تأملات في القران الكريم ح380 سورة ق الشريفة
بسم الله الرحمن الرحيم
وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ{31}
تنعطف الآية الكريمة لتنقل لنا صورة الطرف المقابل للكفار ( وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ ) , قربت او زينت لهم , ( غَيْرَ بَعِيدٍ ) , بحيث يستطيعون رؤيتها .
هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ{32}
تستمر الآية الكريمة ( هَذَا مَا تُوعَدُونَ ) , هذا الذي ترونه من الجنة هو ما كنتم توعدون به في الدنيا , ( لِكُلِّ أَوَّابٍ ) , رجاع , كثير الرجوع الى الله عز وجل بالتوبة او العمل وطلب القرب ... الخ , ( حَفِيظٍ ) , كثير الحفظ لحدود الله تعالى .
مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَن بِالْغَيْبِ وَجَاء بِقَلْبٍ مُّنِيبٍ{33}
تستمر الآية الكريمة ناقلة صورتين عن الاواب الحفيظ :
- ( مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَن بِالْغَيْبِ ) : حيث انه خاف الله تعالى ولم يدركه بالحواس , بل كان ايمانه وخوفه منه جل وعلا بحقائق الايمان , وهو ما اشار اليه الامام علي بن ابي طالب "ع" حين سأله سائل وهو ذعلب اليماني وفي رواية اخرى غيره ( هل رأيت ربك يا أمير المؤمنين ؟ ) , فقال عليه السلام : أفأعبد ما لا أرى ! , فقال: وكيف تراه ! , فقال: لا تراه العيون بمشاهدة العيان، ولكن تدركه القلوب بحقائق الإيمان ، قريب من الأشياء غير ملامس ، بعيد منها غير مباين ، متكلم لا بروية ، مريد لا بهمة ، صانع لا بجارحة ، لطيف لا يوصف بالخفاء ، كبير لا يوصف بالجفاء ، بصير لا يوصف بالحاسة ، رحيم لا يوصف بالرقة ، تعنو الوجوه لعظمته ، وتجب القلوب من مخافته . "بحار الأنوار:4/27 " .
- ( وَجَاء بِقَلْبٍ مُّنِيبٍ ) : الخشية من الرحمن جل وعلا يصحبها ويرافقها القلب المقبل على الطاعات .
ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ{34}
تستمر الآية الكريمة مخاطبة المتقين ( ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ ) , يختلف المفسرون في ( بِسَلَامٍ ) فيرون فيه رأيين :
- ( بِسَلَامٍ ) بمعنى سلام التحية .
- ( بِسَلَامٍ ) بمعنى سالمين من العذاب , آمنين من الخوف والفزع وسائر المخاطر والاهوال في ذلك اليوم .
( ذَلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ ) , ذلك اليوم "يوم دخول الجنة " هو يوم خلودهم فيها , لا يخرجون منها ابدا .
لَهُم مَّا يَشَاؤُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ{35}
تستمر الآية الكريمة مضيفة ( لَهُم مَّا يَشَاؤُونَ فِيهَا ) , لهم كل ما يطلبون فيها , ( وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ ) , زيادة على ما شاءوا وطلبوا , وهو يندرج في جملة (ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر) .
وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُم مِّن قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُم بَطْشاً فَنَقَّبُوا فِي الْبِلَادِ هَلْ مِن مَّحِيصٍ{36}
تبين الآية الكريمة ( وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُم مِّن قَرْنٍ ) , بيانا للكثرة , ( هُمْ أَشَدُّ مِنْهُم بَطْشاً ) , قوة كعاد وثمود , ( فَنَقَّبُوا فِي الْبِلَادِ ) , يختلف المفسرون في معناها , فمنهم من يرى :
- بمعنى "فتشوا" .
- خرقوا البلاد وتصرفوا فيها .
- سادوا في الارض .
( هَلْ مِن مَّحِيصٍ ) , هل لهم مهرب من عذاب الله تعالى او من الموت .
إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ{37}
تقرر الآية الكريمة ( إِنَّ فِي ذَلِكَ ) , المذكور من اخبار الامم الهالكة , ( لَذِكْرَى ) , تذكرة وعظة , ( لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ ) , قلب واع يعي ويدرك ويتدبر , او القلب هنا بمعنى "عقل" , ( أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ ) , أو اصغى للاستماع , سماع متعظ متدبر , ( وَهُوَ شَهِيدٌ ) , حاضر الذهن , يدرك ما يسمع ويعقله .
وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِن لُّغُوبٍ{38}
تنعطف الآية الكريمة لتؤكد محققة ( وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ) , بدءا من اليوم الاحد وانتهاءً بيوم الجمعة على بعض الآراء , ( وَمَا مَسَّنَا مِن لُّغُوبٍ ) , تعب واعياء , وهو ردا على مزاعم اليهود " من أنه تعالى بدأ خلق العالم يوم الاحد وفرغ منه يوم الجمعة واستراح يوم السبت واستلقى على العرش" .
مما يروى في سبب نزول الآية الكريمة ما جاء في تفسير الصافي ج5 للفيض الكاشاني وغيره من التفاسير والكتب ( روي أن اليهود أتت النبي صلى الله عليه وآله فسألته عن خلق السموات والارض فقال خلق الله الارض يوم الاحد والاثنين وخلق الجبال وما فيهن يوم الثلاثاء وخلق يوم الاربعاء الشجر والماء والمدائن والعمران والخراب وخلق يوم الخميس السماء وخلق يوم الجمعة النجوم والشمس والقمر والملائكة قالت اليهود ثم ماذا يا محمد قال ثم استوى على العرش قالوا قد أصبت لو أتممت قالوا ثم استراح فغضب النبي صلى الله عليه وآله غضبا شديدا فنزلت ولقد خلقنا السموات الآية ) .
فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ{39}
تخاطب الآية الكريمة النبي الكريم محمد "ص واله" ( فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ ) , على ما يقوله اليهود من ان الله تعالى استراح يوم السبت واستلقى على العرش , وكذلك الحال بالنسبة لغيرهم ممن كذبوا ونسبوا له جل وعلا الشريك والاولاد والصاحبة اليه ... الخ , ( وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ ) , على رأي انها الصلاة وعلى رأي اخر اي نزهه تعالى عما وصفوه به مما لا يليق بجلاله , حامدا له على نعمه , ( قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ ) , الفجر , ( وَقَبْلَ الْغُرُوبِ ) , العصر .
وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبَارَ السُّجُودِ{40}
تستمر الآية الكريمة في موضوع سابقتها ( وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ ) , يرى السيوطي في تفسيره الجلالين انها صلاة العشاءين , بينما يرى اخرون ان حرف الجر ( من ) يدل على التبعيض , بمعنى سبحه بعض الليل , ( وَأَدْبَارَ السُّجُودِ ) , هي تعقيبات الصلاة المفروضة على بعض الآراء , بينما يرى السيوطي في تفسيره الجلالين انها النوافل بعد الصلاة المسنونة .
وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنَادِ الْمُنَادِ مِن مَّكَانٍ قَرِيبٍ{41}
تستمر الآية الكريمة في خطابها للنبي الكريم محمد "ص واله" ( وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنَادِ الْمُنَادِ ) , للبعث وفصل الخطاب , على بعض الآراء , يرى السيوطي في تفسيره الجلالين ان المنادي هو اسرافيل "ع" , بينما يرى القمي في تفسيره " يناد المنادي باسم القائم واسم أبيه عليهما السلام" , ( مِن مَّكَانٍ قَرِيبٍ ) , يختلف المفسرون في النص المبارك , فمنهم من يرى :
- ( مِن مَّكَانٍ قَرِيبٍ ) : بحيث يصل نداؤه إلى الكل على السواء . "تفسير الصافي ج5 للفيض الكاشاني" .
- ( مِن مَّكَانٍ قَرِيبٍ ) : من السماء وهو صخرة بيت المقدس أقرب موضع من الأرض إلى السماء يقول أيتها العظام البالية والأوصال المتمزقة والشعور المتفرقة إن الله يأمركن أن تجتمعن لفصل القضاء . "تفسير الجلالين للسيوطي" .
مورد اختلاف المفسرين ان يكون هذا النداء في الدنيا , فيكون ما ذهب اليه القمي والفيض الكاشاني وغيرهما في تفاسيرهم , او ان يكون النداء في الاخرة , فيكون ما ذهب اليه السيوطي وغيره .
يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ{42}
تستمر الآية الكريمة مضيفة ( يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ ) , يختلف المفسرون في الصيحة , فأن كانت في الدنيا فهي الصيحة بالقائم المهدي "عجل الله فرجه الشريف" كما يذهب الى ذلك القمي وغيره الكثيرون , وان كانت الصيحة في الاخرة , فيكون الامر كما ذهب اليه السيوطي وغيره الكثيرون من انها نفخة اسرافيل "ع" الثانية , ( ذَلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ ) , عين الاختلاف الوارد بين مدارس المفسرين :
- ان كان ذلك في الاخرة فيكون يوم الخروج من القبور , كما يرى السيوطي وغيره .
- وان كان في الدنيا , فيكون ما ذهب اليه القمي وغيره من ان ذلك يوم الرجعة , والرجعة معروفة لدى مدارس اهل البيت "ع" , لكنها ليست من اساسيات المذهب , وفيه يرجع الى الدنيا الكافر المحض والمؤمن المحض , فيقتص للمؤمنين من الكفار الذين اذووهم فيما سبق .
إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَإِلَيْنَا الْمَصِيرُ{43}
تستمر الآية الكريمة مضيفة ( إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ ) , في الدنيا والاخرة , فاذا كان الامر في الدنيا فيعتمده ويبني عليه اساس القائلون بالرجعة , اما ان كان في الاخرة فقط , فيبنى عليه الآراء الاخرى وهو ما ذهب اليه السيوطي وسواه , ( وَإِلَيْنَا الْمَصِيرُ ) , في الاخرة .
يَوْمَ تَشَقَّقُ الْأَرْضُ عَنْهُمْ سِرَاعاً ذَلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنَا يَسِيرٌ{44}
تضيف الآية الكريمة ( يَوْمَ تَشَقَّقُ الْأَرْضُ عَنْهُمْ ) , تتصدع عن المقبورين فيها , ( سِرَاعاً ) , فيخرجون مسرعين , ( ذَلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنَا يَسِيرٌ ) , هين .
نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ وَمَا أَنتَ عَلَيْهِم بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَن يَخَافُ وَعِيدِ{45}
تخاطب الآية الكريمة النبي الكريم محمد "ص واله" ( نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ ) , القائلون هم كفار قريش على ارجح الآراء , ( وَمَا أَنتَ عَلَيْهِم بِجَبَّارٍ ) , ولست مسلطا عليهم لتقهرهم على الايمان او لتجبرهم على ما تريد , ان انت الا داع , ( فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَن يَخَافُ وَعِيدِ ) , فأن الاكثر انتفاعا به من يخشى الوعيد , اما من لا يخشى الوعيد فلا ينتفع بتلك الموعظة والتذكير .
قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat