنالك إجراء (بنيوي تكويني) يتحقق جراء ذلك الفعل المتأزم الذي يجمع النقيضين (بنيوي ــ تكويني) .

أما رأينا أن اللغة لا تبتدع عناصرا للمعنى الأصيل ، لأنها مالكة للعناصر البنيوية الأصيلة في تداخل علاقاتها ، والعلاقة بينهما علاقة ثابت(الكتابة) ومتغير(اللغة) والأخيرة لا تعمل على قطع المعنى والإبقاء عليه ، فهو في حال الإعتماد يكون متغيرا تبعا لتغيير اللغة ، وتبعا لإعادة تأهيل المراحل السابقة في منظومة استقراء مستمرة ، وهذا ما نسميه بـ (إيذاء المعنى) بعد أن تُسلم الذاكرة مقتنياتها كلها للغة . يتضح مما سبق أن اللغة لا تُجيد المعنى لكنها تعده للتهيئة .

إن هيثم الطيب في كتابه (أقرب مما ينبغي) أراد أن يُعزز ، ويُثبت من النمطية النصية ما هو خائض في السيرورة ، وذلك من خلال نصوصه التي أطلق عليها بـ (اللحظة) ووفق المعطيات التي تعرضنا اليها سابقا ، وأن يُثبت مفردة (اللحظة) ويجعلها تنساب في معزل عن الإشتباك مع بقية المفاهيم الأخرى (الومضة ــ القدحة ــ الضربة...) وهي لحظة اللاعودة في الكتابة واللاعودة في الوعي واللاعودة في الزمكان .

الموضوع الآخر الذي قدِمَ عليه هيثم الطيب هو توطين العتبة الأم والغاء العتبة السيمائية الدالة على (النص المنزلق)* واستبداله بالترقيم معللا ذلك بقوله :(إذ أنني أرى لا ضرورة دلالية لوجود العنوان في هذا النص ، وستكون عموم الحركة الدلالية والسيمائية داخل المتن الشعري) المصدر السابق نفسه ، ص6 .

أما رأينا فنقول : إن التوافق مع هيثم الطيب في هذه الجزيئة مطلوب ، ففي فكرة الغاء العتبة السيمائية في (النصوص المنزلقة) لا يؤثر على مجمل النص الذي ارتهنت عتبته بالنص السيمائي الأول ، فالنص تطاله عتبة بارزة هي (أقرب مما ينبغي) وقد بيناه في كتابنا القادم " أبدية النص ، سرديات اللغة والكتابة ، علي عيدان أنموذجا " أن النص الموازي ، والهامش المرافق لذيل النص لا قيمة فنية أو نسقية لهما على سيمائية النص ومن الممكن أن تستثمر لغتهما في قضية أخرى من النص للحصول على الدفق اللغوي .

إن لتداخل الأجناس الأدبية فيما بينها خلق صعوبة في استكناه الضرب التجنسي للنصوص عند القارىء ، الأمر الذي قد يزيح فكرة التجنيس مستقبلا ، وذلك لوجود انتقائية قد ينفرط عقد تجانسها فلا يجلو أثرها هذا الإطلاق المصطلحي الذي تتجه مفاهيمه الى ضابط المشترك اللفظي ، فهذا الكم الكبير من المصطلحات قد لا يضبط إيقاع الجنس ، سيما وأن للنصوص المستحدثة خصائص قد تنفرد بها بصورة جلية عمن سبقها ومنها : النص الموازي ، أو العتبة الأم .

أن (النصوص المنزلقة) هي نصوص غير بنيوية حال تتمة إطلاقها من الحركة الى الفعل إبتداء ، وبالتالي انكسار اللفظ على حيز الذاكرة يحتاج الى تأمل أوسع ، وتحجيمه اقتصاديا قد تطلب منه فنية خاصة للتعبير عن مفهوم اللغة المختزل ، فهو براغماتي الشكل ، والمعنى ، واقتصادي اللغة والمبنى ؛ لكن تتأتى فيما بعد الوفرة الكتابية إذا ما عومل النص بشكل انزلاقي محترف (يستطيع إعادة هيكلته بنائيا من طبيعة خصائصه) أي أنه متأت من كتلة نصية آخرى مكتوبة وقد فُرطَ عقده معها ، أو أنه صالح في بنيته لأن يشكل نصا جديدا غير مكتوب لكنه موجود على أقل تقدير في الذاكرة ، وفي هذا الطور يمكن أن نستدل على أن (النص الانزلاقي) لا يقف عند حدوده المنزلقة بل هو نص قابل للزيادة البنيوية إذا حافظ على عناصر البنية ، وبتكاثر تلك العناصر تتكون بنى جديدة ، وبالتالي فهو يتمنهج وفق نوع انزلاقه ويتموضع ضمن علاقته بـ (المكتوب ــ اللامكتوب) .  

 

النص الانزلاقي .

يحدث في النصوص الكبيرة أن ينزلق منها نصوص صغيرة مظنونا منها أنها تشكل جزء أو كل من دلالة النص الكبير (أي جنسية النص الأوحد) بمعنى أن علاقة العناصر مع بعضها تتمركز في اللفظ المنزلق والمعول عليه في العرض الإسلوبي ، وهذا الإنفصال يؤدي الى الإستقلال . كتابنا القادم (أبدية النص ، سرديات اللغة والكتابة ، علي عيدان عبد الله أنموذجا)  

فلو أنك تقرأ (أقرب مما ينبغي) سترى أنك قبالة نص واحد طويل عتبته الرئيسة هي (أقرب مما ينبغي) وقد قسمه الكاتب وفق العلامة العددية (الأرقام) وفي الوقت نفسه أنت قبالة مجموعة كبيرة من (النصوص المنزلقة) كل واحد منها يقع تحت سلطة العتبة نفسها ، وكأن هيثم الطيب قد خيّر القارىء بلعبة النص الطويل ، أي مجموعة من (النصوص الانزلاقية) أو أن يختار من مجموعة النصوص هذه ما هو منفرد (قد انزلق) من النص الطويل ذات العتبة (أقرب مما ينبغي).

 

        159

أعبثُ بالفضةِ الآن

فكلُّ شيءٍ على ما يُرام

البحرُ ، والمقبرةُ

التي ما زالت في مكانِها العتيق 

 

        160

مختنقٌ بالشجنِ

النهرُ لا يسكنهُ غيري

وأُولئكَ البعيدونَ

الذين يخنقُهم الشجن

 

     

161

مرةً أخرى أعود اليكِ

لا خيارَ لي سواكِ

كنتُ أُلاحقُكِ

عندما ظهرتْ صورتُكِ في المرآة  /المصدر السابق نفسه، ص66

 

 

تسمية الجنس تأويل للشكل الشعري .

توضع النصوص على أنها قدرات إبلاغية تسير في طريق من التشفير ، والألاعيب المستمرة ، مما تحدث عملية تقابل لتشفير جديد تحدده العلائق ، والمقترنات ، والنضج في التأويل... في قوة النص التي يتلقفها القارىء .

كلما انعكس النص على رؤيةٍ فلسفيةٍ ، اقترب من العلمية ، والتقط القارىء أوليات الظنية التأويلة ، وبالتالي ايقاظ ما من شأنه أن يعمم النظرة الفلسفية لذلك العمق البشري ، وقراءة مكونات النص العائم على مساحة كبيرة من التأمل... ويكون ذلك شبيه بالتناسبية المحسوبة طرديا ، فكلما يكون التفاعل بقدر حجم بؤرة الأحداث المتدفقة تصاعديا يقابلها بقدر الحجم المهضوم المتصاعد حجم الدلالة ، أي أن المعنى تصدره أنظمة السياق ، فيُفهم من البعد التكويني لخصائص مكونات النص ، فكتون بذلك اللغة ليست مشروعا ندلل به على مثالية الأنموذج في التعاطي مع الدلالة ، وإنمـا كل ما يحصل هو تهيئة الذهن لتلك الدلالة .

وإذا كان المشكل في تأويله قد يبتعد عن مقاربة ما نظنها تشكل عقدة في مسار فهمنا لجنس النص ، فنظن أن الجنس له علاقة بالمعنى ، نكون بذلك  فلا نجد حلا أقرب الينا من الدخول الى فلسفة ذلك المشكل ، فالفلسفة تحرر العقل وتجعله يفكر ويتساءل ، يعني ممكن أن تغير من اتجاهات سياقك وذلك بتغيير قناعاتك التي تتغير بتغيير استراتيجية النص .

إن النص ينشأ لوحده عضويا متخذا من وجوده مساحة كبيرة للتأويل فتتلاقفه الثقافات ، وتسحبه الى غايتها واستراتيجياتها ، فهو فردي النزعة ابتداء في سياقه ، سرعان ما يكون جمعيا في قضية الفهم التي تُفرض من قبل قارىء فردي ، أو مفكر يعمم ما يعتقده على الآخرين ، والآخرون هم الإنتاج الدلالي على شكل وفرة إعلامية لهذا التعميم ، فيتحول النص بفعل ثقافة الآخر الى آيديولوجية فردية قد لا تمثله سياقيا (النص) في لحظة ولادته ولا بعدها ، وإنما هي قدر من المحاولة للمكوث في سياقه وفهمه عن قرب ، ليتسنى للقارىء أنه يطوف حول موضوع يعرف له منفذ ومعيار ، وتجنيس .

إذا ما استحضرنا ذلك التفريق في مدرسة براغ الذي يقول بأن الشفرات النصية تتجه الى الشفرة(الجمالية) المهتمة بالتناسق والتناغم في الأنساق ، أو تنقلات الأحداث... والشفرة الرمزية (اللغة) والشفرة النظرية (الأفكار) وقد تكون تلك الأخيرة الطفرة التي تنقل النص الى بناءات فكرية لدى القارىء . فمثلما يتلقى القارىء هذا السيل الضاغط على منظومة من الأفكار فأنها تحتاج الى مصنع يدوّر هذه المادة المخصوصة به ليحلها الى توزيع ، واستهلاك بعد جاءت من إبداع وانتاج ، وخير من يمثله هو ذلك القارىء .

وبما أن الشعر فكر وإن كان شعرا ، قد تكون تلك منطقة (برزخية) أختصت بفحص قدرة الشاعر على إيجاد مناطق يسوّق من خلالها الحدث الشعري ، إذ أن التعبيرية نتاج صوتي ــ كتابي ، والشعر نتاج يتكون في التفكير ، هذا الأمر من متبنياتنا في فهم النص ، وإيماننا بأن الشعر قضية فلسفية حصلت نتيجة وجود التفكير العميق للسرديات الكونية .

 فاذا أنت (حركت) أشياءً كانت ساكنة أحدثت فيها مفاهيما جديدة ، وفعلا شعريا ، وآخر لغويا عن طريق نظام فطروي ، أي أنك نقلت ما تحرك في عقلك الى فعل ، وليس الغرض من الحركة إيجاد الفعل الشعري فهو قائم بأثره ، لكن الغرض الكيف الذي سيكون عليه الفعل من إنتاج ، فالقارىء لا يجد بالحركة ذلك الفعل وإنما يرى الكيف للفعل نفسه ، أي قدرات ما وراء الحركة لجمع وعي للقارىء ، فلو أنك تأملت راقص البالية ترى فيما بعد أنك تتكلم عن حركاته الى أن تستوفي صورة فعله ، والأمر كذلك في مباراة للفنون القتالية عندما تتحطم الكتل الخرسانية بحركات معينة ، ولاعب كرة القدم ، والخطاط الذي يستخدم حركة اليد لإنتاج الفعل ، وحركات الجسد والوجه... إنما تكتمل هذه الأفعال بأكتمال حركتها ولو بعد حين من الضياع المهم في النجاة أن الحركة لم تنته في خضم هذا الصراع .

 

 

الإحتفالُ حزينٌ بالكلمات

الكلماتُ لا تليقُ بالأفعال

الأفعالُ التي ضاعتْ في الحروب      أقرب مما ينبغي ، ص10

 

 

 

 

 

 

تناص أم انزلاق .

 

إذا ما أحيل النص الى التجنيس فأنه يأتي بمشكل مصطلحي ، يمر بأطوار تجاذبية قد يُصار تباعا الى مصطلحات تنزلق هي الأخرى من المصطلح الأول . فالجنس الأدبي ، قضية تعودها القارىء من خلال مكونات المكتوب فانشأت بينهما علائق فكرية .

لقد قدّمنا في كتابنا (أبدية النص . سرديات اللغة والكتابة ، علي عيدان عبد الله أنموذجا) هذا السؤال : من يحدد جنسية النص من غيره ، وهل ترتبط (الجنسية) بالمفردات اللغوية وعددها قصرا وطولا مثلا ، أم هي جميع ذلك القدر من القرائن التاريخية ، وبالتالي ينتج من خلط اللغة بإطلاق اللفظ معايير نستخلص منها تلك المفاهيم ، أو أن النص يقدر ما له من متبنيات تطفو على السطح فيتلقفها من كان قد بحث بها سلفا ؟

حتى لا يختلط البحث بمفاهيم لغوية بحتة وتعلو على سقف هائم من المفردات ، نعرج على المحتوى الوظيفي لتلك (الجنسية) الذي نجده طريقة إسلوبية في المعالجة النصية ، وطريقة موضوعية في تنضيج فكرة (الكتابة الإنزلاقية) أو (النص المنزلق) فلو إننا تناولنا نصوصا قصيرة أو طويلة نعتقد أنها نصوص غير منتهية وبالتالي هي نصوص غير مكتوبة ما دامت متعلقة بالسؤال الآتي : متى أكتب نصا لا جنس له ؟ وهذا التساؤل يفضي بنا الى التساؤل الآخر ما حقيقة ما نكتب ، وإسلوب ما نسطّر من نصوص ، والإجابة تكون دائما مؤجلة تدل على أن كل ما نكتبه ما هو الا نصوص منزلقة من نص أكبر ، لها كيانها وتباعتها النقدية ، وهذا التساؤل قد يلازم لفكر أي كاتب يبحث عن المستحدث والجودة . فهذه اللحظة عند هيثم الطيب هي لحظة الكتابة التي يمتلك بها اللغة والتاريخ ، والمعنى ، وفلسفة الكتابة ، والحياة ، والموت ، والأنساق ، والإتساق ، والعناصر ، وحرق المراحل... وهي لحظة في يلفظها اللاوعي في أي زمن لحظوي ، إذ لا يمكن تكرارها إلا في حال توفر تلك الظروف ، سيما وأنها مقترنة بالأنسان الجمعي .

 

هذه اللحظةُ

لا تستطيعُ بلوغَ الفناءِ

لأنك فيها  .                   أقرب مما ينبغي ، ص60

 

لو أننا انجزنا عملا نصيا معيّنا وكان متوافقا مع النص الذي نؤمن به فهل هذا يدل على التناص ، أم يدل على الانزلاق ؟ ولمن تعود تبعات هذا النص سواء أكان ذلك النص مكتوبا أو غير مكتوب ؟ وهل أن درجة الايمان بالطور الكتابي لها تاثير على قيمة النص (الايمان بالحداثة مثلا) ؟

أن التناص يلغي وجودي مفكرا ، وباحثا ، ومتأملا ، وحداثويا... ويتهمني دائما بمرجعية عائدة الى أصل الوجود الأول للنص ، إذا كنت أطالب بحرية أفكاري فما حاجتي الى أن التصق متناصا مع كذبة حرية الكتابة التي هي من حيث مكونات مادية تتهمني بأخر المطاف بالتناص مع مرجعيات أخرى ؟

قد يقول البعض هذه دعوة التفكيك عند دريدا ، والصحيح هي ليست صفة تفكيك لأن التفكيك يؤصل للإحالة ، وإنما هي صفة (فك ارتباط) بين النصوص ، لهذا ينبغي علينا ألا نحصر النص في بعده التاريخي فقط ، فـالنص المعاصر متأتي من مثاقفته وإختلاطه مع أكثر من نص ، فتكون فكرة التناص الحديث هي فكرة قد طورت نفسها بنفسها ، وتكونت من مجموعة نصوص ، و(النص الإنزلاقي) يحاول أن يتخلص من عائمية التناص ذاته لئلا يكون في ردهة النص الواحد وموقعه بمثابة فردانية المستقل ، والعلاقة بين النص الأم والنص المنزلق علاقة انفصال دائمية ، أو (انفصال من كان الماضوية الأصل) والانفصال يعني أن لا وجود حقيقي لفكرة تناص أو أرخنة (ما دمنا تخلينا عن فكرة النص الأول (وتناسيناه) وارتبطنا بالفكر الذي يبحث دائما عن وجوده الحر المفكر) ثم لا مناص من انفراط العقد بين النص الأم الذي ترك المشيمة للمولود(وهي اساس الحياة) وبين النص الجديد الذي يفكر في التخلص من تبعية تلك المشيمة ، أو ترك الاصل(النص الأول) الذي يعني بضرورة تحمل المسؤولية المستحدثة  ، وبمعنى أدق ، أن من يحدد أصالة النص والتفريع هو الأسلوب المتطور دائما الذي لا يُعدّ تناصا !  

إن الإنسان هو ذاته نص منزلق(أصل في الوجود) من وجوده ، والشعر له من القدرة الأبداعية أن يكون موضوعا في المصنوع (الإنسان) . لا نريد أن نحمل النص تباعات التناص ، ولا المجنِس ذلك القسط من المسؤولية ، ولا اللغة في نظامها ، يقول هيدغر: "إن الفكر الممتثل بإصغائه لصوت الوجود يبحث لهذا الأخير عن الكلام الذي انطلاقا منه تأتي الحقيقة إلى اللغة." وهذا ما توافق عليه هيثم الطيب في تقديمه نصوص تؤمن أن اللغة تقدم أفضل ما عندها في النص اللحظوي من خلال لعبة النسبية بين اللغة والمعنى وتنامي السرديات الأنسانية لتمد مجساتها عبر أدبيات الوجود .

 

 

 

في أيار 1966

أبي يضعُ يدا بيضاءَ

على شجرة تزهر           المصدر السابق نفسه ، ص86

.   .   .

يُمكنني الآن البحث عن أبي

ربما يكون ذهب الى العمل

وربما يكون الوقت قد نفد

أو تغير                    المصدر السابق نفسه ، ص8

.   .   .

مثل صلاتِكَ

بقيت ذكراك

أيها الأب ماثلة كمعبد .

 

.   .   .

بلا ضجيج غادرت

وتركت سماء وحيدة

وحقلا من الزهور

 

.   .   .

 

أحدق الآن بتلك السنين التي مرت

كانت حافلة بالأسى

والأحلام الكبيرة .             المصدر السابق نفسه ، ص36

 

فضح الحُجُب .

وأنت تطلع على تلك الكتابات الشعرية المعاصرة تجد أن هنالك مشكل في فخامة المحتجب النصي ، أو بمعنى أدق هنالك قضية تكبر دائما في صراع مخيف يلوذ بمحتجب وقد تُرِعَ بهموم الإنسانية ، وطبيعة الألم الناشىء من التفكير المهيمن على العقل والتساؤلات التي تُقدم الى الآخر المسكون بالوجع والعطب الوجودي .

قد يكون المنفى وحدةً للهم القابع في النفس البشرية ، وليس ذلك البعد المكاني المأكول في السيرورة ، فيجتمع المنفى مع الآنوية في مكان يضج باللامبالاة ، باللاحرية .

 

في المنفى

حريتي أبعدُ مني

وأنا وحيدٌ

معلقٌ كقميص على الحبل       المصدر السابق نفسه ، ص12 

 

إنها نصوص زاحفة ، متمددة على مساحة كبيرة من التأويل ظنا من القارىء أن يتقمص ذلك الخيال الشاسع في المحتجب ، أو القدرة على تتمة النموذج السياقي واحداث انفجار دلالي متأتي من طبيعة النص نفسه ليتشعب ذلك السياق مطردا (مستمرا) في سلوكه المحتجب هو الآخر ، فقد يكون وعي الكائن البشري لذاته أن تستوقفه تبادل تجربة الاعتراف به اجتماعياً ليعترف بوجوده ، وليبدو أكثر استقرارا في حقله العقلي الذي يتشارك به مع الآخرين في قلب الواقع ، أو قد يكون أكثر اتزانا إذا ما رضيت عليه النظريات النفسية ، أو أكثر التصاقا بعرقه وهو يبحث في التاريخ لإحيائه من جديد ، أو تسلخه أبجديات السياسة...وقد يرتدي أقنعة ليسبر بها غور تلك العزلة الموحشة التي هي من كونها وحدةً وإن تلونت .

 

تلبسينَ أقنعةً كثيرةً

تخترعينَ لكِ عزلةً بيضاءَ

لكي تظهري بشكلٍ أفضل          المصدر السابق نفسه ، ص 12

                          *   *   *

لديَّ اسمٌ مستعارٌ

لستُ مطمئناً الى ذلك

لأنهُ يدنو مني

ويجعلني أكثرَ عزلةْ              المصدر السابق نفسه ، ص32

 

إن الإنسان يرى النص آلية تمظهر هذا الوجود ، فيتسم بين أثنين ، نص يتمظهر فيه الإنسان (يكتبه هو الانسان) فتكون له سلطة عليا عليه (النص) ثم تتلاحق موجوداته من أجل اشباعه ، وآخر مكتوب يتقلب به (الإنسان) بحثا عن مخارج دلالية توقظه من المحتجبات ، أي أنه مكتوب في تلك النصوص ، تلاحقه أدوات كثيرة ، وما يجمعهما ذلك التشابك المفضي الى تحكيم الدلالة .

.   .   .

نظنّ أن النص سلطة الحقيقة المحتجبة والسياق سلطة بحث القاريء في ظهور المحتجب ظنا ، أو إضماره لحال ألم وجودي وما بينهما إنتاج من فراغات قد لا تنتهي في الوعي " لذلك تزخر حياتنا بالكثير من النصوص ؛ منها القانوني والسياسي والإعلامي ، ومنها الديني والأدبي والفلسفي... وكل واحد له دوره المتميز في تحريك التفاعل الإجتماعي وفي تنظيم جانب ما من الحياة الإجتماعية " محمد الأخضر الصبيحي ، مدخل الى علم النص ، ومجالات تطبيقه ، الدار العربية للعلوم ناشرون ، منشورات الإختلاف ، ط1 ، ص13 .

نستطيع أن نستنتج أن الكتابات المستحدثة لا تفارق ثيمة الحزن ، وإن تناولت بعض النصوص غير ذلك ، لكنها تغطية سرعان ما تنفتق أسرارها ، ومن هذا الإستبطان أن الوجع في مكان احتجابه يكون مرافق لأزمة حقيقية غير محتجبة ، إذ التحسس بوجود محتجب يعني الإيمان بوجود (وضوح المحتجب من حيث المشكلة) وقضية السياق متعلقة من حيث التابع والمتبوع بسلوك النص ذاته ، أي إننا نرى مشكل ما هو واضح في تعبيره، لكننا نراه محتجبا في كيفية تفسيره .

 

كيفَ سيعرفني الرعاةُ

والقرويونَ

والقروياتُ اللواتي يغنين

عن نارٍ لا تنطفىء             المصدر السابق نفسه ، ص66

 

فالمحتجب : ما غَفٍلَ عنه غيرك ، وما تراه أنت مقروءاً ، بيّناً بعيون الآخرين دون المساس به ، وما يراه الآخرون خافيا بعين النص دون التعرض اليه ، أو تحويله مفككا مقروءا بالسياق ، وكلا الرؤيتين محتجبتان في الأصل فـ " ثمة نصوص لا تستنفد قراءتها . وهذه هي خاصية النص القوي ، إنه لا يقول الحقيقة ، أي لا يقول كل شيء عما يريد قوله ، وهذا هو معنى القول أن للنص حقيقته ، معناه أنه تقوم بينه وبين الحقيقة حُجب وحُجب..." علي حرب ، النص والحقيقة 1 ، نقد النص ، المركز الثقافي العربي ، الدار البيضاء ، المغرب ، ط5 ، 2008 ، ص18

هذه الحجب تنم عن علاقة لا يمكن تفسيرها أو فهم مضامينها المتعلقة بغموض هذا التوجه وعدم التيقن من وضع حتى فرضية للإقتراب منه .

 

المقبرةُ موحشةٌ وباردةٌ

هناكَ

حتى الليلُ يرتجف            المصدر السابق نفسه ، ص35

                         

                       *   *   *

يمكنني الآن البحث عن أبي

ربما يكون ذهب الى العمل

وربما يكون الوقت قد نفد

أو تغير                         المصدر السابق نفسه ، ص8

 

إن أصل الإحتجاب أصل في الوجود ، أصل في التعامل اليومي ، أصل في النص وبما أن الرؤيتين محتجبتان(الوجود ــ النص) بذاتهما فما يمنع أن يكون السياق الأصلي في النص نفسه محتجبا هو الآخر ، وهذه الإنطلاقة التي ينبغي أن نركز عليها في القراءة ، فالذي يريد أن يفتح مزالج فكره ينبغي عليه أن يؤمن أن هنالك حقيقة تغطيها سُحب الفكر المتراكمة ، والتي يمكن إزالتها مجازيا بآلية الفكر نفسها ، وكما هو حاصل بين النصين اللذين يشكلان سؤال وجواب محتجبين قد أكتفيا بالإجابة غير المؤكدة لعظم المحتجب . بماذا يعنينا المعنى؟ أكيد نحن لا نقصد اللغة ، ولا نقصد سوى النص ولا كائن غير النص وبقية العلاقات ظواهر تطفوا تارة وتضمحل أخرى ، والمعنى (هو قدرتنا فقط على ما يمكن معرفته أو ما سوف يمكن أن يُفهم) .

 

 

الخاتمة .

 لم يواجه النص قضية معقدة مثل قضتي الجنسية ، والدلالة اللذين نشأت معهما تلك العناوين التي توافقت واختلفت مع ما أفصحت عنه اللغة ، وما أفتقرت اليه ، وما سُددت .

لسنا في تعارضٍ من القول بقدر ما نصبو اليه من مدّ هذه الرؤية  الى محاولة فهم المعنى من (كونياتنا الصغرى)أبتداء ، ونبتعد عن المراوغة ، أو إقحام المفردات ، كيما نتشبث بالمستغرق الذي هو الإمعان في التفكير في قضية الشعر ، فإننا نحتاج لإستكشاف طرق للمعنى غير طريق اللغة .

إن ما قدمناه لهو جوهر المسألة ، وهذا يعني أن حرث المعنى باللغة لا يجعل النص في المدى الأوسع سقفا من حيث الدلالة ، وقد يقودنا هذا الطريق الى التخلي عن الكثير من العناصر القابلة للضياع والترك والأجدر بنا أن نتحكم بجزئية ارتباط علاقة القرينة بالمعنى لتثبيت موضوعة الفكر بالمعنى ، وبالتالي علاقة الوعي بالنص ، وكما هو حاصل في النصوص المنزلقة في ديوان هيثم الطيب .

.   .   .

*راجع كتابنا : أبدية النص ، سرديات اللغة والكتابة ، علي عيدان عبد الله أنموذجا .


قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat


هيثم الطيب
 (للدخول لصفحة الكاتب إضغط هنا)

    طباعة   ||   أخبر صديقك عن الموضوع   ||   إضافة تعليق   ||   التاريخ : 2020/04/15



كتابة تعليق لموضوع : الإنزلاقية النصية بين المكتوب واللامكتوب .بحث في فكر النص .في ديوان(أقرب مما ينبغي)
الإسم * :
بريدك الالكتروني :
نص التعليق * :
 



حمل تطبيق (كتابات في الميزان) من Google Play



اعلان هام من قبل موقع كتابات في الميزان

البحث :





الكتّاب :

الملفات :

مقالات مهمة :



 إنسانية الإمام السيستاني

 بعد إحراجهم بكشف عصيانها وخيانتهم للشعب: المرجعية الدينية العليا تـُحرج الحكومة بمخالفة كلام المعصومين.. والعاصفة تقترب!!!

 كلام موجه الى العقلاء من ابناء شعبي ( 1 )

 حقيقة الادعياء .. متمرجعون وسفراء

 قراءة في خطبة المرجعية : هل اقترب أَجلُ الحكومةِ الحالية؟!

 خطر البترية على بعض اتباع المرجعية قراءة في تاثيرات الادعياء على اتباع العلماء

 إلى دعاة المرجعية العربية العراقية ..مع كل الاحترام

 مهزلة بيان الصرخي حول سوريا

 قراءة في خطبة الجمعة ( 4 / رمضان/ 1437هـ الموافق 10/6/2016 )

 المؤسسة الدينية بين الواقع والافتراء : سلسلة مقالات للشيخ محمد مهدي الاصفي ردا على حسن الكشميري وكتابيه (جولة في دهاليز مظلمة) و(محنة الهروب من الواقع)

 الى الحميداوي ( لانتوقع منكم غير الفتنة )

 السيستاني .. رسالة مهدوية عاجلة

 من عطاء المرجعية العليا

 قراءة في فتوى الدفاع المقدس وتحصين فكر الأمة

 فتوى السيد السيستاني بالجهاد الكفائي وصداها في الصحافة العالمية

 ما هو رأي أستاذ فقهاء النجف وقم المشرّفتَين السيد الخوئي بمن غصب الخلافة ؟

 مواقف شديدة الحساسية/٢ "بانوراما" الحشد..

أحدث مقالات الكتّاب :


مقالات متنوعة :





 لنشر مقالاتكم يمكنكم مراسلتنا على info@kitabat.info

تم تأسيس الموقع بتاريخ 1/4/2010 © محمد البغدادي 

 لا تتحمل الإدارة مسؤولية ما ينشر في الموقع من الناحيتين القانونية والأخلاقية.

  Designed , Hosted & Programmed By : King 4 Host . Net