الجزء المفقود من النصّ
يحيى غالي ياسين
المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.
يحيى غالي ياسين

مع كلّ نص مُعدّ للقراءة يوجد نصٌّ مفقود أو ضائع ، وهذا النص المفقود هو مجموع تلك الفراغات التي تركها الكاتب لسببٍ أو لآخر والتي هي جزء مهم من المعنى المتكامل الذي يريده ذلك القلم من ذلك النص المجزوء ..
وفي علم التلّقي يتعرّضون لهذا الأمر بتفصيل أكثر وايضاح اكبر ، ومن المعالجات التي تعوّض هذا الفقدان للنص الأصلي هو تعاقب القرّاء على النص وتحليلهم إياه وبمجموعهم وتراكم قراءاتهم سيقترب النص الضائع من اكمال الصياغة وسيدمج مع النص الاصلي ليكوّن معنىً أكثر تكاملاً وأعمق مضمونا ..
فكلّما اطّلع القارىء على قراءات متعددة للنص الواحد كلما كانت قرائته أفضل له وتكون ملامسته للمعنى اكثر ..
ولهذا يشير بعضهم الى حقيقة مفادها ان النص يولد مرتين ، مرةً بيد الكاتب ومرةً بيد القارىء او مجموع القرّاء الذين يتعاقبون عليه ..
بل أن تكرار قراءة النصّ من قبل نفس القارىء هي طريقة مجرّبة لاكتمال معنى النص ، فكم منا أعاد قراءة بعض النصوص ( مقال ، بحث ، كتاب .. ) ووجد أن هناك بعض المعاني والأفكار قد خطرت في الذهن لم يجدها في القراءة السابقة !
ولكن ينبغي أن لا يُحمّل النص بأكثر من معناه ، وأن لا يُقوّل الكاتب ما لم يقله ، وهذه حرفة القارىء الجيد والمتمرس والذي يستطيع ان يسير باعتدال مع النص الذي بين يديه اعتماداً على مهارته وعلى قواعد اللغة المكتوب فيها النص وطبيعة الموضوع المطروح وكذلك معرفة القارىء بالكاتب وظروف كتابة النص .. الخ
وهنا يُحسن بنا إعطاء مثالاً لذلك :
للكلام منطوق ومفهوم ، امّا المنطوق فهو الدلالة المطابقية للفظ ( كلمة او جملة ) ، والمفهوم هو الدلالة الالتزامية له ، مثلاً :
آية : " فلا تقل لهما اف " . منطوق الآية : هو حرمة ان تقول للوالدين او احدهما اف ، أما مفهومها هو : حرمة ما هو اكبر ، ضرب الوالدين والعياذ بالله مثلاً او الكلام النابي ..
مثال آخر : جملة : عندما تكون مستطيعاً يصبح الحج عليك واجبا .
منطوقها : وجوب الحج عند الاستطاعة
مفهومها : عدم وجوب الحج عند عدم الاستطاعة .
فلاحظ ، مفهوم الكلام يكاد يكون نصاً آخر مساوياً لمنطوقه رغم عدم وجوده المتن ..
ما تبقى قوله هو ان الكاتب مسؤول على ما ينطقه قلمه ويكتبه مداده على مستوى المنطوق والمفهوم وعلى كل نص مفقود ينتزعه ذهن القارىء انتزعاً منطقياً وفق قواعد ثابتة في بابها ، وكلّما كان الكاتب اكثر اهمّية واكثر علمية واكثر مسؤولية كلّما كان القارىء له اكثر انتزاعاً للمفاهيم من خلال كلامه الذي ينطق به ، ولا يُعذر امثال هؤلاء من توريط قرّائهم بمفاهيم تترتب عليها آثاراً معينة بحجة انّه لم يقلها او لم يقصدها ..
قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat