مصر ومقام السيدة عائشة رضوان الله عليها
د . احمد قيس
المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.
إن التاريخ الديني لشعب مصر تاريخ حافل بالأمجاد والمواقف المميزة منذ عصور الفراعنة ، إذ أنهم عرفوا عقيدة التوحيد مبكراً بالقياس الى شعوب المنطقة .
ولما جاءهم الإسلام بعدالته ورحمته استقبلوه بالترحيب ، ولم يذكر المؤرخون للمصريين أية مقاومة للإسلام .
كما أن مصر وشعبها الذي اعتنق الإسلام وأحبه ، لم ينغمس فيما انغمس فيه الآخرون من فتن وما شاكل ، بل بقي بعيداً الى حد ما ، ولقد آثر المصريون ذلك عن وعي وإدراك ، وحتى لا تتلطخ أيديهم بدماء إخوانهم المسلمين .
وأثناء الفتن المتتالية التي كانت تحيق ببلاد الحجاز والعراق ، حيث ضاقت الأرض بأهل البيت النبوي الشريف من خلال قرارات الحكام في دولتي بني أمية وبني العباس ، والتي كانت تهدف الى تفريق ذرية النبي (ص) في بلاد المسلمين وإبعادهم عن تلكم المناطق الحساسة بالنسبة لهؤلاء الحكام ، استقبلت مصر منهم العدد الكبير في ترحيب وإجلال ومودة ، بينما تشتت الباقون من هذه الذرية المباركة في أرجاء المعمورة كاليمن والشام وبلاد فارس .
وعاش مهاجرو أهل البيت في مصر بأمن وأمان ، إذ أن جموع الشعب المصري آنذاك - وحتى اليوم - كانوا يأتون إليهم للتشرف بزيارة العترة النبوية ، وعلى أمل نيل البركة والدعاء وقضاء الحوائج .
وكان كل من مات منهم رضوان الله عليهم ، استقبله تراب مصر بمثل ما استقبله به أهلها وهم أحياء ، حيث لم ينقطعوا عن زيارة قبورهم ومساجدهم بعد وفاتهم إجلالاً وتكريما لهم .
- بلغ من عناية المصريين بهم أنهم أقاموا المشاهد على قبورهم ، وبنوا حولها مساجد تحمل أسماءهم الشريفة ، من أجل الصلاة فيها والتبرّك بأصحابها .
ومن هذه الدوحة النبوية ، السيدة عائشة رضوان الله عليها .
من هي السيدة عائشة ؟
قد يبدو هذا السؤال مستهجناً وغريباً لدى بعض المسلمين ، إلا أنه طبيعي لدى معظم المسلمين في العالمين العربي والإسلامي ذلك لأنهم لم يتشرفوا بالتعرف الى هذه الزهرة النبوية الشريفة . وللإجابة على هذا السؤال ، يكفي أن نعلم بأن للمؤرخين والعلماء رأيان حول هذا الأمر لا ثالث لهما . وهذان الرأيان لا يختلفان في جوهر المسألة ، إلا أن الدقة العلمية التاريخية اقتضت هذا التفاوت بالشكل دون المضمون كما سنعرف ذلك في سياق هذه المقالة .
فأصحاب الرأي الأول يذهبون الى القول : بأن السيدة عائشة هي ابنة الإمام جعفر بن محمد الصادق وأخت الإمام موسى بن جعفر الكاظم رضوان الله عليهم .
أما أصحاب الرأي الثاني فإنهم يذهبون الى القول : بأن السيدة عائشة هي ابنة الإمام موسى بن جعفر الكاظم وحفيدة الإمام جعفر بن محمد الصادق رضوان الله عليهم .
ولمعرفة أي من الرأيين أقرب الى الصواب والدقة فلا بد من استعراض أدلتهم حول ذلك ، وهي على الشكل التالي :
أقوال وأدلة أصحاب الرأي الأول :
ينقل الدكتور صلاح عدس في كتابه ( آل بيت النبي (ص) ) (صفحة 121) عن الإمام الشعراني في طبقاته أن السيدة عائشة كانت من أجلّ العابدات الزاهدات ، وهي ابنة الإمام جعفر الصادق بن محمد الباقر بن علي زين العابدين بن الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهم ، وأخوها الإمام موسى الكاظم رضي الله عنه ، وقد توفيت سنة 145 هـ قبل وفاة أبيها بثلاثة أعوام ، وكانت وفاته مسموماً مثلما فعل الأمويون والعباسيون بأبيه الباقر وجده زين العابدين رضي الله عنهم ، وقد عاشت السيدة عائشة في النصف الأول من القرن الثاني الهجري ، أي أنها شهدت سقوط الدولة الأموية وظهور الدولة العباسية .
وهذا ما أكدته أيضاً الدكتورة سعاد ماهر محمد في موسوعتها الضخمة ( مساجد مصر وأولياؤها الصالحون ) صفحة 107 ، بالقول : السيدة عائشة هي بنت جعفر الصادق ابن الإمام محمد الباقر ابن الإمام علي زين العابدين ابن الإمام الحسين ابن الإمام علي بن أبي طالب كرم الله وجوههم ، وهي أخت الإمام موسى الكاظم رضي الله عنهما .
وأضافت بنقلها عن كتاب ( مشاهد الصفا في المدفونين بمصر من آل المصطفى ) : أنها كانت من العابدات القانتات المجاهدات .
وتقول أيضاً : يجمع المؤرخون ممن تناولوا سيرة أهل البيت بالبحث والدراسة ، على أن السيدة عائشة رضوان الله تعالى عليها ، شرّفت مصر وتوفيت بها سنة 145 هـ . كما تنقل عن كتاب (تحفة الأحباب) لمؤلفه السخاوي صفحة 119 : أنه رأى قبر السيدة عائشة وقد ثبت عليه لوح رخامي مكتوب عليه : (( هذا قبر السيدة الشريفة عائشة من أولاد جعفر الصادق ابن الإمام محمد الباقر ابن الإمام علي زين العابدين بن الإمام الحسين بن الإمام علي بن أبي طالب كرم الله وجوههم ، توفيت سنة خمسة وأربعين ومائة من الهجرة )) .
ونقل الشيخ رمضان أحمد عبد ربه عصفور في كتابه ( القول الأنور في حياة السيدة عائشة بنت جعفر ) صفحة 49 ، عن الإمام الشعراني في كتبه ( مختصر تذكرة القرطبي ) و ( الطبقات الكبرى) و ( لطائف المنن والأخلاق ) نسب السيدة عائشة : هي السيدة عائشة بنت جعفر الصادق رضي الله عنهما .
ويضيف الشيخ رمضان أن صحة هذا النسب الذي قاله الشعراني وافقه عليه كل من : العدوي في (مشارق الأنوار) والشبلنجي في (نور الأبصار) والعلامة السخاوي في (تحفة الأحباب وبغية الطلاب) والشيخ محمد زكي ابراهيم في كتابه ( مراقد أهل البيت بالقاهرة) ومحمد طاهر خراشي العدوي في كتابه ( القول الجلي) . ونقل الشيخ رمضان هذا المعنى عن شمس الدين محمد بن الزيات في ( الكواكب السيارة في ترتيب الزيارة ) . وذكر أحمد زكي باشا بعد تحقيقه ودراسته للمشهد وفي جمع من الناس : (( أن المشهد القائم في جنوب القاهرة باسم السيدة عائشة النبوية هو حقيقة متشرف بضم جثمانها الطاهر ، وفيه مشرق أنوارها ومهبط البركات بسببها )) .
وقد كتب على باب القبة ما نصّه :
لعائشة نور مضيئ وبهجة وقبّتها فيها الدعاء يجاب
وكلام أحمد زكي باشا نقله العديد العديد مما لا يسع المجال لذكرهم في هذه العجالة . والمفارقة بالأمر أن أحمد زكي باشا كان مشهوراً بتشكيكه وقوله بعدم صحة العديد من المشاهد الأخرى المنسوبة لآل البيت رضوان الله عليهم .
إن كل ما تقدم ذكره من أدلة هي بحسب المصادر الإسلامية السنية مع اختلاف مشاربها الفكرية ، أما ما نقلته المصادر الإسلامية الإمامية فهو يعتبر قليلاً بالنسبة الى غيرهم ، ولكنه يتوافق بنسبة كبيرة جداً مع ما تم عرضه وذكره ، فعلى سبيل المثال : ذكر العلامة محمد حسين الأعلمي الحائري في كتابه ( تراجم أعلام النساء ) الجزء 2 صفحة 266 ما نصّه : عائشة النبوية المتوفية سنة 145 هـ والمدفونة بمصر بباب القرافة .
وأيضاً ، الخطيب الشيخ محمد رضا الحكيمي في كتابه ( أعيان النساء عبر العصور المختلفة ) صفحة 321 ، حيث قال : (( عائشة بنت جعفر الصادق ، من ربّات العبادة والصلاح ... وتوفيت سنة 145 هـ ودفنت بقرافة مصر )) . وذكر أنه اعتمد في ذلك على كتاب ( لواقح الأنوار في طبقات الأخيار ) للشعراني ، وكذلك عن ( نور الأبصار في مناقب آل البيت المختار ) للشبلنجي ، وعن ( أعلام النساء ) .
وأشار الى هذا المعنى أيضاً ، الباحث العراقي جعفر خورشيد حيث قال : السيدة عائشة بنت الإمام جعفر الصادق وحفيده الإمام الباقر ، شقيقها إسحاق المؤتمن زوج السيدة نفيسة وأيضاً الإمام الكاظم ، وأمها حميدة البربرية ، وكنيتها أم فروة ، وسميت بهذا الإسم كنية لها لأن العرب من عاداتهم أن يتسموا بأسماء أجدادهم ، واسم جدة السيدة عائشة كان أم فروة بنت القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق . وأضاف بأن هذا الكلام مؤكد في كتاب ( آل بيت النبي في مصر ) لمؤلفه أحمد أبو كف .
وإسم ( أم فروة ) هذا ، قد تم ذكره في أمهات المصادر التاريخية الإسلامية الإمامية مثال ذلك ، ما ذكره أبو الحسن الإربلي في ( كشف الغمة في معرفة الأئمة ) الجزء 2 صفحة 373 ، والشيخ المفيد في ( الإرشاد ) صفحة 284 ، والطبرسي في ( أعلام الورى بأعلام الهدى ) صفحة 294 ، والعلامة حسن لواساني في ( الدروس البهية في مجمل أحوال الرسول والعترة النبوية ) صفحة 97 ، والشيخ أحمد العامري الناصري في ( المراقد الإسلامية في العالم ) صفحة 240 ، حيث ذكرها بأنها السيدة عائشة بنت الإمام جعفر الصادق رضوان الله عليهم ، وغيرهم الكثير .
وعليه ، فإن هذا كان رأي الفريق الأول الذي يقول بأن السيدة عائشة رضوان الله عليها هي ابنة الإمام جعفر الصادق رضي الله عنه ، من كلا الفريقيين السنة والإمامية .
بقي أن نتعرف الى رأي الفريق الثاني القائل بأن السيدة عائشة هي حفيدة الإمام الصادق وابنة الإمام الكاظم رضي الله عنهم أجمعين .
أقوال وأدلة أصحاب الرأي الثاني :
يعتمد أصحاب هذا الرأي بشكل أساس على عدم ورود إسم عائشة ضمن أسماء وأبناء الإمام الصادق وورودها ضمن أسماء بنات الإمام الكاظم هذا من جهة .
ومن جهة أخرى فقد تم إيراد إسم ( أم فروة ) ضمن أسماء بنات الإمام الصادق وأيضاً ضمن أسماء بنات الإمام الكاظم رضوان الله عليهم أجمعين . ومن الأمثلة على ذلك :
1- الشيخ المفيد في ( الإرشاد ) إذ أورد إسم ( أم فروة ) وعدّها من أولاد الإمام الصادق صفحة 284 ، كما أورد إسم السيدة ( عائشة ) وعدّها من ضمن أولاد الإمام الكاظم صفحة 303 .
2- العلامة الطبرسي في ( أعلام الورى بأعلام الهدى ) حيث عَدّ ( أم فروة ) من أولاد الإمام الصادق صفحة 294 ، وذكر السيدة (عائشة) وعدّها ضمن بنات الإمام الكاظم ( صفحة 312 ) .
3- العلامة السيد حسن لواساني في ( الدروس البهية ) حيث ذكر إسم ( أم فروة ) ضمن أبناء الأمام الصادق ( ص 97) ، وإسم السيدة ( العائشة ) ضمن أسماء بنات الإمام الكاظم ، كما أنه أورد اسم ( أم فروة ) وعدّها من بنات الإمام الكاظم أيضاً ( ص 107 ) .
وغيرهم الكثير كالسيد هاشم معروف الحسني في ( سيرة الأئمة ) ، ومعظم من استقوا منهم أو من غيرهم حول هذا الأمر .
وبناءً على ما تقدم ، ما هو الرأي الأرجح والأقرب للصواب والدقة العلمية ؟
في البداية وقبل الجواب على هذا السؤال الشكلي لجهة الإعتبار الشرعي ، والعلمي لجهة الإعتبار التاريخي فإنه يمكننا القول وبكل إطمئنان أن السيدة عائشة رضوان الله عليها الشامخ مقامها في مصر هي ابنة الإمام الصادق وحفيدة الإمام الباقر رضوان الله عليهم أجمعين ، وللأسباب التالية :
1- عدم الدقة في ذكر أسماء بنات الإمام الصادق وتحديداً إسم السيدة عائشة عند كل من الفريقين ، فمن السنة من ذكر ( أم فروة ) ولم يأت على ذكر ( عائشة ) حاله بذلك كحال أصحاب الرأي الثاني ، ومنهم على سبيل المثال : أبو عبد الله مصعب بن عبد الله بن مصعب الزبيري في كتابه ( نسب قريش ) .
2- إحتمال كبير بأن تكون السيدة (عائشة) هي ( أم فروة ) على سبيل الكنية التي اشتهرت بها ، وخاصة أن جدّتها تكنى ( بأم فروة ) أيضاً .
3- ما وجده الأثريون على قبرها من ذكر اسمها ونسبها وتاريخ وفاتها في العام 145 هـ ، ومن هؤلاء أحمد زكي باشا المعروف بتشدده حيال مسألة المشاهد والمقامات بشكل عام .
4- الفارق الزمني بين وفاتها وولادة الإمام الكاظم ، فقد ذكر المؤرخون بالإجماع ولادة الإمام الكاظم في العام 128 هـ في حين أنهم أجمعوا أيضاً على تاريخ وفاتها في العام 145 هـ ، أي أن عمر الإمام الكاظم عند وفاتها لا يتعدى 17 سنة وهذا ما لا يستقيم مع ما نقل عن ترجمتها بأنها كانت من العابدات القانتات ، أي أنها كانت إمرأة ناضجة وعاقلة في الوقت الذي كان فيه الإمام الكاظم شاباً ، فمتى تزوج وأنجب إمرأة اشتهرت بالعبادة والتقى في حين أن أباها شاباً ؟؟
5- ورود إسم (عائشة) و ( أم فروة ) ضمن أسماء بنات الإمام الكاظم يؤكد أمرين : الأول : أنهن بنات الإمام الكاظم . والثاني : أنهن حملن أسماء عماتهن جرياً على عادة العرب ، وبالتالي لا تعارض بينهن .
6- بغض النظر عن كل ما تقدم جدلاَ ، فإنها أي السيدة عائشة إن لم تكن ابنة الإمام الصادق ، فهي ابنة الإمام الكاظم وبالتالي هي تعتبر شرعاً وعرفاً ابنته ، وكيف إذا قام الدليل الراجح والقوي على أنها ابنته المباشرة وأخت الإمام الكاظم رضوان الله عليهم أجمعين ؟
لأجل كل ذلك ، وبعد الثبوت لا مورد للإثبات كما يقال ، أي لا حاجة من الإطالة بعد التأكد من صحة نسبها الشريف على كلا الرأيين .
فالسلام عليك يا سيدتي ويا مولاتي يا عائشة بنت جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب رضوان الله عليهم أجمعين .
وهنيئاً لمن تشرّف بزيارة مشهدك ومقامك ، وهنيئاً لأهل مصر لوجودك الكريم والمبارك بينهم .
قناتنا على التلغرام :
https://t.me/kitabat
د . احمد قيس

إن التاريخ الديني لشعب مصر تاريخ حافل بالأمجاد والمواقف المميزة منذ عصور الفراعنة ، إذ أنهم عرفوا عقيدة التوحيد مبكراً بالقياس الى شعوب المنطقة .
ولما جاءهم الإسلام بعدالته ورحمته استقبلوه بالترحيب ، ولم يذكر المؤرخون للمصريين أية مقاومة للإسلام .
كما أن مصر وشعبها الذي اعتنق الإسلام وأحبه ، لم ينغمس فيما انغمس فيه الآخرون من فتن وما شاكل ، بل بقي بعيداً الى حد ما ، ولقد آثر المصريون ذلك عن وعي وإدراك ، وحتى لا تتلطخ أيديهم بدماء إخوانهم المسلمين .
وأثناء الفتن المتتالية التي كانت تحيق ببلاد الحجاز والعراق ، حيث ضاقت الأرض بأهل البيت النبوي الشريف من خلال قرارات الحكام في دولتي بني أمية وبني العباس ، والتي كانت تهدف الى تفريق ذرية النبي (ص) في بلاد المسلمين وإبعادهم عن تلكم المناطق الحساسة بالنسبة لهؤلاء الحكام ، استقبلت مصر منهم العدد الكبير في ترحيب وإجلال ومودة ، بينما تشتت الباقون من هذه الذرية المباركة في أرجاء المعمورة كاليمن والشام وبلاد فارس .
وعاش مهاجرو أهل البيت في مصر بأمن وأمان ، إذ أن جموع الشعب المصري آنذاك - وحتى اليوم - كانوا يأتون إليهم للتشرف بزيارة العترة النبوية ، وعلى أمل نيل البركة والدعاء وقضاء الحوائج .
وكان كل من مات منهم رضوان الله عليهم ، استقبله تراب مصر بمثل ما استقبله به أهلها وهم أحياء ، حيث لم ينقطعوا عن زيارة قبورهم ومساجدهم بعد وفاتهم إجلالاً وتكريما لهم .
- بلغ من عناية المصريين بهم أنهم أقاموا المشاهد على قبورهم ، وبنوا حولها مساجد تحمل أسماءهم الشريفة ، من أجل الصلاة فيها والتبرّك بأصحابها .
ومن هذه الدوحة النبوية ، السيدة عائشة رضوان الله عليها .
من هي السيدة عائشة ؟
قد يبدو هذا السؤال مستهجناً وغريباً لدى بعض المسلمين ، إلا أنه طبيعي لدى معظم المسلمين في العالمين العربي والإسلامي ذلك لأنهم لم يتشرفوا بالتعرف الى هذه الزهرة النبوية الشريفة . وللإجابة على هذا السؤال ، يكفي أن نعلم بأن للمؤرخين والعلماء رأيان حول هذا الأمر لا ثالث لهما . وهذان الرأيان لا يختلفان في جوهر المسألة ، إلا أن الدقة العلمية التاريخية اقتضت هذا التفاوت بالشكل دون المضمون كما سنعرف ذلك في سياق هذه المقالة .
فأصحاب الرأي الأول يذهبون الى القول : بأن السيدة عائشة هي ابنة الإمام جعفر بن محمد الصادق وأخت الإمام موسى بن جعفر الكاظم رضوان الله عليهم .
أما أصحاب الرأي الثاني فإنهم يذهبون الى القول : بأن السيدة عائشة هي ابنة الإمام موسى بن جعفر الكاظم وحفيدة الإمام جعفر بن محمد الصادق رضوان الله عليهم .
ولمعرفة أي من الرأيين أقرب الى الصواب والدقة فلا بد من استعراض أدلتهم حول ذلك ، وهي على الشكل التالي :
أقوال وأدلة أصحاب الرأي الأول :
ينقل الدكتور صلاح عدس في كتابه ( آل بيت النبي (ص) ) (صفحة 121) عن الإمام الشعراني في طبقاته أن السيدة عائشة كانت من أجلّ العابدات الزاهدات ، وهي ابنة الإمام جعفر الصادق بن محمد الباقر بن علي زين العابدين بن الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهم ، وأخوها الإمام موسى الكاظم رضي الله عنه ، وقد توفيت سنة 145 هـ قبل وفاة أبيها بثلاثة أعوام ، وكانت وفاته مسموماً مثلما فعل الأمويون والعباسيون بأبيه الباقر وجده زين العابدين رضي الله عنهم ، وقد عاشت السيدة عائشة في النصف الأول من القرن الثاني الهجري ، أي أنها شهدت سقوط الدولة الأموية وظهور الدولة العباسية .
وهذا ما أكدته أيضاً الدكتورة سعاد ماهر محمد في موسوعتها الضخمة ( مساجد مصر وأولياؤها الصالحون ) صفحة 107 ، بالقول : السيدة عائشة هي بنت جعفر الصادق ابن الإمام محمد الباقر ابن الإمام علي زين العابدين ابن الإمام الحسين ابن الإمام علي بن أبي طالب كرم الله وجوههم ، وهي أخت الإمام موسى الكاظم رضي الله عنهما .
وأضافت بنقلها عن كتاب ( مشاهد الصفا في المدفونين بمصر من آل المصطفى ) : أنها كانت من العابدات القانتات المجاهدات .
وتقول أيضاً : يجمع المؤرخون ممن تناولوا سيرة أهل البيت بالبحث والدراسة ، على أن السيدة عائشة رضوان الله تعالى عليها ، شرّفت مصر وتوفيت بها سنة 145 هـ . كما تنقل عن كتاب (تحفة الأحباب) لمؤلفه السخاوي صفحة 119 : أنه رأى قبر السيدة عائشة وقد ثبت عليه لوح رخامي مكتوب عليه : (( هذا قبر السيدة الشريفة عائشة من أولاد جعفر الصادق ابن الإمام محمد الباقر ابن الإمام علي زين العابدين بن الإمام الحسين بن الإمام علي بن أبي طالب كرم الله وجوههم ، توفيت سنة خمسة وأربعين ومائة من الهجرة )) .
ونقل الشيخ رمضان أحمد عبد ربه عصفور في كتابه ( القول الأنور في حياة السيدة عائشة بنت جعفر ) صفحة 49 ، عن الإمام الشعراني في كتبه ( مختصر تذكرة القرطبي ) و ( الطبقات الكبرى) و ( لطائف المنن والأخلاق ) نسب السيدة عائشة : هي السيدة عائشة بنت جعفر الصادق رضي الله عنهما .
ويضيف الشيخ رمضان أن صحة هذا النسب الذي قاله الشعراني وافقه عليه كل من : العدوي في (مشارق الأنوار) والشبلنجي في (نور الأبصار) والعلامة السخاوي في (تحفة الأحباب وبغية الطلاب) والشيخ محمد زكي ابراهيم في كتابه ( مراقد أهل البيت بالقاهرة) ومحمد طاهر خراشي العدوي في كتابه ( القول الجلي) . ونقل الشيخ رمضان هذا المعنى عن شمس الدين محمد بن الزيات في ( الكواكب السيارة في ترتيب الزيارة ) . وذكر أحمد زكي باشا بعد تحقيقه ودراسته للمشهد وفي جمع من الناس : (( أن المشهد القائم في جنوب القاهرة باسم السيدة عائشة النبوية هو حقيقة متشرف بضم جثمانها الطاهر ، وفيه مشرق أنوارها ومهبط البركات بسببها )) .
وقد كتب على باب القبة ما نصّه :
لعائشة نور مضيئ وبهجة وقبّتها فيها الدعاء يجاب
وكلام أحمد زكي باشا نقله العديد العديد مما لا يسع المجال لذكرهم في هذه العجالة . والمفارقة بالأمر أن أحمد زكي باشا كان مشهوراً بتشكيكه وقوله بعدم صحة العديد من المشاهد الأخرى المنسوبة لآل البيت رضوان الله عليهم .
إن كل ما تقدم ذكره من أدلة هي بحسب المصادر الإسلامية السنية مع اختلاف مشاربها الفكرية ، أما ما نقلته المصادر الإسلامية الإمامية فهو يعتبر قليلاً بالنسبة الى غيرهم ، ولكنه يتوافق بنسبة كبيرة جداً مع ما تم عرضه وذكره ، فعلى سبيل المثال : ذكر العلامة محمد حسين الأعلمي الحائري في كتابه ( تراجم أعلام النساء ) الجزء 2 صفحة 266 ما نصّه : عائشة النبوية المتوفية سنة 145 هـ والمدفونة بمصر بباب القرافة .
وأيضاً ، الخطيب الشيخ محمد رضا الحكيمي في كتابه ( أعيان النساء عبر العصور المختلفة ) صفحة 321 ، حيث قال : (( عائشة بنت جعفر الصادق ، من ربّات العبادة والصلاح ... وتوفيت سنة 145 هـ ودفنت بقرافة مصر )) . وذكر أنه اعتمد في ذلك على كتاب ( لواقح الأنوار في طبقات الأخيار ) للشعراني ، وكذلك عن ( نور الأبصار في مناقب آل البيت المختار ) للشبلنجي ، وعن ( أعلام النساء ) .
وأشار الى هذا المعنى أيضاً ، الباحث العراقي جعفر خورشيد حيث قال : السيدة عائشة بنت الإمام جعفر الصادق وحفيده الإمام الباقر ، شقيقها إسحاق المؤتمن زوج السيدة نفيسة وأيضاً الإمام الكاظم ، وأمها حميدة البربرية ، وكنيتها أم فروة ، وسميت بهذا الإسم كنية لها لأن العرب من عاداتهم أن يتسموا بأسماء أجدادهم ، واسم جدة السيدة عائشة كان أم فروة بنت القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق . وأضاف بأن هذا الكلام مؤكد في كتاب ( آل بيت النبي في مصر ) لمؤلفه أحمد أبو كف .
وإسم ( أم فروة ) هذا ، قد تم ذكره في أمهات المصادر التاريخية الإسلامية الإمامية مثال ذلك ، ما ذكره أبو الحسن الإربلي في ( كشف الغمة في معرفة الأئمة ) الجزء 2 صفحة 373 ، والشيخ المفيد في ( الإرشاد ) صفحة 284 ، والطبرسي في ( أعلام الورى بأعلام الهدى ) صفحة 294 ، والعلامة حسن لواساني في ( الدروس البهية في مجمل أحوال الرسول والعترة النبوية ) صفحة 97 ، والشيخ أحمد العامري الناصري في ( المراقد الإسلامية في العالم ) صفحة 240 ، حيث ذكرها بأنها السيدة عائشة بنت الإمام جعفر الصادق رضوان الله عليهم ، وغيرهم الكثير .
وعليه ، فإن هذا كان رأي الفريق الأول الذي يقول بأن السيدة عائشة رضوان الله عليها هي ابنة الإمام جعفر الصادق رضي الله عنه ، من كلا الفريقيين السنة والإمامية .
بقي أن نتعرف الى رأي الفريق الثاني القائل بأن السيدة عائشة هي حفيدة الإمام الصادق وابنة الإمام الكاظم رضي الله عنهم أجمعين .
أقوال وأدلة أصحاب الرأي الثاني :
يعتمد أصحاب هذا الرأي بشكل أساس على عدم ورود إسم عائشة ضمن أسماء وأبناء الإمام الصادق وورودها ضمن أسماء بنات الإمام الكاظم هذا من جهة .
ومن جهة أخرى فقد تم إيراد إسم ( أم فروة ) ضمن أسماء بنات الإمام الصادق وأيضاً ضمن أسماء بنات الإمام الكاظم رضوان الله عليهم أجمعين . ومن الأمثلة على ذلك :
1- الشيخ المفيد في ( الإرشاد ) إذ أورد إسم ( أم فروة ) وعدّها من أولاد الإمام الصادق صفحة 284 ، كما أورد إسم السيدة ( عائشة ) وعدّها من ضمن أولاد الإمام الكاظم صفحة 303 .
2- العلامة الطبرسي في ( أعلام الورى بأعلام الهدى ) حيث عَدّ ( أم فروة ) من أولاد الإمام الصادق صفحة 294 ، وذكر السيدة (عائشة) وعدّها ضمن بنات الإمام الكاظم ( صفحة 312 ) .
3- العلامة السيد حسن لواساني في ( الدروس البهية ) حيث ذكر إسم ( أم فروة ) ضمن أبناء الأمام الصادق ( ص 97) ، وإسم السيدة ( العائشة ) ضمن أسماء بنات الإمام الكاظم ، كما أنه أورد اسم ( أم فروة ) وعدّها من بنات الإمام الكاظم أيضاً ( ص 107 ) .
وغيرهم الكثير كالسيد هاشم معروف الحسني في ( سيرة الأئمة ) ، ومعظم من استقوا منهم أو من غيرهم حول هذا الأمر .
وبناءً على ما تقدم ، ما هو الرأي الأرجح والأقرب للصواب والدقة العلمية ؟
في البداية وقبل الجواب على هذا السؤال الشكلي لجهة الإعتبار الشرعي ، والعلمي لجهة الإعتبار التاريخي فإنه يمكننا القول وبكل إطمئنان أن السيدة عائشة رضوان الله عليها الشامخ مقامها في مصر هي ابنة الإمام الصادق وحفيدة الإمام الباقر رضوان الله عليهم أجمعين ، وللأسباب التالية :
1- عدم الدقة في ذكر أسماء بنات الإمام الصادق وتحديداً إسم السيدة عائشة عند كل من الفريقين ، فمن السنة من ذكر ( أم فروة ) ولم يأت على ذكر ( عائشة ) حاله بذلك كحال أصحاب الرأي الثاني ، ومنهم على سبيل المثال : أبو عبد الله مصعب بن عبد الله بن مصعب الزبيري في كتابه ( نسب قريش ) .
2- إحتمال كبير بأن تكون السيدة (عائشة) هي ( أم فروة ) على سبيل الكنية التي اشتهرت بها ، وخاصة أن جدّتها تكنى ( بأم فروة ) أيضاً .
3- ما وجده الأثريون على قبرها من ذكر اسمها ونسبها وتاريخ وفاتها في العام 145 هـ ، ومن هؤلاء أحمد زكي باشا المعروف بتشدده حيال مسألة المشاهد والمقامات بشكل عام .
4- الفارق الزمني بين وفاتها وولادة الإمام الكاظم ، فقد ذكر المؤرخون بالإجماع ولادة الإمام الكاظم في العام 128 هـ في حين أنهم أجمعوا أيضاً على تاريخ وفاتها في العام 145 هـ ، أي أن عمر الإمام الكاظم عند وفاتها لا يتعدى 17 سنة وهذا ما لا يستقيم مع ما نقل عن ترجمتها بأنها كانت من العابدات القانتات ، أي أنها كانت إمرأة ناضجة وعاقلة في الوقت الذي كان فيه الإمام الكاظم شاباً ، فمتى تزوج وأنجب إمرأة اشتهرت بالعبادة والتقى في حين أن أباها شاباً ؟؟
5- ورود إسم (عائشة) و ( أم فروة ) ضمن أسماء بنات الإمام الكاظم يؤكد أمرين : الأول : أنهن بنات الإمام الكاظم . والثاني : أنهن حملن أسماء عماتهن جرياً على عادة العرب ، وبالتالي لا تعارض بينهن .
6- بغض النظر عن كل ما تقدم جدلاَ ، فإنها أي السيدة عائشة إن لم تكن ابنة الإمام الصادق ، فهي ابنة الإمام الكاظم وبالتالي هي تعتبر شرعاً وعرفاً ابنته ، وكيف إذا قام الدليل الراجح والقوي على أنها ابنته المباشرة وأخت الإمام الكاظم رضوان الله عليهم أجمعين ؟
لأجل كل ذلك ، وبعد الثبوت لا مورد للإثبات كما يقال ، أي لا حاجة من الإطالة بعد التأكد من صحة نسبها الشريف على كلا الرأيين .
فالسلام عليك يا سيدتي ويا مولاتي يا عائشة بنت جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب رضوان الله عليهم أجمعين .
وهنيئاً لمن تشرّف بزيارة مشهدك ومقامك ، وهنيئاً لأهل مصر لوجودك الكريم والمبارك بينهم .
قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat