صفحة الكاتب : د . سمير ايوب

بعضُ الحب مُؤذٍ عشوائيات في الحب – العشوائية 22
د . سمير ايوب

كانت الناجيةَ الوحيدةَ في حادثِ غدرٍ ارهابيٍّ طائفيٍّ بَشعٍ في سوريا ، فقدت فيه كلَّ أسرتِها . لا تدري كيف وصلَتْ الاردن سالمة منذ سنوات . 

قبلَ أن تجدَ كَتِفا تَتِّكِئ عليه ، حاربَت الوقوفَ على حوافِّ الذكرياتِ  بالهُروبِ المُتْقنِ إلى غيطانِ أحلامٍ تُشبِهها . أسست شركة برمجيات متقدمة ، في العاصمة عمان ، حيث استقرت . 

سيدة لا يبدو عليها انها قد تجاوزت الستين من عمرها . صبيةٌ أنيقةٌ طيبةُ الخُلق . كرذاذِ مطرٍ يُحْيِي ولا يُؤذي . مِزاجيةٌ عفويةٌ كالأطفال . تبكي إنْ فرِحَت وإنْ حزِنَت . تَلتَقي نَفْسَكَ إنْ جاوَرْتَها . تُفتِّتُ قَلقكَ إنْ حدَّثْتَها عَنْ حَزَنَك .    

ما إنْ جلَسَتْ بجانبي بمقهى في جبل القلعة ، مُطلٍّ على المُدرج الروماني وسط عمان ،  ذابَتْ أصابِعُها في أصابِعِها قبلَ أنْ تقولَ لي: أظنُّك تُؤمِنُ مِثليَّ أنَّ تشابهَ أرواحِنا ، ساعَد على ائتلافِها منذ التقينا في مكتبك الاستشاري . ومعَ تَعدد لِقاءاتِنا ، أخرجْنا هذا الائتلافَ المرِنَ مِنْ سِياقاتِه . وتشارَكنا مِرارا في إعادة صياغتِه ، وفي ترتيبِ تفاصيلِه وأولوياتِه ، حتى باتَ أرحبَ مِنْ فوَّهاتِ المَصْلَحة . تفهمُني دون شرحٍ ، تَخْلِقُ لِهباتِ اكتئابيَ عُذرا . وتَسحَبُني مِنْ أحراشِهِ إلى حديثٍ ساحرٍ ، تَتَفتَّحُ في ثناياهُ ألفُ زَهرةٍ وزَهرة . 

قَبلَ أنْ أشعِلَ أولى لُفافاتي ، وقَفَتْ قُبالَتي وسألَتْني وهي تَحتضنُ صدْرَها : لو كَتَبتُ على صفحتي الشخصية " أحبُّكَ كثيرا " دون ذكر اسمِكَ . خَمِّنْ كمْ شخصاً سيشعرُ بالسعادة ، وأنَّه المَقصود ؟

صَمتُّ مَذهولاً مِنْ جُرأتِها . أكْمَلَتْ وكأنَّها لمْ ترَ شيئا مِنْ عَجَبي : باللهِ عَلَيكَ كَمْ تَتوقع ولا تُبالِغ . أتَظُنَّهُم خمسون ، ستون ؟! 

أعْطَتني جسارتُها وقتاً لأقرأ كلَّ ما بدا في عينيها من وهَجٍ ، ولأكشِفَ الغِطاء عمَّا بينَ شفتيها مِنْ كلامٍ مَسكوتٍ عنه . ورَدَدْتُ على سؤالِها وأنا أقَهْقِهُ بسؤالٍ مُشاغِبٍ: وهلْ تَحْسَبيني منهم ؟!

قالت فَرِحَةً : نعم ، فَفي أوَّلِ الطابور أنت . تعلم أنَّ كلَّ شيءٍ من دونِك ، بالتأكيدِ لا شيء .  

قلت بشيء من الجِدّيَّةِ : غريبٌ أمرُكِ ، لِمَ كُلُّ هذا التواضعِ إذَنْ؟ هُمْ بالتاكيدِ أكثر مِمَّا تتوقعين . 

سألتني مَزْهوةً : لِمَ بِظنِّكَ ؟

قلت بموضوعية جادة : وأنا أعلمُ أنَّ ليسَ كلُّ ما في البال يُقالُ ، سأقولُ ما تسمحُ ليَ بالبوحِ به راداراتي الأنيقة : كَثيرةٌ أنتِ ، وكَثيرُكِ خارجَ الصناديقِ الزائفة . أنتِ امرأةٌ لا تشيخُ ولا تَتَجعَّدُ ، تخشى الحياةَ بدونِ حبٍّ مُبْهرٍ . تُؤمنُ بأنَّ الحبَّ الأجملَ قدْ يتأخر . يباتُ معك هذا الايمان كلَّ ليلةٍ ، ليُجمِّلَ لكِ صمتَ الوِحدة ، ويمنحَ قلبَكِ مساحةً تُراقصينَ فيها ظِلالَ أحلامَكِ . 

إمرأةٌ تملكُ ثقةً وجرأة للخروجِ مِنْ بيتِها بِلا ماكياجٍ مِثلُك ، هي أمرأةٌ تملكُ بالتأكيدِ قلباً مَجنونا ، تَعلَّم الابحارَ وَسْط َكلِّ ريح ، وإنْ كانَ قدْ عصفَ به ذاتَ يومٍ إعصارُ الهَوى ، وأحالَهُ قِطَعاً متفاوتةً ، تكالَبَ كُثرٌ على امتلاكِ قطعةً منهُ ،واحتلالِ شيءٍ مِنْ صَبْرِهْ .

في مَشاهدُكِ يا سيدتي ، مَساحةُ الحبِّ واسِعةٌ . لم تُفْلِحي في إخفائِه . شارَكَ في رسمِ ملامِحَكَ . وجعلَ ابتسامَتَكِ أوَّلَها . 

أكْمَلْتُ وهي صامتةٌ قُبالَتي : بمرونةٍ تقاربين حكاوى العشاق . وبعد تسع شظايا وُلِدَ مِنْ رحِمِ أحدِها وجعٌ آخر . تشظى وكبُرَ حتى باتَ قبيلةً مِنْ شجَنْ . رحَلَ بعضُها ، أبْحرَ معَ أوَّلِ رِيحٍ . 

قالت بصوتٍ مشوبٍ بقلقٍ طارئ : صحيحٌ أنَّ بعضَهُم  قتلَتْهُ اللحظةُ ، فسارَ خارجَ الذكريات ، مُحاولاً بالوهمٍ المُغادرة . ولكنْ لا يَغُرَّنَّكَ كبرياءُ أيٍّ مِنَّا ، المُفارِقُ أو المُفارَق . الروحُ الراقيةُ هادئةٌ لا تَقتلُ حبَّا، ولا ترحلُ وإنْ تشقَّقَت . الحبُّ يا صديقي دائرةٌ يُقاسُ اتساعها بمدى إيمانِنا بمنْ نُحِبُّ . وأنتَ مِمَّنْ يعلمونَ أني لا أحدِّثُ أحدا عمَّنْ بالظنِّ رَحَل . ولم أودِّعْ أيَّا مِنهم ، فكلماتُ الوداعِ لا تَتَّسِعُ لتفاصيلِ ما كانَ بينَنا ، في دروبٍ مُشتَرَكةٍ بالتميُّزِ . 

هززتُ رأسيَ مُوافقا ومُقاطعا : ولكنَّ بعضهم كان قد أتقنَ الغوصَ يا سيدتي ، حتى وصل إليكِ . وحمَدَ رَبَّهُ على نعمةِ النِّساء . وصَلَ لكنه أنكرَ الوصولَ . قائِلاً أنهُ لَمْ يَجِدَكِ في الانتظارِ كما تَوقَّع .

قالت بعد أن إنتقلت وجلست مقابلي : يَصحُّ فيهم القول ، أنَّ ما ميَّزَ بعضَ هؤلاء ، هو الانطلاقُ والسبُلَ غيرَ مُمَهَّدةٍ لهم . أو أنَّ بعضَ دروبِهم كانت مبتورةً ، أو أنَّ دهاليزَها كانت مسكونةً بأحلامٍ بائسةٍ أو عاقرة . أكْمَلَتْ وأنا أحاولُ إشعالَ لُفافتي الثانية : الوحيدُ الذي أهتمُّ لوجوده لأحيا بصدق ، ولا أكتفي منه أبداً ، هو الحبُّ المعتمدُ على اثنين ، والشيء الذي لا أراهن عليه أبدا ، هو الحب المُختزِلُ أحاديُّ الأبعاد . ما ذنبيَ إذا كانَ غوَّاصُك قدِ انطلقَ على ما وجدَهُ جذَّاباً بيَ دون اثبات . كان عليه امتلاك علمَ القلوبِ وقدرةً الكشفِ والترتيب . كان عليه أنْ يعلمَ أيضا ، أنَّ بعضَ الحبِّ مُؤذٍ . لكي يعيشَ الحبَّ كان عليه أنْ يُتْقِنَهُ ، وأنْ يُتْقِنَ معه كلَّ فنونِ التَّجاهلِ باحتراف .  

سألتُها وأنا أحاولُ الإبحارَ في عينينِ مُسْتَفَزَّتَينِ أنضجتْهُما التجربة  ، ومُتحرِّرا مِنَ القَلقِ ، بعدَ كلِّ هذا العَصْفِ : باللهِ عَليكِ كَمْ رقميَ أنا ؟

رَمَقتني بنظرةٍ اختصرتْ كلَّ فِتْنَةٍ ، وبابْتسامةٍ كُنتُ أنا سَبَبَها ، كَشَفَتِ الغطاءَ عنْ صكِّ غُفرانٍ يقول : أعلمُ يا دهقونٍ أنك لا تسألُ ثوابا لِعشقك ، وأنتَ تَعلمُ أنَّني أطلبُ أجرَ اشتياقي مِمَّن أحبُّ . فَلْمْ أجادِلْ . 

ضَحِكَتْ ، قَهْقهت ،ومَضَتْ تَتَثنى  بعيدا عني ، تلوِّحُ لي ووجْهها في الأفُق . 

عمان – 1/3/2020


قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat


د . سمير ايوب
 (للدخول لصفحة الكاتب إضغط هنا)

    طباعة   ||   أخبر صديقك عن الموضوع   ||   إضافة تعليق   ||   التاريخ : 2020/03/01



كتابة تعليق لموضوع : بعضُ الحب مُؤذٍ عشوائيات في الحب – العشوائية 22
الإسم * :
بريدك الالكتروني :
نص التعليق * :
 



حمل تطبيق (كتابات في الميزان) من Google Play



اعلان هام من قبل موقع كتابات في الميزان

البحث :





الكتّاب :

الملفات :

مقالات مهمة :



 إنسانية الإمام السيستاني

 بعد إحراجهم بكشف عصيانها وخيانتهم للشعب: المرجعية الدينية العليا تـُحرج الحكومة بمخالفة كلام المعصومين.. والعاصفة تقترب!!!

 كلام موجه الى العقلاء من ابناء شعبي ( 1 )

 حقيقة الادعياء .. متمرجعون وسفراء

 قراءة في خطبة المرجعية : هل اقترب أَجلُ الحكومةِ الحالية؟!

 خطر البترية على بعض اتباع المرجعية قراءة في تاثيرات الادعياء على اتباع العلماء

 إلى دعاة المرجعية العربية العراقية ..مع كل الاحترام

 مهزلة بيان الصرخي حول سوريا

 قراءة في خطبة الجمعة ( 4 / رمضان/ 1437هـ الموافق 10/6/2016 )

 المؤسسة الدينية بين الواقع والافتراء : سلسلة مقالات للشيخ محمد مهدي الاصفي ردا على حسن الكشميري وكتابيه (جولة في دهاليز مظلمة) و(محنة الهروب من الواقع)

 الى الحميداوي ( لانتوقع منكم غير الفتنة )

 السيستاني .. رسالة مهدوية عاجلة

 من عطاء المرجعية العليا

 قراءة في فتوى الدفاع المقدس وتحصين فكر الأمة

 فتوى السيد السيستاني بالجهاد الكفائي وصداها في الصحافة العالمية

 ما هو رأي أستاذ فقهاء النجف وقم المشرّفتَين السيد الخوئي بمن غصب الخلافة ؟

 مواقف شديدة الحساسية/٢ "بانوراما" الحشد..

أحدث مقالات الكتّاب :





 لنشر مقالاتكم يمكنكم مراسلتنا على info@kitabat.info

تم تأسيس الموقع بتاريخ 1/4/2010 © محمد البغدادي 

 لا تتحمل الإدارة مسؤولية ما ينشر في الموقع من الناحيتين القانونية والأخلاقية.

  Designed , Hosted & Programmed By : King 4 Host . Net