سار الطفل بخطوات ثقيلة وسط الأنقاض ، أنقاض المدينة التي احالها خلاف نشب بين وحوش الغاب الى ركام ، وهو يرتعد من شدة البرد والصفرة تعلو وجهه النحيل من شدة المرض ، كان يجول بنظراته رغم البرد والرياح القوية والمطر الذي بدأ بالتساقط منذ حين ، باحثاً عن شيء ما يؤكل بعد ان انشب الجوع أظافره في جسده الضعيف . اثناء سيره شعر بالمطر البارد يضرب وجه النحيل بين حين واخر . خطواته ثقيلة متعثرة غير منتظمة ، كل خطوة يخطوها تعقبها عثرة واحيانا سقطة مؤلمة . اثناء سيره شاهد من بعيد شيخاً كهلاً جالساً على ارض عارية مططأ الرأس يضع على كتفيه معطف بالي اسود اللون ، عندما اقترب منه تنبه الى ان الرجل كان يتنفس بصعوبة وعلامات الاعياء بادية على قسمات وجهه المتعب ، ابتدره قائلا :
- هل انت مريض ياعماه ؟
رفع الشيخ رأسه بصعوبة ونظر الى مصدر الصوت وقال بعد ان تنهد طويلاً :
- وانت مالذي جاء بك الى هنا ؟
- انا ابحث عن طعام فأنا لم اكل شيء منذ ايام .
- الا تخاف الخروج ليلاً ؟
- وممن أخاف ؟
- من الحرب من الرصاص من القنابل من الناس من كل شيء .
اجاب بحماسة طفولية :
- صدقني ياعماه انا لا اخاف ، يوميا اخرج في مثل هذا الوقت .
-الا تشعر بالبرد ؟
- كثيراً ، فكما ترى ، ملابسي ممزقة ولا املك ما أقي به نفسي من لسعات البرد القارس .
مد الرجل ذراعه الطويلة نحو الطفال ودعاه قائلاً :
- تعال وضع رأسك على صدري كي أظمك .
نظر الطفل بأستغراب واضح وتردد قليلاً قبل ان يبتسم الرجل ليقول :
- لا تخف ياصغيري ... لاتخف .
عندما صار في حظن الشيخ ، شعر الطفل بدفق الحرارة وهي تسري الى جسده ، قال بلهفة :
- صدرك دافىء ياعماه .
- ستشعر بالدفىء والراحة اعدك بذلك .
- ماهو أسمك يا عماه ؟
- لا تسألني عن أسمي ، لان جميع البشر يتشأمون منه ، فأنا ما دخلت بيتاً حتى اخرج منه مخلفاً ورائي الخراب والسواد . الجميع يشيرون ألي وكأني سبب مصائبهم .
تنهدء بعمق وواصل كلامه : تعبت من هولاء البشر ، مللت حروبهم ونزاعاتهم التي لا تهدأ ، منذ ان خلقوا وهم يخوضون في بحار الرذيلة مابين حروب ونزاعات وقتال وسفك دماء واثارة فتن وحبك مؤامرات ، تراهم يتحابون ويتزاورون ويتناصحون في العلن ، اما في بواطن نفوسهم النتئة فهم اعداء يضمرون الحقد والكراهية والحسد فيما بينهم . لا ادري ما جدوى خلقهم اذا كانوا على هذه الشاكله .
صمت قليلاً ، كان يلتقط انفاسه بصعوبه .
سأله الطفل بصوت ضعيف يكاد لا يسمع وسط عويل الرياح :
- لماذا لا تهجرهم ياعماه وتعيش بعيداً .
نظر الى الطفل نظرة حنو واشفاق وراح يمسد على شعره بحنان :
- حتى وان تركتهم ورحلت بعيداً فهم لن يتركونني وشأني .
بدأت أنفاس الطفل تتقطع والبرودة القاتلة تتسلل الى جسده الضعيف حتى تحول في نهاية المطاف الى كتلة من الجليد ، كان اخر ما سمعه الكهل قبل أن تخمد انفاسه نهائياً : انا جائع ياعماه .
نهض الشيخ من مكانه بصعوبة ، بعد ان مدد الجسد على الارض وقام بتغطيته بمعطفه، وقبل ان يهم بالرحيل أمسك بيده الباردة كالثلج ونظر الى ذلك الوجه الملائكي ، قائلاً له بصوت حزين : هذا قدرك ياولدي في عالم يحكمه البشر .
قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat