زخرت مدرسة كربلاء الطف يوم العاشر من المحرم بالكثير من الصور الخالدة والتي اصبحت مدرسة ينتهل منها الناس القيم والتعاليم والاخلاق الإسلامية والإنسانية بما يؤدي إلى خلق مجتمعات في غاية الرقي والمعرفة والاستقامة، ومن بين أهم الدروس التي يمكن استقاؤها من كربلاء الطفّ درس الحرية المبدئية. وإن هذا الدرس الكبير الذي يرى البعض أنه الأكبر و الأوضح من بين كل دروس تلك الملحمة الخالدة، يحتاج الى الكثير من الكتب والمجلّدات لاغنائه بالبحث والتقصّي و الانتهال من عذب ورده الصافي، وفي هذه العجالة سوف نتقصّى عن قضية مهمة في هذا المضمار، أو بالاحرى سوف نحاول الاجابة عن تساؤل مهم هو: ما هي الحرية المبدئية ؟
وللاجابة عن هذا التساؤل ننطلق من عملية تصنيفها فنقول: إن الحرية المبدئية لها ثلاث مراتب هي:
المرتبة الأولى : نقد الذات
حيث أن من بين أجلى صفات الانسان الحر هو أنه يستطيع أن ينتقد ذاته، وبعكسه فإن الانسان الذي لا يستطيع أن ينتقد ذاته ليس من الممكن أن يطلق عليه كلمة(الحر), ومن تفصيلات هذا الامر أن الشخص أو الانسان الذي لا يستطيع القول أنا أخطأت بمعنى أن يعترف بأخطائه أمام الغير وليس بينه وبين نفسه فقط فهذا ليس بالحر، والسبب في إطلاق هذا المعنى كما يقول علماء النفس أن أنانيته مسيطرة عليه وتمنعه من ذلك الاعتراف كبرياء فارغة من جهة ، وعدم وجود الرغبة والمقدرة على التغيير من جهة اخرى, فيما نجد أن الإنسان الذي يقول أنا أخطأت و أنا أعتذر وأنا ارتكبت خطأ وسأكفر عمّا أخطأت وسأصلح ما أفسدت فهذا يمكن وصفه بالحر لانه تمكن من مجالدة نفسه وقهرها والانتصار عليها , كما أنه استطاع أن يتحرر من أنانيته واستطاع أن يتحرر من شهواته, وهذا هو الحر الحقيقي. إذن: إن الحرية الحقيقية تبدأ بنقد الذات أولا, وبمعنى أعمق أن الحر الحقيقي هو الإنسان الذي يقف ليقرأ ذاته, ويختار الصواب ويضع الخطأ جانبا ، وهنا ينبغي أن نسأل أنفسنا:هل قرأنا ذواتنا ؟
وكل شخص فينا ينبغي أن يسأل نفسه ذات السؤال: هل قرأت نفسي في يوم من الأيام ؟
إننا أيها الأخوة المؤمنون بحاجة ماسة الى أن نقرأ نفوسنا لنعرف صفاتنا ومزايانا الإيجابية والسلبيّة فنقوّم الايجابية منها ونصحح السلبية, وعلى سبيل المثال: عليّ أن أعرف هل أن نفسي خجولة أو نفسي جريئة ؟ هل تسترسل نفسي مع الشهوات أم تقف في الضد منها وتواجهها وتنتصر عليها؟ , هل أعيش فهماً أم أعيش غباءً؟وغير ذلك من القراءات إن قراءة الشخصية ونقدها وتشخيص عيوبها وتحديد أخطائها من أوضح صور الحرية , والحر الحقيقي هو من تحرر حتى من نفسه وراح ينتقدها ويقف أمامها محاربا ومحاسبا إياها ومنتصرا عليها، لذلك نجد أن النبي محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) يؤكّد على هذه الحالة بقوله:"حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا" وإن هذه الكلمة الرائعة تحمل كل ما تعنية كلمة نقد الذات.
المرتبة الثانية : الإخلاص.
وقد يتساءل البعض: الاخلاص مع من؟ وكيف يتحقق ذلك؟ ويمكن القول أن أول مراتب الاخلاص وأهما على الإطلاق هو الإخلاص مع الله تعالى، وتوضيحا لهذه المسألة نقول أنه الاخلاص في تطبيق ما عزم عليه الفرد من محاسة نفسه نفسه أو غير ذلك من أعمال البرّ والخير. وعلى كل واحد منا أن يسأل هل أستطيع أن أخلص لله أسبوعا ؟ فربَّ شخص يستطيع ذلك يوما, ولكن هل يستطيع أن يدرّب نفسه على الإخلاص لله أسبوعاً ؟ بمعنى ألّا يفكر في هذا الأسبوع بمعصية وأ لّا يفكر في شر، و ألّا يفكر في رذيلة وألا يفكر في ظلم أحد لمدة أسبوع كاختبار, فإذا استطاع فهو حر حرية حقيقية لأنه تحرر من نوازع الشر لمدة أسبوع , وهذه مرتبة عالية من الحرية وهي المرتبة التي تحدث عنها الرسول( صلى الله عليه وآله وسلم)عندما قال :من أخلص لله أربعين يوما جر ت ينابيع الحكمة على لسانه".
المرتبة الثالثة : الوقوف مع المبادئ وعدم الخضوع لسلطة الإغراء أو سلطة الإرهاب.
إن البعض منا عندما يملك منصبا كأن يصبح رئيس شركة مثلاً , فبعدما أصبح عنده ذلك المنصب راح يظنّ أنه قد وصل العرش فلا يفكر في أحد ولا يبالي بأحد ولا يخدم إخوانه ولا يساعد أحدا، بل يتنكّر لمجتمعه وربما يتنكّر حتى لبعض أهله, والسبب وراء ذلك هو الحفاظ على منصبه , وهذا الإنسان ليس حراً، لأنه خضع لسلطة الإغراء وتشبّث بالإغراء والمنصب وضحّى ببعض مبادئه - إن لم يكن كلها- في سبيل منصبه . ومن أمثلة ذلك أن شخصا من الشيعة تولى وزارة في زمن هارون العباسي فقيل للإمام الكاظم عليه السلام: يا أبا الحسن فلان من شيعتك أصبح وزيرا , قال : كيف صنيعه لإخوانه؟ , قالوا : لا يوجد شيء, قال: أفٍ لهم يدخلون في ما لا ينبغي لهم ولا يقضون حوائج إخوانهم, كفارة عمل السلطان قضاء حوائج الإخوان.. وهذا هو الانسان الذي لا يمتلك الحرية المبدئية.
ومن أمثلة الحاضر نرى إنسانا له أصدقاء غربيون فيخجل بالقول لهم أنا مسلم وكأن الإسلام شيء مخجل!! ونسي أن الإسلام مبادئ وقيم إنسانية عالية, وآخر له أصدقاء من مذاهب أخرى فيخجل أويخشى القول أنا شيعي . . فلماذا؟ وفي الحقيقة ليس هناك ضرورة للخوف بل قل بكل جرأة وبكل فخر وبكل اعتزاز (أنا شيعي) وأفتخر بأني شيعي و(أنا مسلم) وأفتخر بأنني مسلم أنتمي لدين كلّه قيم سامية وأنتمي لمذهب رواده الحسن والحسين , فلماذا الخوف والخجل ؟ إن هذا هو الخضوع بعينه لسلطة الخوف وهو يتنافى مع الحرية المبدئية, بينما الحرية المبدئية هي أن تقف مع مبادئك من دون خضوع لسلطة الإغراء أو لسلطة الخوف. وهذه القيمة العظيمة نتعلّمها من كربلاء، حيث أن هناك نموذجين في كربلاء: النموذج الأول: نموذج للعبودية والنموذج الثاني: نموذج للحرية .
مثال العبودية: عمر بن سعد
وعمر بن سعد ليس غريب عن البيت العلوي, فهو ابن خالة علي الأكبر, وقد عاشر البيت العلوي وعرف قيمته و عظمته ومكانته، لكنه باع مبادئه في سبيل سلطة الإغراء , فخسر حريته حيث قال:
فو الله ما أدري وأني لحائر أفكر في أمري على خطرين
أأترك ملك الري والري منيتي أم أرجع مأثوماً بقتل حسين
حسين بن عمي والحوادث جمّة ولكن ملك الري قرة عيني
ومثله الشمر بن ذي الجوشن الذي وقف عند بن زياد وقال مفتخرا بقتل الإمام:
أملأ ركابي فضة أو ذهبا قتلت خير الخلق أمّاً وأبا
مثال الحرية المبدئية:الحرّ بن يزيد الرياحي
جعجع بالحسين عليه السلام كما تقول الراويات , حتى أدخلة كربلاء وهذا يعدّ ذنبا لكن هذا كله ذهب وتبخّر لما بلغ الحرّ مرتبة الحرية المبدئية , فحين احتدم القتال يوم عاشوراء التفت الحر إلى عمر بن سعد, وقال: يا بن سعد أمصرّ أنت على قتال هؤلاء ؟ وكان الحرّ يملك عقلا ويفكر في معسكرين معسكر بثلاثين ألفا يملكون الأموال والسلاح والثروات وإغراءات شتى, ومعسكر بثلاثة وسبعين شخصا لا أموال ولا إغراءات ولا ماء ولا سلاح ويقاتل ببطولة وببسالة , بالمبادئ لا بالسلاح , فلمّا قال ابن سعد نعم.. قتال أهونه أن تتساقط الرؤوس وتتطاير الأيدي, وإذا بالحرّ يزجّ بفرسه نحو خيام الحسين -عليه السلام -وقد أرتعش بدنه فألتفت إليه أحد أصحابه, قال : يا حرّ لو قيل لي من أشجع أهل الكوفة ما عدوتك, فلماذا أنت خائف؟
إن الإنسان الحرّ عندما يدور فكره بين المعصية وبين الطاعة، بين الشهوة وبين العقل, وبين الجنة وبين النار و بين الرذيلة وبين الفضيلة , ويالها من لحظة عصيبة وصراع مرير عاشه الحرّ بن يزيد الرياحي !, فقال: أنا لست خائفا ولست جبانا بل أخيّر نفسي بين الجنة والنار، فأطاع ما أملته عليه حريّته المبدئيّة ، وعصا كل إغراءات النفس وأنانيتها، فقادته حريته الحقيقية إلى الفوز بخير الدنيا والآخرة....
قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat