عندما نقرأ عن هارون العباسي فإننا نقرأ عن مفارقة كبيرة في حياة هذه الشخصية ، ففي الوقت الذي أتسع فيه مُلك هارون وشسعت مملكته وتباعدت أطراف سلطانه ، نجد نفسه تزداد ضيقاً وإنسانيته تقف على حافة هاوية سحيقة العمق لا يكاد يجد موضع قدم يتشبث بها عن السقوط ، فبدل أن تبتعد عن كرسيّه حدود الخوف بترامي حدود مملكته نرى أنّ الرعب يملأ كيانه والقلق يغزوه الى قعر داره ويلزمه حتى في فراشه ..!
فهارون الذي يُخاطب السحاب : أمطري حيث شئت فخراجك لي ، يستيقظ من نومه مرعوباً من رؤيا يراها كأنّ رجلاً أسود أتاه وبيده سيفه حتى وقف على رأسه وقال له : يا هارون أطلق موسى بن جعفر وإلّا ضربت علاوتك بهذا السيف .. مما حدا به أن يُرسل الى الإمام ويُخرجه من سجنه ، ولمّا حضر عليه السلام قال له هارون : ناشدتك بالله هل دعوت في جوف هذه الليلة بدعوات ؟ قال : نعم ، قال : ما هنّ ؟ فذكر له دعاءه فقال هارون : قد استجاب الله دعوتك ..
دنيا من ورقٍ دنيا هارون ، وكأنَّ علياً عليه السلام يصفها :
إنما الدنيا كظلٍّ زائلٍ
أو كضيفٍ بات ليلاً فارتحل
أو كطيفٍ قد رآه نائم
أو كبرقٍ بانَ في أفقِ الأمل
أمّا سجن موسى بن جعفر حيث لا عرش مرصّع ولا حواشي رُكّع ، كان هو مقرّ القيادة الحقيقية وقتئذ ومكان السلطة الإلهية في الكون ، فقضية صالح بن واقد الطبري - من شيعة أهل البيت ع في عهد الإمام - واضحة عندما حبسه هارون حيث يقول : فواللـه إني لفي بعض اللّيالي قاعد وأهل الحبس نيام إذ أنا به - بالإمام الكاظم ع - يقول : يا صالح ، قلت : لبيك قال : صرت إلى ههنا ؟ فقلت : نعم يا سيدي ، قال : قم فاخرج واتبعني ، فقمت وخرجت ، فلما صرنا إلى بعض الطريق قال : صالح يا رسول اللـه محبوس مظلوم فكرر .. ذلك ثلاثاً ، ثم قال : السلطان سلطاننا كرامة من اللـه أعطاناها ، قلت : يا سيدي فأين أحتجز من هذا الطاغية ؟ قال : عليك ببلادك فارجع إليها فإنه لن يصل إليك ، قال صالح : فرجعت إلى طبرستان ، فواللـه ما سأل ولا أدري أحبسني أم لا ..!
السلطان سلطاننا كرامة من الله أعطاناها .. بهذا الكلام صرّح عليه السلام ، فهل يبقى لسجنه هو عليه السلام عنوان حقيقي ، أم يبقى لتسلط هارون عليه موضوع واقعي ..! نعم ، الحقيقة والواقع في الحكمة التي أرادها الله تعالى من كل ما جرى ويجري على أولياءه وحججه على أرضه وخلقه .. فلا أرض لهارون ولا سماء ، والأمرُ كلّه لله تعالى ولمن ارتضى ، عن الإمام الباقر ( عليه السلام ) : ما يأخذ المظلوم من دين الظالم أكثر مما يأخذ الظالم من دنيا المظلوم . " البحار : 75 / 311 / 15 "
عظم الله لكم الأجر
قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat