ثقافة عدم وجود خالق لهذا النظام الكامل
احمد عبد الجليل ظاهر

المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.
نحن في الوقت الذي يعتقد فيه كل مخالف بنضاجة فكره وصحة عقيدته التي لاتستند الى عقيدة فبات المنكر لوجود الله سبحانه وتعالى يتعالى بهذه الفكرة على من يؤمن بها واصبح هذا النكران مادة اعلامية لغرض الترويج عن الثقافة الفارغة .
ان الايمان بوجود الله سبحانه له من الاثار التي لاتحصى ولاتعد والتي تلقي بضلالها على مختلف جوانب حياة الانسان , ان الدين ثورة فكرية تقود الإنسان إلى الكمال والترقي في جميع المجالات المهمة بالنسبة إلى حياة الإنسان منها:
أ. تقويم الأفكار والعقائد وتهذيبهما عن الأوهام والخرافات.
ب. تنمية الأصول الأخلاقية.
ج. تحسين العلاقات الاجتماعية.
د. إلغاء الفوارق القومية.
ولكون اننا هنا نناقش فكرة وجود الله تعالى فاننا لانتطرق الى معطيات هذا الايمان وانما سوف نتكلم عن البراهين التي من الممكن اللجوء اليها لاثبات هذا الاصل الذي يعتبر اثباته اثبات لفروعه وإن من أوضح البراهين العقلية وأيسرها تناولا للجميع هو برهان النظم، وهو الاهتداء إلى وجود الله سبحانه عن طريق مشاهدة النظام الدقيق البديع السائد في عالم الكون.
ما هو النظم؟
إن مفهوم النظم من المفاهيم الواضحة لدى الأذهان ومن خواصه أنه
يتحقق بين أمور مختلفة سواء كانت أجزاء لمركب أو أفرادا من ماهية
واحدة أو ماهيات مختلفة، فهناك ترابط وتناسق بين الأجزاء، أو توازن
وانسجام بين الأفراد يؤدي إلى هدف وغاية مخصوصة، كالتلائم الموجود
بين أجزاء الشجر، وكالتوازن الحاصل بين حياة الشجر والحيوان.
شكل البرهان وصورته
إن برهان النظم يقوم على مقدمتين: إحداهما حسية، والأخرى
عقلية.
أما الأولى: فهي أن هناك نظاما سائدا على الظواهر الطبيعية التي
يعرفها الإنسان إما بالمشاهدة الحسية الظاهرية وإما بفضل الأدوات
والطرق العلمية التجريبية. وما زالت العلوم الطبيعية تكشف مظاهر وأبعادا
جديدة من النظام السائد في عالم الطبيعية، وهناك مئات بل آلاف من
الرسائل والكتب المؤلفة حول العلوم الطبيعية مليئة بذكر ما للعالم الطبيعي
من النظام المعجب. فلا حاجة إلى تطويل الكلام في هذا المجال.
وأما الثانية: فهي أن العقل بعد ما لاحظ النظام وما يقوم عليه من
المحاسبة والتقدير والتوازن والانسجام، يحكم بالبداهة بأن أمرا هكذا شأنه
يمتنع صدوره إلا عن فاعل قادر عليم ذي إرادة وقصد، ويستحيل تحققها
صدفة وتبعا لحركات فوضوية للمادة العمياء الصماء، فإن تصور مفهوم
النظم وأنه ملازم للمحاسبة والعلم يكفي في التصديق بأن النظم لا ينفك
عن وجود ناظم عالم أوجده، وهذا على غرار حكم العقل بأن كل ممكن
فله علة موجدة، وغير ذلك من البديهيات العقلية.
وإن الوحي الإلهي قد أعطى برهان النظم اهتماما بالغا، وهناك آيات
كثيرة من القرآن تدعو الإنسان إلى مطالعة الكون وما فيه من النظم والإتقان
حتى يهتدي إلى وجود الله تعالى وعلمه وحكمته.ونحن هنا نتطرق الى هذه الايات لا لكونها اثبات ودليلا له ولكن لنذكر اهل القلوب الصافية مدى اهتمام الشريعة السماوية بهذا البرهان وبالتالي نتطرق الى هذا الدليل وهو اول الادلة نظرا لاهتمام الشريعة المقدسة به
نرى أن القرآن الكريم يلفت نظر الإنسان إلى السير في الآفاق
والأنفس ويقول:
(سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق).
ويقول:
(قل انظروا ماذا في السماوات والأرض).
ويقول:
(إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار والفلك
التي تجري في البحر بما ينفع الناس وما أنزل الله من السماء من ماء فأحيا
به الأرض بعد موتها وبث فيها من كل دابة وتصريف الرياح
والسحاب المسخر بين السماء والأرض لآيات لقوم يعقلون).
ويقول:
(أولم يتفكروا في أنفسهم).
ويقول أيضا:
(وفي أنفسكم أفلا تبصرون).
وقال علي (عليه السلام):
" ألا ينظرون إلى صغير ما خلق؟ كيف أحكم خلقه وأتقن تركيبه،
وفلق له السمع والبصر، وسوى له العظم والبشر، أنظروا إلى النملة في صغر
جثتها ولطافة هيئتها لا تكاد تنال بلحظ البصر ولا بمستدرك الفكر، كيف
دبت على أرضها وصبت على رزقها، تنقل الحبة إلى جحرها وتعدها في
مستقرها، تجمع في حرها لبردها وفي وردها لصدرها.. فالويل لمن أنكر
المقدر وجحد المدبر... .
وقال الإمام الصادق (عليه السلام) في ما أملاه على تلميذه المفضل
بن عمر:
" أول العبر والأدلة على الباري جل قدسه، تهيئة هذا العالم وتأليف
أجزائه ونظمها على ما هي عليه، فإنك إذا تأملت بفكرك وميزته بعقلك
وجدته كالبيت المبني المعد فيه جميع ما يحتاج إليه عباده، فالسماء
مرفوعة كالسقف، والأرض ممدودة كالبساط، والنجوم مضيئة كالمصابيح،
والجواهر مخزونة كالذخائر، وكل شئ فيه لشأنه معد، والإنسان كالمملك
ذلك البيت، والمخول جميع ما فيه، وضروب النبات مهيئة لمآربه،
وصنوف الحيوان مصروفة في مصالحه ومنافعه.
ففي هذا دلالة واضحة على أن العالم مخلوق بتقدير وحكمة ونظام
وملائمة، وأن الخالق له واحد، وهو الذي ألفه ونظمه بعضا إلى بعض جل
قدسه وتعالى جده ".
علما إن هناك إشكالات طرحت حول برهان النظم يجب علينا الإجابة
عنها، والمعروف منها ما طرحه ديفويد هيوم الفيلسوف الانكليزي (1711 -
1776 م) في كتابه " المحاورات " وهي ستة إشكالات كما يلي:
الإشكال الأول
إن برهان النظم لا يتمتع بشرائط البرهان التجريبي، لأنه لم يجرب
في شأن عالم آخر غير هذا العالم، صحيح إنا جربنا المصنوعات البشرية
فرأينا أنها لا توجد إلا بصانع عاقل كما في البيت والسفينة والساعة وغير
ذلك، ولكننا لم نجرب ذلك في الكون، فإن الكون لم يتكرر وجوده حتى
يقف الإنسان على كيفية خلقه وإيجاده، ولهذا لا يمكن أن يثبت له علة
خالقة على غرار المصنوعات البشرية.
والجواب عنه: إن برهان النظم ليس برهانا تجريبيا بأن يكون الملاك
فيه هو تعميم الحكم على أساس المماثلة الكاملة بين الأشياء المجربة
وغير المجربة، وليس أيضا من مقولة التمثيل الذي يكون الملاك فيه
التشابه بين فردين، بل هو برهان عقلي يحكم العقل فيه بأمر بعد ملاحظة
نفس الشئ وماهيته، وبعد سلسلة من المحاسبات العقلية من دون تمثيل
أو إسراء حكم، كما يتم ذلك في التمثيل والتجربة.
وكون إحدى مقدمتيه حسية لا يضر بكون البرهان عقليا، فإن دور
الحس فيه ينحصر في إثبات الموضوع، أي إثبات النظم في عالم الكون،
وأما الحكم والاستنتاج يرجع إلى العقل ويبتني على محاسبات عقلية، وهو
نظير ما إذا ثبت بالحس أن هاهنا مربعا، فإن العقل يحكم من فوره بأن
أضلاعه الأربعة متساوية في الطول.
فالعقل يرى ملازمة بينة بين النظم بمقدماته الثلاث، أعني: الترابط
والتناسق والهدفية، وبين دخالة الشعور والعقل، فعندما يلاحظ ما في جهاز
العين مثلا من النظام بمعنى تحقق أجزاء مختلفة كما وكيفا، وتناسقها
بشكل يمكنها من التعاون والتفاعل فيما بينها ويتحقق الهدف الخاص منه،
يحكم بأنها من فعل خالق عظيم، لاحتياجه إلى دخالة شعور وعقل وهدفية
وقصد.
الإشكال الثاني
إن هناك في عالم الطبيعة ظواهر وحوادث غير متوازنة خارجة عن
النظام وهي لا تتفق مع النظام المدعى ولا مع الحكمة التي يوصف بها
خالق الكون، كالزلازل والطوفانات.
والجواب عنه: إن هذا الإشكال لا صلة له بمسألة النظم فإن ما تعد
من الحوادث الكونية شرورا كالزلازل والطوفانات لها نظام خاص في
صفحة الكون، ناشئة عن علل وأسباب معينة تتحكم عليها محاسبات
ومعادلات خاصة وقد وفق الإنسان إلى اكتشاف بعضها وإن بقي بعض آخر
منها مجهولا له بعد.
وأما إنها ملائمة لمصالح الإنسان أو غير ملائمة له، فلا صلة له
ببرهان النظم الذي بصدد إثبات أن هناك مبدئا وفاعلا لعالم الطبيعة ذا علم
وقدرة وإرادة، وأما سائر صفاته كالوجوب الذاتي، والعدل والحكمة
ونحوها فلإثباتها طرق أخر، وسيجئ البحث عنها في المقالات القادمة
باذنه سبحانه.
الإشكال الثالث
ماذا يمنع من أن نعتقد بأن النظام السائد في عالم الطبيعة حاصل من
قبل عامل كامن في نفس الطبيعة، أي أن النظام يكون ذاتيا للمادة؟ إذ لكل
مادة خاصية معينة لا تنفك عنها، وهذه الخواص هي التي جعلت الكون
على ما هو عليه الآن من النظام.
ويرده أن غاية ما تعطيه خاصية المادة هي أن تبلغ بنفسها فقط إلى
مرحلة معينة من التكامل الخاص والنظام المعين - على فرض صحة هذا
القول - لا أن تتحسب للمستقبل وتتهيأ للحاجات الطارئة، ولا أن تقيم حالة
عجيبة ورائعة من التناسق والانسجام بينها وبين الأشياء المختلفة والعناصر
المتنافرة في الخواص والأنظمة.
ولنأت بمثال لما ذكرناه، وهو مثال واحد من آلاف الأمثلة في هذا
الكون، هب أن خاصية الخلية البشرية عندما تستقر في رحم المرأة، هي أن
تتحرك نحو الهيئة الجنينية، ثم تصير إنسانا ذا أجهزة منظمة، ولكن هناك
في الكون في مجال الإنسان تحسبا للمستقبل وتهيئوا لحاجاته القادمة لا
يمكن أن يستند إلى خاصية المادة، وهو أنه قبل أن تتواجد الخلية البشرية
في رحم الأم وجدت المرأة ذات تركيبة وأجهزة خاصة تناسب حياة الطفل
ثم تحدث للأم تطورات في أجهزتها البدنية والروحية مناسبة لحياة الطفل
وتطوراته.
هل يمكن أن نعتبر كل هذا التحسب من خواص الخلية البشرية، وما
علاقة هذا بذاك؟
وللمزيد من التوضيح نأتي بمثال آخر ونقول: إن جملة " أفلاطون كان
فيلسوفا " تتكون من (17) حرفا، فلو أن أحدا قال: إن لكل حرف من هذه
الحروف صوتا خاصا يختص به، وإن هذا الصوت هو خاصية ذلك الحرف
لما قال جزافا.
ولكن لو قال بأن هناك وراء صوت كل حرف وخاصيته أمرا آخر
وهو التناسق والتناسب والانسجام الذي يؤدي إلى بيان ما يوجد في ذهن
المتكلم من المعاني، هو كون أفلاطون فيلسوفا، وأن هذا التناسق هو
خاصية كل حرف من هذه الحروف، فقد ارتكب خطأ كبيرا وادعى أمرا
سخيفا، فإن خاصية كل حرف هي صوته الخاص به ولا يستدعي الحرف
هذا التناسق، مع أنه يمكن أن تتشكل وينشأ من هذه الحروف آلاف
الأشكال والأنظمة الأخرى غير نظام " أفلاطون كان فيلسوفا ".
فإذا لم يصح هذا في جملة صغيرة مركبة من عدة أحرف ذات
أصوات مختلفة وخواص متنوعة، فكيف بالكون والنظام الكوني العام
المؤلف من ملايين المواد والخواص والأنظمة الجزئية المتنوعة؟!
ثلاثة إشكالات أخرى لهيوم
1. من أين نثبت أن النظام الموجود فعلا هو النظام الأكمل، لأنا لم
نلاحظ مشابهه حتى نقيس به؟
2. من يدري لعل خالق الكون جرب صنع الكون مرارا حتى اهتدى
إلى النظام الفعلي؟
. لو فرضنا أن برهان النظم أثبت وجود الخالق العالم القادر، بيد أنه
لا يدل مطلقا على الصفات الكمالية كالعدالة والرحمة التي يوصف بها.
والجواب عنها: إن هذه الإشكالات ناشئة من عدم الوقوف على
رسالة برهان النظم ومدى ما يسعى إلى إثباته، أن رسالة برهان النظم
تتلخص في إثبات أن النظام السائد في الكون ليس ناشئا من الصدفة ولا
من خاصية ذاتية للمادة العمياء، بل وجد بعقل وشعور ومحاسبة وتخطيط،
فله خالق عالم قادر.
وأما أن هذا الخالق الصانع هو الله الواجب الوجود الأزلي الأبدي أم
لا، وأن علمه بالنظام الأحسن هل هو ذاتي فعلي أو انفعالي تدريجي، وأن
النظام الموجود هل هو أحسن نظام أو لا؟ فهي مما لا يتكفل بإثباته هذا
البرهان ولا أنه في رسالته ولا مقتضاه، بل لا بد في هذا المورد من الاستناد
إلى براهين أخرى مثل برهان الإمكان والوجوب والاستناد بقواعد عقلية
بديهية أو مبرهنة مذكورة في كتب الفلسفة والكلام، مثل أن علمه تعالى
ذاتي فعلي وليس بانفعالي تدريجي، وأن النظام الكياني ناشئ عن النظام
الرباني ومطابق له، وذلك النظام الرباني العلمي أكمل نظام ممكن، إلى غير
ذلك من الأصول الفلسفية والتي سنذكرها في المقالات القادمة باذنه سبحانه
الناشر