الدخول الى عوالم كتابة الرواية، يحتاج الى احتواء المتلقي، وهذا الأمر بحاجة الى إمكانية أدبية قادرة على أسر المتلقي في ثنايا المنجز، بحاجة الى موهبة تتجسد في تمثيل قيم حياتية واعية، ولهذا أجد أن رواية (هذا الرجل غيرني) للكاتبة المبدعة رجاء محمد بيطار، المقتبسة من فلم فرنسي بنفس العنوان تأليف وإخراج المخرج اللبناني (بلال خريس).
قصة الفلم بسيطة فتاة فرنسية تحمل معتقدات غربية مغلوطة حول إرهابية المسلمين تتعرف بشكل غير مباشر على حياة شخصية إسلامية معاصرة، تذهب الى مسرح الاحداث ايران، وتتطلب مرحلة الاقتباس الفني إعادة صناعة النص.
واستطاعت الكاتبة فعلاً أن تطور من فكرة الفلم ومن ثيمته لامتلاكها شاعرية عالية وحدس متأجج في عقل وروح المنجز، استطاعت نقل الرواية من رواية سياسية الى عالم الروح، الى السعي لتسليط الضوء الإعلامي لعلوم أئمة أهل البيت (عليهم السلام) أن تمنح روايتها الحيوية القادرة على توضيح المنهج الحسيني المبارك الى عمق وجداني بواسطة بساطة الجملة وعمق المعنى.
أحداث كثيرة خلقتها الرواية بعيدا عن حبكة الفلم، وصناعة أبطال جدد عمروا الصراع الفكري، أدخلتنا الكاتبة الى وجدان الرواية دون مقدمات تتدرج بنا للوصول الى تأهيل فكري قادر على الاستلام، لكن هذا الفعل جعلنا نعيش متعة المباغتة مرتكزة على بساطة الجملة وعمق المعنى، ووعي فكري لفتاة تدرك معنى الأشياء تقول لجدتها: (انا لا أتحدث عن العبث، أتحدث عن الحب)، وهذا وعي استباقي لمرتكزات هذا العمر الشبابي فهي ترى: (إن الأسئلة تصنعها القلوب والأفكار وليست الاعمار).
ومفهوم الحدس كمصطلح نقدي يعني التبصر الذي يتجاوز المنطق، وتتطلب مرحلة الاقتباس الفني خلق رؤية جديدة، وتقديم مسار فكري يبرر قيمة الاقتباس ومشروعيته. والكاتبة المبدعة رجاء بيطار استطاعت خلق منطقة إبداعية خاصة بها، طورت من ثيمة النص عبر شاعرية عالية، فتحت آفاقاً أوسع تساوت عندها المشاعر والأفكار، قدمت امرأة في مكون غربي مختلف عن عالم الكاتبة لديها الخوف والحزن والوحدة، ولديها فلسفة الانجذاب الى الضد ساعدتها عدة عوامل منها: كونها امرأة ولها اطلاع على الأدب الغربي، فقادت صراع الحدس بين العادة والتطبع وبين القدر.
مرتكزات نفسية أسست على رسم العلامات (الاستفهام) تسميها الكاتبة تصوراً، تخميناً، صراعاً ذكياً يدار بين الموعظة العاطلة عن التفاعل وبين الطموح الادراكي، بين فلسفة ماركسية يحملها زميل فرنسي يعيش معها في الجامعة وبين الرسام المسلم الذي تلتقيه في ايران.
مفاهيم استباقية تتلخص في الحاجة الإنسانية، فممكن ان يعرفنا الحدس بأننا بعيدون عن الله سبحانه تعالى، لكننا قد نجهل كيفية الاقتراب اليه (جل علاه)، عندها تصبح الكتابة حاجة فكرية، عاطفية، تدلنا على ان اليقين هو البحث عن اليقين، والاستخدام الشعري رفع من حدس الرؤى تقول: (أحلامي أخبئها خلف باب الزمن)، أحمل من الأمل اللامتوقع، والأجمل حين يكون واقعياً.
سعت رجاء بيطار أن تلج عوالم الفلم بروح مسلمة مؤمنة، تريد أن تعرّف العالم الغربي ما معنى أن نحب الحسين (عليه السلام)، وأن نبكيه بعد هذه القرون الطويلة، هي قالت في روايتها: إن عظمة أي ثورة لابد ان تنصهر في منهجية نهضة الطف الحسيني المبارك.
أجابت الرواية عن أسئلة الغرب:ـ من هم الأئمة (عليهم السلام)، حركة الحدس تكشف عن قصور المعلومة ووثبة التعلم عند هذا العالم، ابتكرت شخصية رضا الرسام الذي جعلت منه محوراً مهماً عمق جذر القضية؛ لكونه صانع جمال، فكان ملح الرواية. الوجهة الاجتماعية الروحية هي لولب التغيير، وليس رجل السياسة، تأخذنا الى عوالم صورة الغلاف لدفتر المذكرات، وإذا بها تكتشف ان حدس الشغف النوراني جعلها تعجب بصورة هي أيضا من صور رضا أعجبت بها، وتأملت فيها طويلاً دون أن تعرف انها ستلتقيه يوماً، وسيكون هو وجهة المصير، وإذا بها تصرح انها ستعود بعد أن تنجز امتحانها في السوربون الى جوهر الوجدان الى رضا.
وهذا المشروع الحدسي الذي جعل النهاية بداية لمشوار حياتي نابض بالشعور، رواية عامرة بمعطيات الهوية الفكرية المؤمنة ترسم من هذا المنطلق عالميتها بيقين الفكر، ورقة المشاعر الروحية والثقافة والجمال.
قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat