سلسلة المعرفة الحلقة العاشرة اللغة العربية
د . محمد سعيد التركي
المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.
د . محمد سعيد التركي

اللغة هي وسيلة صلة الناس بأنفسهم، وصلتهم بأفكارهم وأنظمتهم ومشاعرهم، وصلتهم بغيرهم من الناس، وصلتهم بغيرهم من الدول والشعوب، وصلتهم بنهضتهم العلمية ونهضتهم الاقتصادية والزراعية والاجتماعية والعسكرية والجهادية، وصلتهم بأفكارهم ومقاييسهم وقناعاتهم .
وحيث أن هذه الأمور كلها تستحيل بدون لغة، لذلك لا نجد أحداً من البشر أو مجتمعاً أو أمة أو دولة تستطيع العيش دون أن تتخذ لنفسها لغة تتفاهم بها مع نفسها أولاً، ومع من حولها من الدول والأمم، وتتعامل بها ومن خلالها مع كل سبل الحياة.
ينخفض فكر الإنسان وتتدنى حياته وسعادته، وتتواضع نهضته كلما انخفض مستوى بلاغة اللغة التي يستخدمها، وكلما انخفضت قدرة هذه اللغة على تغطية احتياجات الإنسان الفكرية والنفسية، أو إذا تدنى علم الإنسان بلغته وبأسرارها وأدبياتها من جانب آخر.
اللغة هي الطاقة الحقيقية التي تكمن وراء صناعة كل شيء في الحياة، وتتوقف كل أعمال الحياة أو تتعطل بتوقف اللغة، أو بتعطّل وخطأ استخدامها في مواضعها الصحيحة.
بل إن اللغة هي روح الأفكار، وقوام الآراء، وكمال المنطق، وسداد العلم، والبحر الذي تسير فيه السفن، والريح التي تحمل الطير والمزن، وهي التي تشكل الحياة بشكل جديد وتلون السماء بألوان هي تختارها، بل قد تعطيك اللغة صفات للأشياء بغير حقيقتها، فتسعد الشقي، وتشقي السعيد، وتكبر الصغير، وتصغر الكبير، وتضيق الواسع، وتوسع الضيق، وتشرح الصدر الضيق وتقبض الصدر المنشرح، وكذا كما باللغة ومن خلالها تُحفظ الأفكار وتصان، فإن بها تشوه الأفكار وتهان، ويتم بها تحريف وتغيير الصحيح من المعتقدات والعادات والتقاليد، وبها يتم كذلك تمجيد الفاسد من المعتقدات والعادات والتقاليد، وتغيير القناعات وتوجيه العباد وأفعالهم إلى اتجاه فاسد أو صحيح.
وقد كان الإسلام ورسالة الإسلام الرفيعة، وفكره الراقي، وأدبياته العظيمة، ونظامه المتكامل، وحضارته السامية، في حاجة إلى لغة أدبية بليغة وعظيمة، وقادرة على تقديم الإسلام في صورته الحقيقة المتميزة، ولديها الكفاءة على التبليغ المتناهي لأفكار الإسلام وشريعته وأصول عقيدته، فكانت اللغة العربية بحق هي العروس المتميزة لإيصال الدين الإسلامي بكل ما يحتوي من فكر عظيم، ونظام شامل كامل لكل مناحي حياة الإنسان الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، وهي العروس التي تستطيع أن تجسد أفكار الإسلام وفضيلته بألفاظها العظيمة، وثروة كلماتها المتنوعة ما تعجز عنه كل لغات العالم مجتمعة .
وقد كان،، وارتبط دين الإسلام باللغة العربية ارتباطاً عميقاً مُحكماً، كما أراد الله سبحانه وتعالى للّغة العربية والإسلام، حتى بات يستحيل بحق لدين الإسلام أن تُفهم فكرته، أي عقيدته، وتُدرك روحه بدون اللغة العربية، أو أن يُفهم نظام الإسلام أو يُطبق بدونها، أو أن يُنشأ المجتمع الإسلامي الموحّد أو أن تتكون الأمة الإسلامية بغيرها، وبات يستحيل أن تتم دعوة الإسلام وانتشار حضارته كما جاءت بسواها .
وكما أن اللغة العربية هي أُسّ كل شيء، وهي روح حضارة الإسلام، فهي نفسها السلاح الذي استخدمه الأعداء لمحاربة الإسلام والمسلمين، ومحاربة حضارتهم والوقوف دون انتشارها، وكانت هي فعلاً الطريقة المثلى لمحاربة الفكر الإسلامي ومفاهيمه التي تنبثق عنه .
ومن منطلق هذه المحاربة التي نجحت، بفضل جهود عظيمة كان لعلماء السلاطين والعلمانيين من دكاترة الجامعات العربية والغربية والحكام والمثقفين نصيب الأسد فيها، فقد بات الإسلام ديناً جديداً غير الدين الذي أتى به سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم للناس، لا يفقه أصوله ولا يعلم قواعده إلا العلماء به، على أصل اللغة العربية وقواعدها الصحيحة وألفاظها .
أما عامة الناس من المسلمين، فقد غُيّب الدين الإسلامي عنهم، وذلك من خلال احراف اللغة العربية عن أفهام الناس وعقولهم، حيث باتوا لا يفهمون الألفاظ العربية الأصولية في الدين، ولا يدركون مدلولاتها، وباتوا لا تفقهها عقولهم، ولا تتحرك لذكرها مشاعرهم، فقد أصبحت خاوية من مفهومها الإسلامي الشرعي عندهم، وبات المسلمون لا يفقهون القرآن ونصوصه ونصوص السنة الشريفة المطهرة، وأصبحت اللغة العربية عند المسلمين عرباً أو عجماً مفصولة عن المقصد الشرعي الذي يحرك مشاعر الإنسان، ويستفز غيرته عادة، ويثير حميته لدينه.
وقد اشتغلت كل القوى السياسية المحلية والعالمية، وكل شياطين الجن والإنس، على تغيير اللغة العربية، وإزاحتها أو إلغاءها عند الشعوب الإسلامية بعد نكسة سقوط دولة الخلافة، ثم اُستخرجت للشعوب الإسلامية لغاتٍ بائدة وبليدة ومندثرة أحلوها محل اللغة العربية كبديل لها، بل وأجبرهم الحكام على التعامل بها وترك اللغة العربية، كما في المسماة اليوم تركيا، أو أفغانستان أو إيران، وغيرهم كثير من دول آسيا وأفريقيا.
أما العرب منهم، فقد باتت اللغة العربية عندهم تُستخدم للعيش فقط، وليس للنهضة أو لتبني الإسلام أو لتطبيقه في واقع الحياة، وأصبح العرب لا يفهمون ألفاظ العربية بمدلولاتها الشرعية، كما أرادها الله سبحانه وتعالى ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم، فإن ذكرت لأحدهم التقوى لم يكترث لذكرها، في الحين الذي كان الناس عند قوام اللغة آنذاك تهتز مشاعرهم وأبدانهم لذكرها .
وإن ذكرت لهم الإيمان لم يكترثوا لذكره، في الحين الذي كان الناس عند قوام اللغة ترهف قلوبهم لذكره، وتهتز أبدانهم .
وإن ذكرت لهم الإسلام لوّوا رؤوسهم، في الحين الذي كان الناس عند قوام اللغة تهيج نفوسهم وتحمرّ وجناتهم .
حال ذلك حال جميع الألفاظ التي مررنا على ذكرها في سلسلة المعرفة من الولاء، والعبادة، والشهادتين والإقرار بهما، وغيرها من الألفاظ الفكرية والعقائدية .
ولذلك فإنه للعودة لدين الإسلام، ولبعث الكيان الإسلامي من جديد، ولينهض المسلمون، وليعودوا كما كانوا في عزهم ومنعتهم فلا بد من اللغة العربية ودراستها كما جاءت بمدلولاتها اللفظية، ودراسة وتدريس مدلولاتها الشرعية الحقيقية، حتى تحصل القدرة على العمل بما جاءت به، وجعلها موضع التطبيق والاستخدام، وموضع العمل والإنتاج والعبادة والدعوة والنهضة.
قال الله سبحانه وتعالى في سورة فاطر آية 14
إِن تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعَاءكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ
قال الله سبحانه وتعالى في سورة الأعراف 193
وَإِن تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لاَ يَتَّبِعُوكُمْ سَوَاء عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنتُمْ صَامِتُونَ
http://dralturki.blogspot.com/2009/04/blog-post_1871.html
قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat