صفحة الكاتب : عبدالاله الشبيبي

حجامة الروح وصابون الخطايا...
عبدالاله الشبيبي

المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.

قال تعالى على لسان احد الانبياء: ﴿وَيَاقَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلْ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ﴾. وقال: ﴿فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا يُرْسِلْ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا﴾.
يقول العلامة الطباطبائي: علل أمرهم بالاستغفار بقوله: ﴿إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا﴾ دلالة على أنه تعالى كثير المغفرة وهي مضافاً إلى كثرتها منه سنة مستمرة له تعالى. وقوله: ﴿يُرْسِلْ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا﴾ والمراد بالسماء السحاب، والمدرار كثير الدرور بالأمطار. وقوله: ﴿وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ﴾ الإمداد إلحاق المدد وهو ما يتقوى به الممد على حاجته، والأموال والبنون أقرب الأعضاد الابتدائية التي يستعين بها المجتمع الإنساني على حوائجه الحيوية. وقوله: ﴿وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا﴾ هما من قسم الأموال غير أنهما لكونهما من أبسط ضروريات المعاش خصا بالذكر.
والآيات تعد النعم الدنيوية وتحكي عنه أنه يعد قومه توافر النعم وتواترها عليهم أن استغفروا ربهم فلمغفرة الذنوب أثر بالغ في رفع المصائب والنقمات العامة وانفتاح أبواب النعم من السماء والأرض أي إن هناك ارتباطاً خاصاً بين صلاح المجتمع الإنساني وفساده وبين الأوضاع العامة الكونية المربوطة بالحياة الإنسانية وطيب عيشه ونكده.
ويضيف: أن هناك ارتباطاً تاماً بين الأعمال الإنسانية وبين الحوادث الكونية التي تمسه فالأعمال الصالحة توجب فيضان الخيرات ونزول البركات، والأعمال الطالحة تستدعي تتابع البلايا والمحن، وتجلب النقمة والشقوة والهلكة كما يشير إليه قوله تعالى: ﴿وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَىٰ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ﴾. المصدر: تفسير الميزان.
فإن إرسال السماء مدراراً وشق الأنهار وزيادة البنين ونحوها، أمور تكوينية ليس للإنسان فيها يد، وخاصة في عصر النبي نوح(ع)، ومع ذلك فقد قرنت مع الاستغفار والتوبة، ومع إصلاح النفس والإخلاص بشكل عام.
وعليه فان الاستغفار رابطة روحية واستشعار نفساني تربط العبد المؤمن بعالم الغيب والشهادة، فهو صابون الخطايا، وورد التائبين والمذنبين وحصن ضد الشيطان الغوي الرجيم. 
وكما إن الصلاة حصن من سطوات الشيطان ومدحره له، كذلك الاستغفار، وهو حجامة الروح وطهره الباطن من الأدران والكُدرات، حيث قال تعالى واستغفروا ربكم ثم توبوا إليه، اي اعتذروا منه بالتوبة وطلب المغفرة والرضوان والمعونة وعدم العودة الى اقتراف المعصية والجرم، وكما يقول الشيخ حبيب الكاظمي إن الاستغفار هو ورد المؤمن الدائم، وهو بمثابة الصابون والماء الذي يطهر الإنسان من الخبث والدرن ويخلصه من الأمراض، ومن دونه ينتفي تحقق الطهارة والنقاوة الروحية للمؤمن.. ومن المعلوم أن عملية الغسل لا تحتاج إلى نية؛ إذ أن الطهارة حاصلة ومتحققة بمجرد صب الماء على البدن.. إن الإنسان الذي يلتزم بالاستغفار، حتى لو أنه ارتكب ذنباً ثم نسيه، ولم ينوِ الاستغفار من هذا الذنب بعينه، فإن الطهارة متحققة.
ومن هنا فان الاستغفار درجة العليين وسبيل المقربين وباب التائبين وورد العارفين وصابون العاصين وممحاة خطايا المستهزئين. ولهذا ورد عن أمير المؤمنين عليه السلام عجبت لمن يقنط ومعاه الممحاة؟ قيل وما الممحاة؟ قال الاستغفار. 
فالاستغفار هو الندم على ما مضى، والعزم على ترك العود اليه، وان تؤدي الى المخلوقين حقوقهم، وان تعمد على كل فريضة يؤديها قد كنت ضيعتها، وان تعمد الى اللحم الذي نبت على الحرام والسحت ان تذيبه لحلاوة العبادة من جديد، وان تذيق الجسد الم الطاعة كما أذقته حلاوة المعصية.
وقد جاء في كتاب المحجة البيضاء: الاستغفار الّذي هو توبة الكذّابين هو الاستغفار بمجرّد اللّسان من غير أن يكون للقلب فيه شركة كما يقول الإنسان بحكم العادة وعن رأس الغفلة: أستغفر اللّه وكما يقول إذا سمع صفة النار: نعوذ باللّه منها، من غير أن يتأثّر به قلبه وهذا يرجع إلى مجرّد حركة اللّسان ولا جدوى له فأمّا إذا أنضاف إليه تضرّع القلب إلى اللّه تعالى وابتهاله في سؤال المغفرة عن صدق إرادة وخلوص نيّة ورغبة فهذه حسنة في نفسها فتصلح لأن تدفع بها السيّئة وعلى هذا تحمل الأخبار الواردة في فضل الاستغفار حتّى قال (ص): ما أصرّ من استغفر ولو عاد في اليوم سبعين مرّة.
وسئل أيضاً عن الاستغفار الّذي يكفّر الذّنوب فقال: أوّل الاستغفار الاستجابة، ثمّ الإنابة، ثمّ التوبة، فالاستجابة أعمال الجوارح، والإنابة أعمال القلوب، والتوبة إقباله على مولاه بأن يترك الخلق ثمّ يستغفر من تقصيره الّذي هو فيه ومن الجهل بالنعمة وترك الشكر، فعند ذلك يغفر له ويكون عنده مأواه، ثمّ التنقّل إلى الانفراد، ثمّ الثبات، ثمّ البيان، ثمّ القرب، ثمّ المعرفة، ثمّ المناجاة، ثمّ المصافاة، ثمّ الموالاة، ثمّ محادثة السرّ وهو الخلّة، ولا يستقرّ هذا في قلب عبد حتّى يكون العلم غذاءه، والذّكر قوامه، والرضا زاده، والتوكّل صاحبه، ثمّ ينظر اللّه إليه فيرفعه إلى العرش فيكون مقامه مقام حملة العرش.
وعن قوله تعالى: ﴿وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ﴾، فجاء الاستغفار والتوبة في هذه الآية يحكي عن أمرين مختلفين أولهما التهذيب، والثاني كسب الكمالات. وتقدم الاستغفار على التوبة، يجب على الإنسان أولاً تطهير الروح من الذنوب وبعدها الاتصاف بالصفات الإلهية، كما في الأول خلع اللباس الوسخ وارتداء الملابس النظيفة والطاهرة أو الاعتقاد أولاً إن كل معبود سوى الله سبحانه وتعالى باطل ومطرود من القلب ولا مكان له إلاّ عبادة الحق ومكانه في مكان القلب.
ومن الطريف هنا أنّنا نقرأ في الرّوايات الإسلامية أنّ الربيع بن صبيح: قال: كنت عند الحسن بن علي(عليهما السلام) فجاءه رجل وشكا له من الجدب والقحط، فقال له الحسن(عليه السلام): استغفر اللّه، فجاءه آخر فشكا له من الفقر، فقال: استغفر اللّه، فجاءه ثالث وقال له: ادع لي أن يرزقني اللّه ولداً، فقال الحسن(عليه السلام): استغفر اللّه، يقول الربيع بن صبيح: فتعجبت وقلت له: ما من أحد يأتيك ويشكو إليك أمره ويطلب النعمة إلاّ أمرته بالاستغفار والتوبة إلى اللّه.
فأجابه: إنّ ما قلته لم يكن من نفسي، وإنّما استفدت ذلك من كلام اللّه الذي يحكيه عن لسان نبيّه نوح وتلا الآيات أعلاه.
وفي نهج البلاغة نقرأ: كان في الأرض امانان من عذاب الله سبحانه، فرفع أحدهما فدونكم الآخر فتمسكوا به، إما الأمان الذي رفع فهو رسول الله(ص)، وإما الأمان الباقي فالاستغفار، قال الله جل من قائل: ﴿وَما كانَ اللّهُ لِيُعَذِّبهُمْ وأَنْتَ فِيهِمْ وَما كانَ اللّهَ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ﴾.
ويتّضح من ذلك أنّ وجود الأنبياء(عليهم السلام)مدعاة لأمن الناس من عذاب الله وبلائه الشديد، ثمّ الاستغفار والتوبة والتوجه والضراعة نحو الله، إذ يعدُّ الاستغفار والتوبة ممّا يدفع به العذاب.


قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat


عبدالاله الشبيبي
 (للدخول لصفحة الكاتب إضغط هنا)

    طباعة   ||   أخبر صديقك عن الموضوع   ||   إضافة تعليق   ||   التاريخ : 2018/06/01



كتابة تعليق لموضوع : حجامة الروح وصابون الخطايا...
الإسم * :
بريدك الالكتروني :
نص التعليق * :
 



حمل تطبيق (كتابات في الميزان) من Google Play



اعلان هام من قبل موقع كتابات في الميزان

البحث :





الكتّاب :

الملفات :

مقالات مهمة :



 إنسانية الإمام السيستاني

 بعد إحراجهم بكشف عصيانها وخيانتهم للشعب: المرجعية الدينية العليا تـُحرج الحكومة بمخالفة كلام المعصومين.. والعاصفة تقترب!!!

 كلام موجه الى العقلاء من ابناء شعبي ( 1 )

 حقيقة الادعياء .. متمرجعون وسفراء

 قراءة في خطبة المرجعية : هل اقترب أَجلُ الحكومةِ الحالية؟!

 خطر البترية على بعض اتباع المرجعية قراءة في تاثيرات الادعياء على اتباع العلماء

 إلى دعاة المرجعية العربية العراقية ..مع كل الاحترام

 مهزلة بيان الصرخي حول سوريا

 قراءة في خطبة الجمعة ( 4 / رمضان/ 1437هـ الموافق 10/6/2016 )

 المؤسسة الدينية بين الواقع والافتراء : سلسلة مقالات للشيخ محمد مهدي الاصفي ردا على حسن الكشميري وكتابيه (جولة في دهاليز مظلمة) و(محنة الهروب من الواقع)

 الى الحميداوي ( لانتوقع منكم غير الفتنة )

 السيستاني .. رسالة مهدوية عاجلة

 من عطاء المرجعية العليا

 قراءة في فتوى الدفاع المقدس وتحصين فكر الأمة

 فتوى السيد السيستاني بالجهاد الكفائي وصداها في الصحافة العالمية

 ما هو رأي أستاذ فقهاء النجف وقم المشرّفتَين السيد الخوئي بمن غصب الخلافة ؟

 مواقف شديدة الحساسية/٢ "بانوراما" الحشد..

أحدث مقالات الكتّاب :





 لنشر مقالاتكم يمكنكم مراسلتنا على info@kitabat.info

تم تأسيس الموقع بتاريخ 1/4/2010 © محمد البغدادي 

 لا تتحمل الإدارة مسؤولية ما ينشر في الموقع من الناحيتين القانونية والأخلاقية.

  Designed , Hosted & Programmed By : King 4 Host . Net