صفحة الكاتب : كريم مرزة الاسدي

السيد جعفر الحلي .. الحلقة الثالثة نسيبه والصهباء.. وما اليه يذهبون
كريم مرزة الاسدي
قبل ان أنتقل بك الى نسيبه, واقلب صفحة طرائفه, عليك ان تتقبل بامتنان هذا المقلب الجعفري, اذ يدور بك انّى يشاء, ويجعلك منبهراّ لتحليلاته وصحونه الطائرة, كيف لا؟! وقلبه يطير مخترقاً الاجواء, وجسمه ينفذ من شقوق الابواب, وما احسبه نظم الابيات الثلاثة, الا لكي يوصلك الى البيت الثاني, وهو بيت القصيد:
اني شكرت نحول جسمي بالمها                 اذ صرت لم امنع بكل حجاب
ان اغلقت بابا فقلبي طائرٌ                       والجسم ينفذ من شقوق الباب
فانا بعكس ذوي الهوى! اذ دأبهم                ذم النحول, وشكره من دابي
وانا اميل الى ان نحوله كنحول المتنبي في صغره:
كفى بجسمي نحولا انني رجلُ                   لولا مخاطبتي اياك لم ترنى
وليس كما ذهب الساخر المضحك بشار بن برد, اذ يزعم بأنه نحيل ويزعم الدكتور طه حسين بأنه كاذب في قوله:
ان في بردي جسماً ناحلا               لو توكأتَ عليه لانهدم
ثم لا اخالك لا تنتشي بصهباء السيد الذائب عسجدها بلجينها, وحمرة الخدود التي انعكست على الراح, او تشربت به, وبهذا العشق الممزوج بالخوف, والعيون الحائرة بين حبيبها ورقبائها. 
ثم ماذا ؟! 
الشبيبة تناديه, وثوبها قد سلب, فكيف السلوان؟! 
هل ثوب اللهو المسلوب, أتراه كناية عن العمر المهدور ام عذرا يتستر به لكرع كاسات السرور؟ّ! 
لا تبالي هلمّ معه لنشرب الصهباء, ونستغفر الله ونحمده بالصلاة على محمد وآله الكرام .. مادام الكأس خيال, والكلام من السحر الحلال .. وأخيراً ينتصر شاعرنا لارادة الحياة, فما الليث الا بشبله, وما الاسد الا بضرغامه.. والدنيا تواصل مسيرتها.. اقرأ معي:
أهل ترى لؤلؤاً في الكأس ام حببا               وغلمة تجتليها ام قطيع ظبا
وذاك جام به الصهباء ذائبةٌ                      ام فضة قذ اذابوا وسطها ذهبا
ياما آحيلاه ملعابا يطوف بها                     يجد فينا رسيس الشوق ان لعبا
سيان لون حمياهُ ووجنتهُ                         فصبّـهُ ليس يدري كلما شربا
اراحهُ حمرة من خده اكتسبت                   ام خدهُ حمرةٌ من راحهِ اكتسبا
وافى اليّ وسرّ النجم منهتك                      والليل يضرب من ظلمائه حجبا
خوفٌ وعشقٌ على عينيه قد حكما               فمقلةٌ ليّ  والاخرى الى الرقبا
ياهل يعود لنا دهر بكاظمةٍ                       سرعان ما مرّ حاليه وما ذهبا
حيث الشبيبةُ ثوبٌ قد لهوت به                   كيف السلو وثوب اللهو قد سلبا
هلم يامترع الكاسات نشربها                      صهباء لم تبق لي هماّ ولا وصبا
اضافة الماء تنمي عن اصالتها                   فبالحباب عرفنا اصلها عنبا
وروّ فيها حشى لو بعض غلتها                  بالدجلتين لما طابا ولا عذبا
وكفر الذنب فيها بالثناء على                     محمدٍ وعلى ساداتنا النجبا
ان البشير الذي وافى يبشرنا                    لمنعم وعلينا شكره وجبا
اعز ما اقتنيه النفس وهي لهُ                    احدى المواهب لو يرضى بما وهبا
ماحاول الليث الماما بلبوته                      الا ليصبح منها للشبول ابا
لا جرم ان الشاعر برقته العذبة وغزله الرائع لم يتعد حدود مجتمعه المسلم المحافظ الورع اذ كان يتفهم الوازع الانساني, والوجدان العاطفي لشاعر حساس يحترم عرفه ويفهم تعاليم دينه.. والحقيقة ان الغزل باب من ابواب الشعر, وكانت العرب في الجاهلية لا تفتح مدائحها الا به.. من قفا نبكِ.. واحبها وتحبني.. حتى اطلال خولة.. ودار عبلة, بحومانة الدراج فالمتلثم.
ثم قف! ألم يقف كعب بن زهير الذي هجا رسول الله (ص) ذات يوم, مما تسبب بهدر دمه امامه ليعتذر منه بطلب من قبيلته بعد ان ضاقت به السبل ليتغنى بسعاده في اطلالته على سيد المرسلين!
بانت سعاد فقلبي اليوم متبولُ            متيم اثرها لم يفد مكبولُ
وما سعاد غداة البين اذ رحلوا          الا اغرّ غضيض الطرف مكحولُ
وما ان انتهى من القاء قصيدته حتى خلع الرسول (ص) بردته الشريفة ليمنحها للشاعر تكريماً له ورضاء عنه "و (تقرير) رسول الله (ص) و(فعله) ثلثا سنته!!" (32)
ثم الم يتغزل فقيه المدينة عروة بن اذينة بهذا الغزل الغض الذي قل نظيره في شعرنا العربي -كما يقول السيد مصطفى جمال الدين- اقرأ رجاء بعض ما قاله هذا العروة الجميل: 
ان التي زعمت فؤادك ملـّـها               خُلقت هواك كما خُلقت هوى لها
فبك الذي زعمتْ بها وكلاكما              ابدى لصاحبه الصبابة  كلّـها
ويبيتُ بين جوانحي حبٌ لها              لو كان تحتُ فراشها لاقلـّـها
لمّـا عرضتُ -مسلماً- لي حاجةٌ           اخشى صعوبتها .. وارجو ذُلـّها
منعت تحيتها فقلت لصاحبي:            ماكان اكثرها لنا.. وأقلّـها
فدنا, وقال: لعلها معذورةٌ                 في بعض رقبتها.. فقلت: لعلّـها (33)
                                                 
ولعلك لا تنسى -ياصاحبي- قصيدة الشريف الرضي الغزلية التي تعد من عيون الشعر العربي: 
ياظبية البان ترعى في خمائلهِ                  ليهنك اليوم ان القلب مرعاكِ
هامت بك العين لم تطلب سواك هواً           من علّـم العين ان القلب مرعاك
والشريف تعرفه كم هو شريف ورضي!..
ومقصورته في رثاء الامام الحسين (ع) اشهر من ان تنسى:
كربلا لا زلتِ كربا وبلا                 ما لقى عندك آل المصطفى
كم على تربك لما صرعوا              من دمٍ سال ودمع قد جرى
والسيد جعفر الذي نظم عقد رثائه البديع (الله اي دم في كربلا سفكا..) التي مرّ ذكرها ورائعته التي وصف بها فاجعة كربلاء وخص بالذكر فيها ابا الفضل العباس (ع)
وجه الصباح عليّ ليلٌ مظلمُ                 وربيع ايامي عليّ محرمُ
والليل يشهد لي بأني ساهرٌ                  مذ طاب للناس الرقاد وهوموا
حتى اذا اشتبك النزال وصرّحتْ          صيد الرجال بما تجن وتكتمُ
ما راعهم الا تقحم ضيغمٌ                   غيران يعجم لفظهُ ويدمدمُ
ما كرّ ذو بأس ٍ له متقدماً                   الا وفرّ ورأسه المتقدمُ (34)
والسيد هو نفسه الذي سار على خطى سالفيه, مما سيجعلك -فيما يغلب ظني- على ان تتقبل بتلهف واشتياق مقاطع من قصيدته التي صدح بها سادة المقام العراقي المعاصرون ناظم الغزالي و محمد القبنجي.. ومن بعدهم المطرب المعروف سعدون جابر, وشاعرنا في هذه القصيدة ظمآن يروم ان يرتوي من المنهل العذب, ويتمتع بما يزهو به رشأه من الاعين الدعج, وما اضفى اليه من استعاراته المتتالية حتى الخد الاسيل, واما بعد,فلا اراك الا ان تسير بين توسل الدم المطلول والولهان المقتول للرضاب المعسول والطرف المكحول, ولم ينسَ السيد شكوى عليل لعليل, والتعلق بالانجيل على عادة العرب معدنه الاصيل, في وصفهم والعاشقين في تلهفهم ولهفهم يقدمها لك الشاعر بعقد لئالئ وجمان وبأعذب الالحان, اقرأ وترنم ياقارئي الجميل:
يا قامة الرشأ المهفهف ميلي            بظماي منك لموضع التقبيل ِ
فلقد زهوت بادعج ومزجج             ومفلج ومضرج واسيلِ 
رشأ اطل دمي وفي وجناته            وبشأنه اثر الدم المطلول
يا قاتلي باللحظ اول مرة              اجهز بثانية على المقتول
مثل فديتك بي ولو بك مثّـلوا         شمس الضحى لم ارش بالتمثيل
فالظلم منك عليّ غير مذمم           والصبر مني وردها المطلول
ولماك رّي العاشقين فهل جرى      ضرب بريقك ام ضريب شمول
يهنيك ياغنج اللحاظ تلفتي           ياخير آمالي واكرم سولي
لام العذار بعارضيك اعلني         ما خلت تلك اللام للتعليل
وبنون حاجبك الخفيفة مبتل         قلبي بهم في الغرام ثقيل
اتلو صحايف وجنتيك وانت        في سكر الصبا لم تدر بالانجيل
افهل نظمت لئالئاً من ادمعي        سمطين حول رضابك المعسول
ورأيت سحر تغزلي بك فاتنا        فجعلته في طرفك المكحول
اشكو الى عينيك من سقمي بها      شكوى عليل في الهوى لعليل
فعليك من ليل الصدود شباهة       لكنها في فرعك المسدول
وعلى قوامك من نحولي مسحة     لكنها في خصرك المهزول
ويلاه من بلوى الموشح انه        لخفيف طبع مبتل بثقيل
لا ينكر الخالون فرط صبابتي     فالداء لم يؤلم سوى المعلول
لي حاجة عند البخيل بنيله        ما اصعب الحاجات عند بخيل
واحبه وهو الملول ومن رأى     غيري يهيم جوى بحب ملول
اكذا الحبيب ابثه الشكوى التي    يرثي العدو لها ولا يرثي لي (35) 
هل تريد المزيد .. ام اكتفيت الى الرثاء الغزلي.. هنيئاً لك هذا الاكتفاء !..  
و عادةً يبدأ شاعرنا قصائده في التهنئة والمديح بنسيب رهيف وغزل رقيق, تذوب عنده النفوس, وتتراقص امامه الارواح, فتهفو اليه القلوب, وتطرب له الاذان, انها غاية الروعة لسعة الخيال الفني اذ تمتزج عطور القرون السالفة لأيام الف ليلة وليلة بمسك الاعوام الخالفة لبلدان الجن والملائكة.. يقدمها الى انظارنا الشاعر الكبير, ونقدم اليك قامة لرشأ مهفهف اخر اذ تسحب ابرادها في روضات الجنان وتحت انغام موجات اللحن الفتان, ونترك اليك الريح الشمالية والمعانقة العذرية والنجوم التي انكدرت والنمال التي حُسدت والصدور الموصولة الى الكعوب والمشي على القلوب  
بالغلس انسلّت الى حبيبها                   تخطو وعيناها الى رقيبها
ساحبة الابراد في مرابع                    ارجاؤها تضوعت بطيبها
مرت بها ريح الشمال فاغتدت             تحمل طيب المسك في جيوبها
فرشت احشاي لها لكنني                    خشيت ان تضجر من لهيبها
عانقتها كأن كفيّ التقت                     من قضب الجرعا على رطيبها
حشاشتان التقتا كلٌّ ترى                    ان ليس في الاخر كالذي بها (1) 
اذ النجوم انكدرت في نحرها               والبدر قد كوّر في جيوبها
وفوق طرس الصدر منها اسطر           مانظر القاري الى مكتوبها
مثل النمال سرّبت في دمية                 تسري لها والحسن في تسريبها
احسد هاتيك النمال انها                     الى الرضاب منتهى دبيبها
تسبل فوق ردفها ذوائباً                     يذوب قلب الصب من تقليبها
سود على أكفالها كأنها                      اساودٌ تسعى الى كثيبها
تحبها الناس ولكن ان مشت                 كأنها تمشي على قلوبها
فكم شكت عشاقها لها جوىً                 شكاية المرضى الى طبيبها
كالصعدة السمرا اذا ماخطرّت              موصولة الصدر الى كعوبها
كم كسرت اجفانها في غنجٍ                 فانكسرت لي عبرة ابكي بها
تنظر في دعج وارنو بالتي                 أخضلت الاردان في غروبها
وهبتها قلبي لافي عوضٍ                    ان رضيت فيه فمن نصيبها (36)
لك ان تهبَ قلبك .. ولها ان ترضى او تأبى .. الانسان هو الانسان .. رحم الله السالفين وانعم على الخالفين 
 
  
الهوامش:
32- الديوان\ السيد مصطفى جمال الدين ص81 الطبعة الثانية
33- المصدر نفسه ص83-84
34- راجع (الحوار المفتوح) العدد 849 بتاريخ 5-6-2010 مقال بقلم حامد كعيد الجبوري تحت عنوان (الغناء فسق وفجور..!!)
35- راجع ديوان الشاعر (سحر بابل ..) ص388-389
36- المصدر نفسه ص99-100

قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat


كريم مرزة الاسدي
 (للدخول لصفحة الكاتب إضغط هنا)

    طباعة   ||   أخبر صديقك عن الموضوع   ||   إضافة تعليق   ||   التاريخ : 2011/10/03



كتابة تعليق لموضوع : السيد جعفر الحلي .. الحلقة الثالثة نسيبه والصهباء.. وما اليه يذهبون
الإسم * :
بريدك الالكتروني :
نص التعليق * :
 



حمل تطبيق (كتابات في الميزان) من Google Play



اعلان هام من قبل موقع كتابات في الميزان

البحث :





الكتّاب :

الملفات :

مقالات مهمة :



 إنسانية الإمام السيستاني

 بعد إحراجهم بكشف عصيانها وخيانتهم للشعب: المرجعية الدينية العليا تـُحرج الحكومة بمخالفة كلام المعصومين.. والعاصفة تقترب!!!

 كلام موجه الى العقلاء من ابناء شعبي ( 1 )

 حقيقة الادعياء .. متمرجعون وسفراء

 قراءة في خطبة المرجعية : هل اقترب أَجلُ الحكومةِ الحالية؟!

 خطر البترية على بعض اتباع المرجعية قراءة في تاثيرات الادعياء على اتباع العلماء

 إلى دعاة المرجعية العربية العراقية ..مع كل الاحترام

 مهزلة بيان الصرخي حول سوريا

 قراءة في خطبة الجمعة ( 4 / رمضان/ 1437هـ الموافق 10/6/2016 )

 المؤسسة الدينية بين الواقع والافتراء : سلسلة مقالات للشيخ محمد مهدي الاصفي ردا على حسن الكشميري وكتابيه (جولة في دهاليز مظلمة) و(محنة الهروب من الواقع)

 الى الحميداوي ( لانتوقع منكم غير الفتنة )

 السيستاني .. رسالة مهدوية عاجلة

 من عطاء المرجعية العليا

 قراءة في فتوى الدفاع المقدس وتحصين فكر الأمة

 فتوى السيد السيستاني بالجهاد الكفائي وصداها في الصحافة العالمية

 ما هو رأي أستاذ فقهاء النجف وقم المشرّفتَين السيد الخوئي بمن غصب الخلافة ؟

 مواقف شديدة الحساسية/٢ "بانوراما" الحشد..

أحدث مقالات الكتّاب :





 لنشر مقالاتكم يمكنكم مراسلتنا على info@kitabat.info

تم تأسيس الموقع بتاريخ 1/4/2010 © محمد البغدادي 

 لا تتحمل الإدارة مسؤولية ما ينشر في الموقع من الناحيتين القانونية والأخلاقية.

  Designed , Hosted & Programmed By : King 4 Host . Net