صفحة الكاتب : د . رزاق مخور الغراوي

النظام المحاسبي الحكومي الإسلامي
د . رزاق مخور الغراوي

المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.

تمهيد:

  إن الإسلام دين سماوي خالد وهو خاتم الديانات السماوية وذلك يعني بالضرورة انه دين شامل لكل أنظمة الحياة الإنسانية وصالح لحل كل مشاكل الحياة الإنسانية في كل زمان ومكان، لذلك فان الأخذ بالإسلام أساسا للتنظيم العام يتيح لنا أن ننظم حياتنا كلها بجانبيها الروحي والاجتماعي معا دون فصل أو تعارض بينهما بل بانسجام وتناسق  وتوافق فالإسلام يضم بتشريعاته الخالدة كلا الجانبين.

  لذلك ومن اجل تحقيق تلك الأهداف ،فقد وضع الإسلام للمجتمع الإسلامي مجموعة من الأنظمة والخطوط العملية العامة والتفصيلية الثابتة والمتحركة من اجل المحافظة على الهوية الإسلامية للمجتمع المسلم و القيام بتلبية احتياجاته و أداء واجباته ومسؤولياته فضلا عن تحديد العلاقات الإنسانية المختلفة سواء أكانت علاقة الإنسان بخالقه أم علاقته بأخيه الإنسان أم علاقته بالطبيعة ،ومن ثم توجيه تلك العلاقات نحو طريق التكامل والسعادة الأخروية،فالإسلام قد وضع أنظمة تفصيلية لكل المجالات الحياتية المختلفة ،وبالطبع من ضمنها النظام المحاسبي. 

أ) مفهوم النظام المحاسبي الحكومي الإسلامي

   إن مفهوم النظام ليس بمصطلح جديد ،بل إن وجوده قديم جدا ،فقد أدرك الإنسان ومنذ وجوده على الأرض إنه يعيش ضمن نظام واسع كبير هو الكون وما يتضمنه من مجرات وكواكب ونجوم  لكل منها  حجمه وموقعه واتجاهه ووظيفته ،وان حياته وأيامه عبارة عن تعاقب لنظام الليل والنهار كما إن الإنسان نفسه يحتوي في داخله على مجموعة أنظمة ،تقوم كل منها بوظيفة أو عمل معين كالتنفس والهضم والنمو ..الخ،وقد أوضح القرآن الكريم  إن هذه الأنظمة مرتبطة مع بعضها البعض،يقول الله تعالى: "لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر ولا الليل سابق النهار وكل في فلك يسبحون"(يس، 40).و النظام بشكل عام عبارة عن "مجموعة من الأجزاء أو الأنظمة الفرعية التي تتداخل العلاقات بين بعضها وبينها وبين النظام الذي يضمها والتي يعتمد كل جزء منها على الآخر في تحقيق الأهداف التي يسعى إليها هذا النظام الكلي"(الحسون،1991: 19). 

  وقد عرفنا مفهوم المحاسبة وما تمثله من دور في الحياة الاقتصادية من خلال تأديتها لوظائف أساسية ومهمة لتطور وتقدم الاقتصاد في المجتمعات وهذه الوظائف تتمثل بتحديد المعاملات الاقتصادية والمالية وقياسها وعرض المعلومات وتوصيلها إلى الجهات المستفيدة منها ،والمحاسبة باعتبارها نظاماً للمعلومات عبارة عن مجموعة من النظم والطرق والإجراءات المحكومة بمبادئ وقواعد سليمة تتبع من أجل تشغيل البيانات عن العمليات المالية التي تحدث في المنشأة ،بهدف إنتاج معلومات مالية (مطر،2004: 23)،وعليه فالنظام المحاسبي يعرف على انه" مجموعة متناسقة ومتكاملة من الوسائل والإجراءات والأساليب  مصممة لغرض معالجة الأحداث والوقائع الاقتصادية التي تؤثر أو يفترض إنها ستؤثر على عمليات المنشاة أو مركزها المالي بطريقة ملائمة لطبيعة عمل المنشاة وبشكل اقتصادي يساهم في حماية موجودات المنظمة ووفقا للقواعد والمعايير المحاسبية القانونية والعرفية وتقديم المعلومات والتقارير المطلوبة إلى الإدارة والجهات الخارجية في التوقيتات المناسبة"(الحسون،1991: 42)،أما النظام المحاسبي الحكومي فهو عبارة عن مجموعة المستندات والسجلات والآلات الحاسبة وأجهزة المكننة المستخدمة في الوحدات الحكومية ،فضلا عن الطرق والإجراءات والتعليمات الخاصة بتنظيم وتسجيل العمليات المالية،وإعداد التقارير المالية التي تهدف إلى تقييم الأداء والتخطيط والرقابة على الأموال العامة وتنفيذ السياسات المالية الحكومية(الحجاوي،2004: 53).

  إن المحاسبة هي وليدة بيئتها والنظام المحاسبي في مجتمع أو دولة ما يتأثر بصورة ملموسة بمجموعة من العوامل البيئية كالإطار العام التشريعي والسياسي وطبيعة الملكية في الاقتصاد ونوعيتها وحجم ودرجة تعقيد الأعمال ومستوى التدخل التشريعي في التجارة والأعمال ومدى وجود هيئات تشريعية محاسبية...الخ [1](Sulaiman:2004) .                                                                           

  التعريف السابق يبين إن النظام المحاسبي تتحكم به مجموعة من العوامل وتأثر في بناء هيكله العام ،واهم هذه العوامل الأهداف المطلوب تحقيقها من النظام وطبيعة البيئة أو المجتمع الذي يعمل به،والأفكار والمعتقدات والأعراف المتبعة في ذلك المجتمع،فضلا عن المبادئ والأسس والمعايير المحاسبية ،ومن ثم فان النظام المحاسبي سيتكيف ويتشكل وفق هذه العوامل المتعددة.

وبالنتيجة فان النظام المحاسبي الإسلامي هو نتيجة لتفاعل العوامل السابقة ولكن تحديدا في بيئة المجتمع الإسلامي وفي ظل تعاليم الشريعة الإسلامية المقدسة،وقد ظهرت عدة تعريفات لمعنى المحاسبة الإسلامية ،فالبعض يعرفها على إنها "العلم الذي يبحث في محاسبة الحقوق والالتزامات في ضوء الشريعة الإسلامية بما تحويه من قواعد في العبادات والمعاملات"(طرابزوني،1984: 112)،والبعض الآخر يرى أنها "محاسبة النفس أولا تجاه الله والمسؤولية الذاتية للتصرف تجاه مواقف معينة طبقا للأعراف والقيم الخلقية الإسلامية IBRAHIM:2002)[2]) ،  والأخير يصفها في موضع آخر بأنها عبارة عن" عملية محاسبية توفر معلومات ملائمة (  ليس بالضرورة أن تكون محددة بمعلومات مالية ) إلى ذوي العلاقة بالمنشاة   ،  بحيث تمكنهم هذه المعلومات من التأكد إن الوحدة تعمل باستمرار في حدود الشريعة الإسلامية وتحقيقا للأهداف الاجتما-اقتصادية الإسلامية [3](IBRAHIM:2004)، أما مطر(2004: 468) فيعرفها على أنها:"مجموعة المفاهيم والمبادئ والأساليب المحاسبية التي تهدف إلى تكييف النظام المحاسبي ،بالشكل المتعارف عليه ليصبح مناسبا لمعالجة المعاملات المالية في المنشآت التي تمارس أنشطتها وفقا لأحكام الشريعة الإسلامية".

  وبما إن المحاسبة وليدة بيئتها ،فهي إذن تعبر عن قاعدة من الأفكار والفلسفة والمفاهيم المذهبية للبيئة عموما والاقتصاد خصوصا الذي تعمل فيه ،ومن ثم تتكيف وتتشكل أهدافها ونظمها وفق هذه القاعدة المذهبية،فالمحاسبة الغربية (التقليدية) التي تعمل في ظل الاقتصاد الليبرالي الحر والذي تقوم فلسفته ومعتقداته –كما أسلفنا- على تقديس مبدأ الملكية الخاصة (الفردية)بدافع أساس هو تجميع الثروة وتضخيم الأرباح الفردية إلى أقصى حد ممكن وباستخدام كافة الوسائل،فان هذه المحاسبة تتبع هذه الفلسفة وتحقق أغراضها وتعمل وفقها ،لذلك فالمحاسبة الغربية عبارة عن مجموعة أنشطة تقوم بتحديد وقياس وتوصيل المعلومات عن الوحدات الاقتصادية والاجتماعية إلى عدة فئات تستخدم هذه المعلومات لغرض اتخاذ القرارات الاقتصادية العقلانية التي تؤدي إلى الاستغلال الأمثل للموارد النادرة-حسب اعتقاد النظام الرأسمالي-ومن ثم تحقيق أعلى أرباح ممكنة، والمحاسبة الاشتراكية التي تعمل في ظل الاقتصاد المخطط مركزيا فهي أداة لتحقيق أهداف هذا النظام ومن ثم فهي تقوم بتحديد وتسجيل المعلومات عن الوحدات الاقتصادية لغرض اتخاذ قرارات حول جدولة الإنتاج وتحديد المنفعة المتوقعة من المعدات والقوى العاملة ومن ثم تعظيم الإنتاج إلى أعلى حد ممكن.

  وهذا نفسه يكون بالنسبة للمحاسبة الإسلامية، التي تعمل وفق المذهب الاقتصادي الإسلامي وتتكيف تبعا لمبادئه و أسسه وقواعده ومعاييره المذهبية،وهذا الاقتصاد الذي يتميز عن غيره من النظم الاقتصادية الوضعية بأنه نظام سماوي عبادي قبل كل شيء يهدف إلى تحقيق العدالة الاجتماعية الإسلامية،وقد تقدم إن العدالة الاجتماعية تتحقق بالتوزيع الأمثل للثروة وانتشارها وتداولها في المجتمع الإسلامي وعدم تراكمها أو احتكارها من قبل فئة دون أخرى،"لكيلا تكون دولة بين الأغنياء" والمحاسبة الإسلامية هي أحد أدوات الاقتصاد الإسلامي لتحقيق هذا الهدف السامي.

   فالمحاسبة الإسلامية ليست مجرد نظام لتسجيل الأموال وقياسها وتقييمها ..الخ و إنما هي قبل ذلك نظام يعمل على أداء عبادات وفرائض مالية معينة يكلف بها الفرد المسلم كالزكاة والخمس واللذان كما أسلفنا من أهم المصادر المالية للدولة الإسلامية ولهما دور كبير أساس في إعادة توزيع الثروة وتحقيق العدالة الاجتماعية في المجتمع الإسلامي.

  وتعتبر المحاسبة من المهن التي يجب شرعا توافرها والاهتمام بها باعتبارها من فروض الكفاية ،فهي فضلا عن تعريفها الفني- وسيلة لتحقيق واجب شرعي وهو إثبات وقياس وتوزيع الحقوق بين أصحابها بالعدل( جمعة، 2000: 377).أما فيما يتعلق بتشكيل النظام المحاسبي في الدولة والإشراف عليه ومتابعته فإن الشيخ الفياض يعتبر هذا الأمر شرعا من وظيفة ومسؤولية السلطة الحاكمة -الحكومة الشرعية[4].

   إذن فالمحاسبة الإسلامية هي مجموعة أنشطة تعمل على تحديد وقياس وتوصيل معلومات متنوعة عن المسئولين في الوحدات الاقتصادية - "كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته" – توضح مدى التزامهم وكفاءتهم باستخدام الموارد المالية في حدود الشريعة الإسلامية وتوصيلها إلى جميع أفراد المجتمع الإسلامي لغرض تحقيق العدالة الاجتماعية الإسلامية.

  وعلى أساس ذلك يمكن القول إن المحاسبة الحكومية الإسلامية هي مجموعة أنشطة تقوم بها الدوائر الحكومية المختصة بتحديد وقياس وتنظيم جباية الأموال من مصادرها المعينة ،وضمان صرفها في المواضع المخصصة لها وفق مفاهيم ومبادئ وأسس وقواعد ومعايير الشريعة الإسلامية لغرض تحقيق العدالة الاجتماعية والتوازن بين طبقات الأمة والحفاظ على حقوقها في المجتمع الإسلامي.

    ويظهر من ذلك أن  النظام المحاسبي الإسلامي يتميز بعدة خصائص أهمها[5]:ـ

•   إن نظام المحاسبة لا يمكن أن يكون نظاما ثابتا مستقرا وغير متحرك طول التاريخ بل هو نظام متحرك ومتغير بتغير الزمان ومتطور بتطور الحكومة عصرا بعد عصر قرنا بعد آخر .

•   إن نظام المحاسبة لا يختص بالأنشطة الاقتصادية فحسب بل يشمل كافة أنشطة الدولة بتمام مكوناتها وشرائحها وأعضائها على أساس أن السلطة الحاكمة في الحكومة الشرعية مأمورة بتطبيق نظام المحاسبة بشكل مدروس ودقيق على كافة أعضاء الحكومة وشرائحها ومكوناتها ومشروعاتها العامة والخاصة، باعتبار أن الهدف الأصلي من وراء الحكومة الشرعية تحقيق الأهداف الإسلامية النبيلة وهي العدالة الاجتماعية والمحافظة على التوازن والاعتدال بين طبقات الأمة والأمن والاستقرار ، ولا يمكن تحقيق هذا الهدف والوصول إليه إلا بتطبيق نظام المحاسبة على جميع شرايين الحكومة بشكل دقيق وموضوعي.

•   إن نظام المحاسبة في الإسلام يختلف عن نظام المحاسبة الوضعية في نقطة واحدة جوهرية وهي إن نظام المحاسبة في الإسلام محدود بالحدود المسموح بها شرعا ولهذا لا يمكن تطبيق هذا النظام على الأنشطة الاقتصادية المحظورة شرعا كإنشاء مصنع للخمر مثلا والأنشطة الربوية ونحوها بينما لا يكون نظام المحاسبة الوضعية محدودا بالحدود المذكورة.

وحيث أن نظام المحاسبة في الإسلام يتطور وقتا بعد وقت وعصرا بعد عصر فمن الطبيعي خضوعه للدراسة الأكاديمية.

ب) أهداف النظام المحاسبي الحكومي الإسلامي

 إن كل نظام فرعي له أهدافه الخاصة التي تصب في النهاية لخدمة النظام الكلي ،وكذلك بالنسبة لأهداف النظام المحاسبي الحكومي الإسلامي  التي لا تخرج عن الإطار العام لأهداف المذهب الاقتصادي الإسلامي ،ويمكن أن نلاحظ ذلك في كل النظم التي يطرحها الإسلام فنرى إنها جميعا تكون مقدمة ضمن تخطيط جامع لمجمل الحياة ،ولذا نجدها مترابطة ترابطا وثيقا بحيث لا يمكن لأي منها تحقيق غرضه المنشود دون تطبيق النظم الأخرى(تسخيري، 2003: 156).

  وبما إن النظام الاقتصادي الإسلامي يسعى إلى تحقيق عدة أهداف أهمها تحقيق العدالة الاجتماعية ،لذلك فان النظام المحاسبي الحكومي الإسلامي قد صمم ووجه لتحقيق عناصر التكافل والتوازن والملكية المزدوجة ،مؤكدا على عنصر العمل و مانعا الربا واكل المال بالباطل والحرام واللهو و إهدار الثروة ، وهو قبل ذلك نظام عبادي ،حيث تتقارن الصلاة والزكاة في مواضع كثيرة من القران الكريم إضافةً إلى الأحاديث النبوية المطهرة،فالزكاة والخمس ليست مجرد ضرائب مالية تفرض على الفرد المكلف ،و إنما هما عبادتان ماليتان كما إن الصدقات والوقف و الكفارات المالية التي هي عبادات مستحبة –وقد تكون واجبة أحيانا- إنما في الواقع تحقق موارد مالية ضخمة و تساهم مساهمة اقتصادية كبيرة في تحسين الأوضاع الاقتصادية و الاجتماعية للمجتمع الإسلامي ،ومن ثم فان النظام المحاسبي الحكومي الإسلامي عموما يهتم  بمجال ضبط إيرادات الخزينة العامة للدولة ونفقاتها(بيت المال) والرقابة عليها،بشكل يضمن تحقيق الأهداف السابقة المشار إليها،وعلى أساس ذلك تكون أهم أهداف النظام المحاسبي الحكومي الإسلامي :-

1.     تنظيم عملية جباية الأموال الداخلة إلى بيت المال(خزينة الدولة الوطنية)وتصنيفها. 

2.  حصر ما يستحق على الأفراد المكلفين للدولة من أنواع الأموال التي تتعلق بها العبادات المالية كالزكاة والخمس واحتسابها وتقديرها بصورة صحيحة.

3.  تحديد نوعية الملكية للأموال الموجودة في الخزينة الوطنية وموارد تحصيلها ،كأن تكون أموال تتعلق بها الملكية العامة أو تتعلق بها ملكية الدولة ، وما يترتب على ذلك من استحقاقات والتزامات.

4.  تحديد الفترات الزمنية التي يتم على أساسها جباية كل نوع من أنواع الأموال المختلفة الواردة إلى بيت المال ،وتحديد معدلات تقدير وتقييم هذه الأموال وأساليب تحصيلها وجمعها ،ومواضع صرفها.

5.     قياس المصروفات وتوفير المعلومات حول أساليب ومواضع صرف الأموال.

6.  تحقيق مفهوم إمكانية المحاسبة الاجتماعية أو ما يمكن تسميته بالمساءلة المحاسبية التي تبدأ من الرقابة الذاتية للنفس والشعور بالمسؤولية تجاه الله أولا ثم تجاه الناس.

7.  المراقبة المستمرة لإيرادات بيت المال ونفقاته وضبطها والتصرف بها وفقا للشريعة الإسلامية،وكذلك محاسبة القائمين على أمور هذه الأموال.

8.  توفير الإفصاح الكامل لجميع أنشطة الوحدات الحكومية التي لابد أن تتم وفق الشريعة الإسلامية ،بمعنى إن الأهداف السابقة تتعلق جميعها بقياس الأنشطة المشروعة من وجهة النظر الإسلامية،ومن ثم فان الأنشطة المحرمة (غير المشروعة) إسلاميا كاحتساب الفوائد على القروض(الربا) والإضرار بالبيئة والمجتمع لابد من الكشف عنها لغرض استبعادها وإلغائها.

ج)مقومات وعناصر النظام المحاسبي الحكومي الإسلامي

  يتكون النظام المحاسبي الحكومي الإسلامي –كغيره من النظم- من عناصر أساسية لوجوده وتنظيمه ،ويعتمد على مجموعة من المرتكزات الأساسية التي تضمن له القدرة على تحقيق الأهداف المطلوبة منه ،وتتميز هذه العناصر والمقومات (المرتكزات) بالطابع الإسلامي في كل خصائصها ومفرداتها ،وذلك يثبت- كما سنرى إن شاء الله- إن اغلب المقومات والعناصر التي يتكون منها النظام المحاسبي عموما والنظام المحاسبي الحكومي خصوصا والمعمول بها في وقتنا الحاضر تعود أصولها وجذورها إلى النظام الإسلامي،الذي أرسى الخطوط العامة والتفصيلية لكل أنظمة الحياة البشرية وذلك قبل أكثر من ألف وأربعمائة سنة مضت ،ويمكن توضيح أهم عناصر ومقومات النظام المحاسبي الحكومي الإسلامي كما يأتي:-

1) المعايير والقواعد

تشكل هذه المجموعة الإطار الفلسفي العام للنظام المحاسبي ومصدر الأحكام فيه وهي التي تحدد مساراته وتوجه أعماله وتحكم إجراءاته(الحسون، 1991 :47)  ،وذلك بدءا من عملية التسجيل مرورا بالتصنيف والتلخيص والتحليل وانتهاءً بتوصيل المعلومات وعرضها.

  وفيما يتعلق بالنظام المحاسبي الحكومي خصوصا ،فان للتشريع وقوانين الدولة دور كبير في صياغة ووضع  قواعد ومعايير وإجراءات المحاسبة الحكومية، حيث إن دستور الدولة والقوانين الصادرة على مستوى رئيس الدولة هي التي تنظم تلك المعايير والقواعد والإجراءات ،وذلك لأهمية الوظيفة التي تقوم بها المحاسبة الحكومية في مجال حفظ وصيانة الأموال العامة وتنميتها وتحقيق الأهداف العليا للدولة .

  ويعتمد النظام المحاسبي الحكومي الإسلامي في عمله على مجموعة من المعايير والقواعد التي يكون مصدرها الشريعة الإسلامية المقدسة، ويتميز النظام المحاسبي الحكومي الإسلامي-الذي يمثل جزءا من النظام الاقتصادي الإسلامي-عن غيره من النظم المحاسبية الوضعية بأنه يحتوي على مجموعتين من المعايير المحاسبية ،الأولى: معايير تتعلق بتطبيق أحكام ثابتة في الشريعة لا تتغير ولا تتبدل، مثل أداء الزكاة والخمس،حيث إن هاتين الضريبتين هما في الأساس عبادتين ماليتين قد حددتا في القران الكريم والسنة النبوية المطهرة، من حيث وجوبها ،وموارد تحصيلها،ومستحقيها(مواضع صرفها)،وهنالك معايير محاسبية ثابتة تتعلق بمنع الربا أو السيطرة على الأرض بدون إحياء وغيرها ، والمجموعة الثانية تتعلق بتطبيق أحكام متغيرة تدور في مجال منطقة الفراغ في الاقتصاد الإسلامي وهي تعبر عن استيعاب التغير والتطور في الظروف والملابسات المحيطة بعمل المحاسبة،كما تبين أيضا قدرة الشريعة على مواكبة العصور المختلفة،وهذه المعايير قد تُرك أمر تحديدها إلى إشراف ولي الأمر(الحاكم الشرعي) وتدخله لحماية المصالح العامة للدولة وهي موكولة إلى اجتهاده ،أما مصدر الأحكام والقواعد الشرعية لهذه المعايير في النظام الإسلامي ، فهو لا يستند إلى لجان خاصة من رجال القانون والمهنة كما هو الحال في كثير من الدول السائدة في هذه العصور ،فالحكومات قد عهدت إليها أن تضع الأحكام وتشرع الأنظمة والقوانين التي قد تكون متفقة مع سياستها ورغبات حكامها ، وهذه الكيفية لا يقرها الإسلام ، فإن الحكم عنده بيد الله تعالى ويجب أن يقتبس من ينابيعه الخاصة ،وليس لأي أحد الحق في التشريع وسن القوانين ،وعلى ضوء ما سنه الإسلام وشرعه يجب أن تستند الدولة وتعالج مشاكل رعاياها وفي جميع مرافقها (القرشي، 1966: 168)،  أما مصادر التشريع الإسلامي فهي :

الكتاب العزيز:

  والمراد بالكتاب هنا هو كتاب الله عز وجل الذي أنزله على نبيه محمد صلى الله عليه وآله وسلم ألفاظا ومعاني وأسلوبا،واعتبره قرآن دون أن يكون للنبي(ص) دخل في انتقاء ألفاظه أو صياغته، فليس منه ما أنزله الله تعالى على نبيه من الأحكام وأداها بأسلوبه الخاص، كما ليس منه ما ثبت من الحديث القدسي،وهو ما أثر نزوله على النبي(ص) ولم يثبت نظمه من قبله في سلك القرآن ،وكذلك ما نزل من الكتب السماوية على الأنبياء السابقين كالتوراة والإنجيل و الزبور ، لعد اعتبارها قرآن،وتفسير القرآن وترجمته ليسا من القرآن في شيء، فلا تجري عليهما أحكام القرآن خاصة( الحكيم ،2001 : 93).

  يمثل القرآن الكريم أول مدرك للأحكام الإسلامية ،وأغدقها فيضا " الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه" ، فهو المصدر الأول لكل ينبوع تشريعي(القرشي، 1966: 169)،والقرآن هو خصوص ما بين الدفتين دون أن يزاد فيه حرف أو ينقص، ولقد أحصيت آياته فبلغت (ستة آلاف وثلاثمائة وأربعين آية، منها خمسمائة آية فقط تتعلق بالأحكام (الحكيم، 2001: 94)،وقد انتظمت هذه الآيات في سور بلغ مجموعها مائة وأربع عشرة سورة ،أولها الحمد(الفاتحة) وآخرها (الناس).

السُنة :

  و تمثل السنة المدرك الثاني لمطلق الأحكام الإسلامية ،فمنها تستنبط الأحكام الشرعية وتؤخذ معالم الشريعة ،ويعرف بها الناسخ من المنسوخ،و السنة – لغة- تعني السيرة والطريقة المعتادة سواء كانت حسنة أو سيئة كما في الحديث الصحيح :" من سن سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة ، ومن سن سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة الحكيم ،2001  : 115) .

أما المصطلح الفقهي للسنة فهي تطلق في ما يقابل البدعة ،ويراد بها كل حكم يستند إلى أصول الشريعة في مقابل البدعة فإنها تطلق على ما خالف أصول الشريعة ولم يوافق السنة،والمصطلح الفقهي المتفق عليه عند عامة المسلمين للجمهور، فهي ما صدر عن النبي (ص)من قول أو فعل أو تقرير (القرشي، 1966: 172)،أما المدرسة الامامية فيعرفون السنة هو ما صدر عن المعصوم من قول أو فعل أو تقرير،ويمكن توضيح ذلك كالآتي:

قول النبي(ص[6]):

  أقوال النبي(ص) هي أحاديثه التي قالها في مختلف الأغراض والمناسبات، يقول الغزالي:" وقول رسول الله (ص) حجة لدلالة المعجزة على صدقه ،ولأمر الله تعالى إيانا بإتباعه ولأنه " لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى" (النجم،3-4 )، ولكن بعض ما يتلى فيسمى كتابا وبعضه لا يتلى وهو السنة.

أفعاله:

وأفعال النبي (ص) حجة كأقواله ، وهي على ثلاثة أنواع :

1.  أفعاله الجبلية التي يشترك بها مع سائر الناس كالأكل والشرب والنوم ونحو ذلك ،وهذه لا إشكال في إباحتها اتفاقا.

2.  أعماله العبادية وهي التي تحتاج إلى نية القربة ولا تصح بغيرها كالصلاة والصوم والحج وغيرها من سائر الأعمال القربية التي لم ترد فيها إلا آيات مجملة ولا شك في أن أعماله (ص) كأقواله توضح مجملات الكتاب.

3.  تقريره: وتقرير النبي(ص) حجة كأقواله وأفعاله والمراد به أن يرى فعلا ما يرتكبه المسلمون فلم ينكره وهو دليل على إباحته إذ لو كان غير مشروع للزم عليه بيانه وإيضاحه، وتتحقق السنة بإجماع المسلمين بإحدى هذه الأمور الثلاثة. 

   واتفق المسلمون على أن سنة رسول الله (ص) بأقسامها حجة في شؤون الدين ،وأنها من أدلة الأحكام التي يجب الرجوع إليها وقد دل على حجيتها كتاب الله تعالى:" وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا"(الحشر،7) ،وقال تعالى:" وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون الخيرة من أمرهم" (الأحزاب، 36)،وقال تعالى :" أطيعوا الله وأطيعوا الرسول" (النساء، 58)،وهذه الآيات تدل بوضوح على حجية السنة وأنها أصل من أصول التشريع،وقد انعقد إجماع المسلمين على ذلك.

الإجماع:

وهو ثالث الأدلة التي يقتبس منها الحكم الإسلامي ،والإجماع في اللغة هو الاتفاق ،أما الإجماع في الفقه فيعني كما عرفه الشيخ المفيد في كتابه تهذيب الوسائل بأنه عبارة عن "اتفاق أهل الحل والعقد من أمة محمد (ص) "، كما قيل إنه عبارة عن اتفاق المجتهدين من هذه الأمة في عصر على حكم شرعي(القرشي، 1966: 186)،واتفق المشهور على حجية الإجماع ،وانه من الأدلة الشرعية التي يستنبط منها الحكم الشرعي،وقد ذكر علماء الأصول أنواعا للإجماع هي:

1.     الإجماع المحصل، أي أن يستقري المجتهد أقوال المعاصرين له بلا واسطة في النقل حسب ما جاء في حجيته ، ولا إشكال في حجيته على تقدير حصوله.

2.  الإجماع المنقول، وهو على نحوين، الأول: أن يكون منقولا بخبر الواحد وهو من الأدلة الظنية ،وقد ألحق بخبر الواحد لأنه من مصاديقه،والثاني: المنقول بالخبر المتواتر(الإجماع المتواتر) ،وهو من الأدلة القطعية شأنه شأن الخبر المتواتر في إفادة العلم والحجية.

دليل العقل:

ويعتبر حكم دليل العقل وسائر إدراكا ته من الحجج الشرعية التي لها دخل في استنباط الأحكام ،و دليل العقل كما عرفه القمي " هو حكم عقلي يتوصل به إلى الحكم الشرعي، وينتقل من العلم بالحكم العقلي إلى العلم بالحكم الشرعي"، ويعني ذلك إن ما يدركه العقل وما يستقل به كوجوب قضاء الدين ورد الوديعة وحرمة الظلم وأمثال ذلك من أحكامه الاستقلالية يتوصل به إلى الحكم الشرعي مباشرة، كما يكون القطع به قطعا بالحكم الشرعي(القرشي، 1966: 191).

  إن القران الكريم والسنة المطهرة يتضمنان الكثير من الأحكام الشرعية المتعلقة بالمعايير والقواعد التي تنظم عمل المحاسبة الحكومية، وبالأخص فيما يتعلق بالإيرادات المالية للدولة من حيث  توضيح طرق تحديد الإيرادات وجبايتها وتوزيعها وصرفها في المواضع المخصصة لها ،ويلاحظ إن تطبيق بعض هذه القواعد والمعايير يكون بأسس إجبارية (إلزامية) ، مثلا فرض الزكاة ووجوب أدائها وتحصيلها ،أو تكون اختيارية كالصدقات التطوعية .

وفضلا عن القران الكريم والأحاديث النبوية الشريفة ،فان الإجماع والدليل العقلي- المصدران الثالث والرابع للتشريع الإسلامي- يوفران ويقدمان مجموعة أخرى من المعايير والقواعد المحاسبية الإسلامية المستجدة والمستحدثة على الساحة،فالاجتهاد وكما تقدم يمثل أحد عناصر المرونة والتي لا يمكن الاستغناء عنه في النظام الإسلامي لمعرفة اثر التطورات والتغيرات الزمانية والمكانية على نوعية الحكم المستنبط من النصوص الشرعية لجميع مجالات الحياة والتي من ضمنها موضوع بحثنا الحالي ،وفي هذا الصدد يقول الشيخ الفياض:" إن الحركة الاجتهادية التي هي ذات طابع إسلامي على طول التاريخ تفتح الآفاق الذهنية وتحمل مشعل الكتاب والسنة في كل عصر ،ولولا هذه الحركة الفكرية الاجتهادية في الإسلام التي تطورت وتعمقت عصرا بعد عصر بتطور الحياة العامة واتساعها وتعمقها في مختلف مجالاتها الاجتماعية والفردية والمادية والمعنوية لم تتبلور أصالة المسلمين في التفكير والتشريع المتميز المستمد من الكتاب والسنة على طول الخط ولولا استمرار هذه الحركة الاجتهادية لظلت المشاكل الحياتية المتجددة في كل عصر بدون حل حاسم"[7].

   فمبدأ الإشراف وتدخل ولي الأمر المجتهد العادل(الحاكم الشرعي) في الحياة الاقتصادية وما يتشعب منها هو مصدر أساسي ومهم للمعايير والقواعد المحاسبية الإسلامية المستجدة والمستحدثة ،وقد ذكرنا سابقا أهم الوظائف التي يقوم بها ولي الأمر(الحاكم الشرعي) في هذا المجال والتي منها اختيار أفضل السبل والإجراءات والمعايير لتطبيق أحكام الله الثابتة، مثل دراسة أفضل السبل لمنع الربا من المجتمع مع الأخذ بنظر الاعتبار عدم الإضرار بالأنشطة الإيجابية للمصارف،كذلك من وظائفه إصدار القوانين التي تحقق المصلحة الإسلامية العليا مع الاحتفاظ  قدر الإمكان بالأحكام الأولية للموارد المتنوعة ،وتوفير أفضل الحلول والإجراءات التي تهيئ الانسجام بين تطبيق الأحكام والقوانين الإسلامية والظروف المستجدة والتطورات الحاصلة في المجتمع.

  ويلاحظ انه من خلال الاجتهاد و آراء المجتهدين الأعلام ،فان التشريع الإسلامي قد اخذ بنظر الاعتبار اثر العوامل البيئية المختلفة والتغيرات التي تطرأ عليها ،والتي هي بالمقابل تؤثر على عمل المحاسبة الحكومية،ومثال على ذلك العرف السائد ، فقد ربط الإسلام بعض المعايير والقواعد الاقتصادية والتي منها المعايير المحاسبة ببعض المفاهيم العرفية السائدة مثل مفهوم (عدم الإسراف والتبذير) و(لا ضرر ولا ضرار) و  ( الفقر والغنى) ونحوها فهي كلها مفاهيم تخضع للعرف والظرف المعيشي السائد في زمان ومكان ما، ومن ثم فان المعايير المحاسبية المرتبطة بها ستخضع لذلك أيضا.

ولابد من القول إن المعايير المحاسبية الحكومية الإسلامية هي معايير ذات طبيعة سماوية وان التزام الفرد المكلف (المعني) بها يعني حصوله على مكافئة الله بالثواب الأخروي ،أما مخالفته لها فيعني ذلك العقوبة الأخروية ،نستعيذ بالله منها.

2) المجموعة المستندية

  تمثل المستندات المصدر الرئيس للقيد في الدفاتر وهي دليل الإثبات على صحة القيد، فعبر وجود المستندات تتم عملية تحويل البيانات (المدخلات) الواردة على النظام المحاسبي إلى لغة النظام ،وهي بذلك تعتبر بوابة النظام المحاسبي(الحسون، 1991: 51)،وتستمر مهمة المستندات بتتبع المعاملات والعمليات خلال عمل النظام من تحليل وتصنيف للمعلومات ولغاية الحصول على الخدمة أو السلعة .وتتطلب العمليات المحاسبية المختلفة في النظام وجود أنواع عدة من المستندات ،فهناك مستندات خارجية (واردة من الخارج) و داخلية (واردة من الداخل)، ومستندات أساسية للقيد الأصلي ويقيد منها مباشرة في دفاتر اليومية ، ومستندات غير أساسية ترفق مع المستندات الأصلية لتعزيز العمليات الواردة بها ، كما تتعدد أنواع المستندات باختلاف تصميمها والهدف منها(طرابزوني، 1994: 18).

   وللمستندات مكانة هامة في الإسلام باعتبارها دليلا ثبوتيا لما يمكن أن يجري بين طرفين وخاصة دورها في حفظ الأموال عن الضياع والاهتمام بحقوق الناس، وقد ربط الله سبحانه وتعالى هذا الأمر بالتقوى فبين سبحانه إن العمل الصحيح في حفظ الأموال وحقوق الناس يكون من خلال التقوى، وقد وردت نصوص كثيرة توضح وتبين كيفية توثيق الحقوق وخاصة الحقوق المالية وكتابتها وشروطها ،وجاءت الآية 282 من سورة البقرة بأروع بيان وابلغ تفصيل حول هذا الأمر وقد ورد في تفسير القرطبي إن هذه الآية تتناول جميع المداينات فقد تضمنت أكثر من عشرين حكما ، وقد استدل بها بعض العلماء على جواز التأجيل في القروض على ما قال مالك ، كما قال الشافعية إن فيها الأمر بالإشهاد إذا كان دينا مؤجلا (القرطبي،ج ,سورة البقرة:الآية282 3)، وقد ذكر السبزواري (قده) في تفسيره "إن هذه الآية الشريفة قد احتوت -وحدها- على ما يقارب من عشرين حكما  حول أصول المعاملات والمعاوضات كالبيع والدين والرهن ونحوها ،وهي قواعد نظامية ثابتة في فطرة العقلاء قررها سيد الأنبياء (ص) بوحي من السماء ،وبمراعاتها تحفظ المال عن الضياع ويرفع التنازع والاختلاف بين أفراد الإنسان ويصل كل ذي حقٍ إلى حقه والعمل بها يوصل الناس إلى أغراضهم ويحتفظون على مالية أموالهم ،وأكد سبحانه وتعالى على كثرة الاعتناء والاهتمام بحقوق الناس وبين عز وجل إن العمل طريق التقوى بل هي والعمل الصحيح متلازمان ، فالتقوى من موجبات رحمة الله تعالى بالعبد وإنها بمنزلة روح العمل"( السبزواري،1404هـ ,سورة البقرة:الآية282) ،يقول الله تعالى في هذه الآية المباركة"يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين إلى اجل مسمى فاكتبوه وليكتب بينكم كاتب بالعدل ولا يأب كاتب أن يكتب كما علمه الله فليكتب وليملل الذي عليه الحق وليتق الله ربه ولا يبخس منه شيئا .....ولا تسئموا أن تكتبوه صغيرا أو كبيرا إلى اجله ذلكم اقسط عند الله و أقوم للشهادة و أدنى ألا ترتابوا ..." ،ويستفاد من هذه الآية الشريفة عدة أمور(السبزواري،1404هـ،سورة البقرة:الآية282 ):

  الأول:تدل الآية على أهمية حقوق الناس ووجوب مراعاتها والتحفظ عليها ،وقد ذكر سبحانه ثلاثة أمور لازمة لتثبيتها هي الكتابة والشهادة والرهن.

  الثاني: ذكر سبحانه وتعالى قواعد نظامية لا تختص بعصر دون آخر ولا ملة دون أخرى فهي صالحة في جميع الأعصار والشعوب ،يحفظ بها الأموال عن الضياع ويسلم الإنسان عن التشاجر والتنازع ويرتضيها العقل السليم ويوافق عليها الطبع المستقيم ،وقد نبه إليها القران الكريم قبل أن يصل الإنسان إلى المدنية الحاضرة ويقنن قوانين لتنظيم المعاملات وحفظ الأموال وتحسين النظام الاجتماعي الاقتصادي.

 الثالث: أمر سبحانه وتعالى في الآيات المباركة –فضلا عن ما ورد من لزوم التحفظ على أموال الناس – تنزيه النفس في ما بينها وبين الله تعالى عن الخيانة في الأمانة ،وهي التقوى التي حرض القران عليها بأساليب مختلفة.

  وقد حذر رسول الله (ص) من التهاون في مسالة توثيق الحقوق و إثباتها بقوله:"أصناف لا يستجاب لهم منهم ،من أدان رجلا دينا إلى اجل فلم يكتب عليه كتابا ولم يشهد عليه شهودا"، وعن أبي عبد الله الصادق(ع) انه قال:" من الله على الناس برهم وفاجرهم بالكتاب والحساب ولولا ذلك لتغالطوا"(وسائل الشيعة،ج17: 404)، كما روي عن أمير المؤمنين علي(ع) انه كتب إلى عماله "ادقوا أقلامكم واقصدوا قصد المعاني وإياكم والإكثار فان أموال المسلمين لا تحتمل الإضرار"( وسائل الشيعة،ج17: 404).

  والكتابة هي الفرض والثبوت أي الكتابة التحريرية ،والكتاب في الأصل يطلق على المكتوب ،وقد أمر الله سبحانه وتعالى بكتابة الحقوق المالية بطرفيها(المدين والدائن) كالدين والبيع ونحوها،دفعا للضرر وحفظا للحقوق كما بين الله تعالى كيفية الكتابة وشروطها ومن يتولاها،فبين سبحانه انه يشترط في الكاتب أمران ،الأول: العدالة وهي بمعنى الاستقامة والاستواء في الدين للدين،والثاني: العلم بالأحكام "و لا يأب كاتب أن يكتب كما علمه " أي العلم بالأحكام وشؤون المعاملة وما يعتبر فيها لتخلو الكتابة عن الوهم والتقصير لأنها حجة معتبرة ،وهي سند بينهما لحفظ حقوقهما ،وهنا تشديد وتأكيد على تثبيت الدين وان صنعة الكتابة من الواجبات الكفائية التي يتقوم نظام العالم بها.

  وقد استخدم النظام المحاسبي في الدولة الإسلامية نوعين رئيسين من المستندات هما (يحيى،2004: 132):

1.  مستند داخلي ،يستخدم للأغراض الداخلية أطلق عليه مصطلح "الشاهد"ويتم تحريره من قبل كاتب الحسابات وهو يتعلق بالإيرادات المحصلة من الغير ،وهذا المستند صمم بحيث يحتوي على بيانات أساسية مثل تاريخ ومكان الإصدار،المبلغ ،شاهد المعاملة ،التوقيع أسباب الدفع ،وهو يتكون من عدة نسخ ، وبعد المصادقة على الشاهد من قبل رئيس الديوان أو الوزير أو نائبه يتم استخدامه أساساً للقيد في الدفاتر.

2.  مستند خارجي ، يستخدم للأغراض الخارجية أطلق عليه "البراءة" ويتم تحريره من قبل الجهبذ أو الخازن بما يؤديه إليه وهو يمثل وصل السداد عن الضرائب المفروضة كالخراج والصدقة والجزية. 

  وفي وقتنا الحاضر زمن الحاسب والانترنيت  فقد تطورت أساليب توثيق المعاملات والحقوق المالية وتعددت نوعية المستندات المستخدمة في ذلك ، ألا إن القواعد العامة لها وهي الكتابة التحريرية والإشهاد عليها واخذ الضمان المناسب لها هي ثابتة على مرور الأزمنة واختلاف الأمكنة،وهذه القواعد هي نفسها التي اقرها التشريع الإسلامي قبل وقتنا الحاضر بأكثر من ألف وأربعمائة سنة.

3) المجموعة الدفترية: 

  تعتبر المجموعة الدفترية من الدعائم الأساسية التي يرتكز عليها النظام المحاسبي ،فهي أداة للتسجيل والتحليل والعرض المستمر وفي نفس الوقت هي وسيلة لإعداد القوائم المالية والتقارير المختلفة التي تخدم أهداف متعددة(الحسون،1991 :54) .

وتنقسم المجموعة الدفترية إلى مجموعتين هما :

أ-  سجلات محاسبية ، وهي السجلات التي تسجل فيها القيود المحاسبية الأصلية التي تعد استنادا إلى نظرية القيد المزدوج ،وتتكون السجلات المحاسبية الحكومية من :

-         دفاتر اليومية لتسجيل العمليات تاريخيا.

-         دفاتر الأستاذ لتبويب العمليات وتحتوي على حسابات إجمالية وفرعية.

-    دفاتر ا لضبط والرقابة الداخلية على الصرف وعدم تجاوز اعتمادات الموازنة باستخدام موازين المراجعة اليومية.

ب-  سجلات إحصائية أو بيانية ،وتسجل فيها جميع البيانات الإضافية التي تعتبر لازمة لتكوين قاعدة بيانات ، حيث تساعد هذه السجلات على اتخاذ القرارات الإدارية المختلفة ،كما أنها توفر معلومات إضافية تفيد مستخدميها ، مثل دفتر قيد الحجوزات والتنازلات والتوكيلات ،ودفتر حصر المبالغ المتأخر تحصيلها من ديوان ورسوم ومستحقات ، ودفتر قيد العقود التي تبرمها الدائرة مع المقاولين ..الخ.

   وقد عرفت الدفاتر المحاسبية في النظام المحاسبي الإسلامي منذ الصدر الأول للإسلام ،حيث إن نظام الدواوين التي تعني السجلات أو الدفاتر كانت ضمن عناصر التنظيم الإداري والمالي للدولة الإسلامية، وقد تقدم ذكر ما تعنيه كلمة ديوان فهي وكما عرفها الماوردي عبارة عن "موضع لحفظ ما يتعلق بحقوق السلطنة من الأعمال والأموال ومن يقوم بها من الجيوش والعمال" ، وقد كان هناك اهتماما بالأسعار العالمية للورق والبردي التي كانت الحاجة إليهما كبيرة ومستمرة لكونهما مواد أساسية في ضبط أعمال الديوان حيث تستعمل على شكل سجلات و أوراق العرائض والمؤامرات وختمات لتسجيل مبالغ الاستخراج وتفريقه وكتابة البراءات سواء أكان ذلك في ديوان الخراج المركزي أم في الدواوين الفرعية في الأقاليم أم من قبل الجباة خلال موسم الجباية(السامرائي، 1990: 824).

  وقد عرف دفتر القيد الأولي في الدولة الإسلامية باسم "جريدة" في حوالي عام 132 هـ(حوالي 749 م) أي قبل ظهور كتاب باسيليو- في عام 1494م  - بأكثر من سبعة قرون، مما يعني إن باسيليو قد اعتمد على المصطلح العربي المستعمل "الجريدة" و أطلقه على دفتر اليومية المسمى journal بالإنجليزية أو zornal بالإيطالية والتي هي ترجمة حرفية للكلمة العربية "الجريدة" (يحيى، 2004 :134).

ومن أهم الدفاتر المحاسبية التي كانت تستعمل في الدولة الإسلامية من حيث طبيعتها والوظائف المرتبطة بها كآلاتي(يحيى، 2004 :134)،(الزهراني،1986: 459-464):

1.  الجريدة ،وهو دفتر يستخدم لقيد الإيرادات والمصاريف ، وكان هناك جريدة خاصة بالإيرادات وأخرى بالنفقات ،وبهذا فالجريدة تتولى المحاسبة على كافة الأموال الواردة إلى بيت المال والمنصرفة منه.

2.  تعليق اليومية ،أي دفتر اليومية وهو يستعمل لقيد كافة المعاملات اليومية الأخرى غير الإيرادات والمصروفات.

3.     المخزومية وهو يشبه الملفات حاليا (البوكس فايل) ويختص بنوع من الحسابات مثل النقدية أو الغلال.

4.     الاورج، وهو يشبه دفتر أستاذ المدينين حاليا ،فهو يستعمل لتثبيت الحقوق المالية للغير.

5.     الرزنامج(كتاب اليوم) وهو يختص بتسجيل مبالغ الخراج على الأراضي الزراعية .

6.     دفتر النفقات وهو يختص بتسجيل نفقات الخليفة الذي يمثل نفقات الدولة.

7.     دفتر الأموال المصادرة ، وهو دفتر يختص بإدارة الأموال المصادرة من الوزراء وكبار رجالات الدولة آنذاك.

8.  الجريدة السوداء(الجيشية) ،وهو دفتر يختص بتسجيل كل ما يتعلق بالجيش من رواتب و أرزاق ومكافئات ..الخ.

9.     الفهرست،وهو سجل تثبت فيه أسماء الدفاتر ونوعية الأعمال التي تم القيام بها.

4) دليل الحسابات:

يمثل الدليل لغة النظام التي يتداولها مشغلوه ومستعملو مخرجاته (الحسون،1991: 59)، فهو طريقة للتبويب المحاسبي  تتضمن عملية اختيار أسماء الحسابات وتجميعها في مجموعات رئيسية وفرعية متجانسة ومتشابهة ثم وضعها في قالب دليل حسابات وتعطى رموزا أو أرقاما مميزة(رضوان،1977 :21)مع إمكانية استعمال الوسائل الآلية والإلكترونية وذلك لتسهيل عملية استخدام الدليل. إن الغرض الرئيس من إنشاء الدليل واستخدامه يتمثل في تسهيل عمل النظام المحاسبي عموما وإظهار عناصره الرئيسية بسرعة ووضوح ،إضافة إلى إعطاء تفاصيل حول جزئيات وفروع النظام .

ويتضمن الدليل على عدة عناصر أساسية أهمها(الحسون ،1991 : 60):

                                  أ‌-          تبويب وترتيب الحسابات المختلفة وتجميعها في مجموعات نوعية متجانسة.

                               ب‌-       ترميز هذه الحسابات بطريقة معينة .

                               ت‌-       تحديد مدلول أسماء الحسابات والمصطلحات المستخدمة في النظام.

  ويمكن أن نلاحظ إن دليل الحسابات يمثل أحد المقومات المهمة للنظام المحاسبي الحكومي الإسلامي، حيث تشير المصادر إلى انه كان مطبقا بصيغة أو بأخرى في زمن الدولة الإسلامية ،حيث تم استخدام مجوعة من المفاهيم والمصطلحات والأسماء في النظام المحاسبي الإسلامي من قبل العاملين في بيت المال ضمن الوظائف المحاسبية والمالية المختلفة، فكان العمل المحاسبي يسير وفق أسلوب علمي متقن وباستخدام قواعد ومعايير مقننة وملزمة للكتابة والتوثيق في السجلات المحاسبية ،وقد مر بنا ،إن بعض من هذه الأحكام والقواعد قد ذكرها القران الكريم في عدة آيات شريفة وبالأخص في الآية( 282 )من سورة البقرة المباركة ، حيث ذكرت الشروط التي يجب توافرها في الكتابة والكاتب حيث يقول جل شانه :"و لا يأب كاتب أن يكتب كما علمه الله".

ومن المصطلحات والأسماء التي تعارف عليها المحاسبون في الدولة الإسلامية الآتي:-

•   السلف والمقاصة،أما السلف فهو ما يعطى من الأموال لمستحقيها قبل استحقاقها لهم ،و أما المقاصة فهو ما يتم استرجاعه (خصمه) من الأموال المستحقة للأشخاص الذين بذمتهم سلفا(يحيى،2004: 136).

•        الحاصل والجمع الواصل و حواصل معدومة ،فأما الحاصل فهو الرصيد المتبقي آخر المدة السابقة ،وأما الجمع الواصل فهو صافي إجمالي الأموال التي وصلت إلى بيت المال (أي بعد طرح قيمة التلف أو المسموحات) ، وأما حواصل معدومة فهي تعني الأموال المسروقة من الديوان التي لا تثبت إلا بعد إصدار مرسوم بها)( يحيى،2004: 136) .

•   الطبول وطبول السلطان ،وهي تعني الدفعات أو الأقساط التي يتم بواسطتها تسديد الإنسان لما بذمته من ضريبة الخراج(السامرائي،1990: 803).

•   النجوم والأنجم ومنجمة ،وهي تعني نهايات الفترات الزمنية من السنة الخراجية الواحدة المحصورة بين دفعة مالية من أصل الضريبة والدفعة التي تليها(السامرائي،1990: 803).

•   الرائج من المال والمنكسر من المال والمتعذر والمتحير والمتعقد من المال ،فأما الأول فيعني الديون القابلة للتحصيل ،و أما الثاني فهو الديون المعدومة التي يستحيل تحصيلها ،و أما الأخير فهو الديون المشكوك في تحصيلها(يحيى،2004: 136).

5) الموارد البشرية للنظام 

     يعتبر توفير كادر من الموظفين على درجة من الكفاءة والأمانة والخبرة العصب الأساسي في بناء النظام المحاسبي ،إذ تتوقف عليهم مجمل حركة النظام(الحسون ،1991: 66)فمن خلال مؤهلات الموظفين الشخصية والعلمية يتمكن النظام من أداء واجباته بالشكل المطلوب .

   وقد شدد النظام الإسلامي على ضرورة اختيار الموظفين الأكفاء والأمناء والمؤهلين علميا وعمليا لتولي الوظائف المختلفة وخصوصا موظفي بيت المال ويمكن الاستدلال على ذلك من خلال قوله تعالى :" إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل"( النساء، 58) فالآية المباركة تشير إلى أن الكفاءة صفة لابد من مراعاتها في الموظف وفي كل من يتحمل مسؤولية ،وتمثل قواعد اختيار الموظفين في النظام الإداري الإسلامي  التي يجب على الرؤساء الإداريين الالتزام بها عند اختيارهم لمرءوسيهم إحدى المظاهر الأساسية للرقابة في النظام الرقابي والمحاسبي الإسلامي –سنتكلم عن ذلك لاحقا بشيء من التفصيل- ،وقد اعتبر اختيار الموظفين والعمال منذ نشأة الدولة الإسلامية من باب أداء الأمانات ،بحيث يجب على ولي الأمر إن يولي على كل عمل أصلح من يجده فان عدل عن الأصلح إلى غيره مع عدم وجود ما يبرر ذلك يكون قد خان الله ورسوله والمؤمنين (عبد الوهاب، 1984: 295)،قال الله تعالى:" يا أيها الذين آمنوا لا تخونوا الله والرسول وتخونوا أماناتكم وانتم تعلمون" (الأنفال، 27)وقال النبي(ص):" من ولي من أمر المسلمين شيئا فولى أتحد عليهم محاباة فعليه اللعنة إلى يوم الدين"( المستدرك،ج4: 93)ويمكن أن نلاحظ ذلك أيضا  من وصية الإمام علي (ع) إلى مالك الأشتر حيث يقول(ع) فيها:"ثم انظر في أمور عمالك ،فاستعملهم اختبارا ولا تولهم محاباة وأثرة فإنهما جماع من شعب الجور والخيانة ،وتوخ منهم أهل التجربة والحياء من أهل البيوتات الصالحة ،والقدم في الإسلام المتقدمة ،فإنهم أكرم أخلاقا واصح إعراضا واقل في المطامع إشرافا وابلغ في عواقب الأمور نظرا (نهج البلاغة،ج3: 95 ).

  إن طبقة العمال التي يعنيها الإمام في كتابه هذه هم عمال السواد والصدقات والأوقاف والمصالح وغيرها حسب توزيع الوظائف وتشكيلات الحكومة الإسلامية في ذلك العصر ،فبعد أن لفت نظر مالك الأشتر (رض) إلى كيفية انتخابهم ،أرشده إلى الطبقات التي ينتقي أشخاصهم من صفوتها ويرشحهم للمناصب اللائقة بهم بعد اختبارهم وان لا يوليهم محاباة لهم ولمن يشفع فيهم ولا أثرة ولا إنعاما عليهم ،واختبار الموظف لابد منه قبل تعيينه- كما أشار الإمام(ع)- والاختبار مطلق يشمل جميع ما له علاقة بأهلية المرشح لتولي وظيفة منن الوظائف، فيشمل كفاءتهم المهنية وعلاقاتهم الاجتماعية وحالاتهم الحزبية وعلاقاتهم في هذا الشأن ومدى إمكانية تأثيرها على الوظيفة التي يراد إسنادها إليهم ( شمس الدين، 1421 هـ:  358) ، ثم اشترط أن يختارهم من المجربين لان التجربة هي الأصل الأكبر لكفاءة الموظف في إتقان العمل و أداء الواجب الذي يعهد إليه وهي دليل علمه بالأعمال والولايات التي يتولاها ومقياس اطلاعه ومعرفته بقواعدها وشؤونها، وإضافة لذلك، فان الموظف المختار لابد إن يتصف بالحياء لان الحياء أساس المروءة ،كما قال رسول الله(ص):" لا يأتي الحياء إلا بخير",وقال أيضا:"من لم يكن له حياء فلا دين له ومن لم يكن له حياء في الدنيا لم يدخل الجنة"(الفكيكي،2003: 135-136).ومن الصفات الأخرى الواجب توفرها في موظف الدولة في نظر الإمام علي(ع) أن يكون من أهل البيوتات الصالحة والقدم السابقة في الإسلام لان ذلك يفيد في المحافظة على الأعراض والأموال والغض عن التطلع إلى المطامع الدنيئة(الفكيكي،2003 :136).

   ويلاحظ إن التشريعات والقوانين الحديثة المتعلقة باختيار الموظفين للوظائف المختلفة وخاصة الحساسة منها لأجل إصلاح نفسية الموظف وضمان سير العمل بإتقان وكفاءة وفاعلية ، قد اقرها الإسلام و أشار إليها الإمام (ع) وشدد على ضرورة تطبيقها في عهده لإصلاح النظام المحاسبي الحكومي خصوصا و الدولة الإسلامية عموما وذلك قبل تلك القوانين الحديثة و العصرية بعدة قرون.

     وقد ذكرنا سابقا ،أهم مسميات الوظائف للأفراد العاملين في بيت المال ضمن الاختصاصات والوظائف المحاسبية والمالية المختلفة ،كصاحب بيت المال،والكاتب،والناظر،والشاهد،والمستوفي،والعامل،،والصيرفي،والخارص،وغيرها.

6) الموارد المادية للنظام: 

وتتمثل بالمستلزمات المادية اللازمة لقيام النظام المحاسبي بإجراءاته المختلفة في سبيل تحقيق هدفه المتمثل بقياس الأموال من إيرادات ومصاريف والرقابة عليها . ويمثل بيت المال في الدولة الإسلامية أهم المكونات المادية للنظام المحاسبي الحكومي الإسلامي ،حيث يتم في هذا المكان ممارسة العمل المحاسبي ،بدءا من صورته البسيطة  في صدر الإسلام وحتى تكامله بصورة تدريجية في العهود المختلفة للدولة الإسلامية (يحيى، 2004: 129).  و أعمال ديوان بيت المال ،تشبه أعمال وزارة المالية والخزينة العامة للدولة في عصرنا الحاضر في الإشراف على الموازنة العامة وعناصرها الرئيسية المتمثلة  بجباية وتنظيم أنواع الإيرادات ومن ثم إنفاقها في مواردها المخصصة. فبيت المال هو المكان الذي تنظم فيه العلاقات المالية بين الدولة ورعاياها وضمن فروعه وأقسامه المختلفة ،مثل ديوان  الزكاة والصدقات ،وديوان الخراج والجزية، وديوان الغنائم والركاز ونحوها.

7) الرقابة الداخلية:

 تعتبر الرقابة الداخلية أحد العناصر الرئيسة للنظام المحاسبي ،وهي عبارة عن مجموعة التنظيمات والقرارات الإدارية والتعليمات المالية ووسائل الرقابة التي يتضمنها النظام المحاسبي وهي تستخدم لضمان السيطرة على المعاملات المالية والمحاسبية .

  وتعتمد الرقابة في تنفيذ مهامها تلك على مجموعة من القواعد والمعايير المتفق عليها والملزمة قانونا للأطراف المسئولة عن الحسابات وتكون  مسطرة على شكل هيكل معين (فريح،1990: 115).

  ويعتمد نظام الرقابة السليم على القواعد والمعايير الأساسية الآتية(الحسون، 1991: 72):

•        تحديد خطوط السلطة والمسؤولية والصلاحيات الممنوحة للمسئولين على اختلاف مستوياتهم .

•        الفصل المناسب بين الوظائف المتعارضة

•        توزيع العمليات المرتبطة بعضها ببعض على عدة أشخاص لتجنب حالات التلاعب والاختلاس.

•        العمل في إطار الصلاحيات الممنوحة لكل شخص 

•        استخدام مجموعة مستندية ودفترية متكاملة ولكل العمليات المالية والمحاسبية.

•        وضع دليل متقن للحسابات يبسط ويسهل إجراءات العمل المحاسبي 

•        المطابقات الدورية للحسابات واستخراج الأرصدة وموازين المراجعة

•        كشف الانحرافات وحصرها بصورة تلقائية وتصحيحها 

•        استخدام كادر وظيفي مؤهل كفوء وأمين  

  وفي النظام الرقابي الإسلامي فان هنالك الكثير من الروايات والنصوص التي تؤكد اهتمام الشارع المقدس بهذا المجال  وحرصه على وجود نظام رقابي فعال وعادل في نفس الوقت ،كما تدلنا تلك الروايات على أنواع وأساليب الرقابة التي استعملها النبي(ص) والخلفاء[8] من بعده ،من حيث(الجوهر،1999: 10):

              أ‌-    وضع قواعد خاصة لعملية جباية الأموال وكيفية التصرف بها ومحاسبة المسئولين في ضوء هده القواعد.

                               ب‌-       إنشاء أجهزة متخصصة تتولى عملية الرقابة.

             ت‌-   التأكيد على السمات الشخصية للأشخاص المسئولين في أعمال الرقابة ووضع نظام لمحاسبتهم بعد أن يتم عزلهم.

   لقد وضع الرسول (ص) القواعد التي تقوم عليها الرقابة ،فعدد إيرادات الدولة ووضع مقادير الزكاة والجزية وكيفية تحصيلها ،كما بين طرق الأنفاق العام و أحكامه (الجوهر،1999: 10)،هذا من جانب ومن جانب آخر فقد كان(ص) يتابع عمل عماله على الصدقات ويحاسبهم ويعزل من يراه غير أهلاً لذلك، وسار الخلفاء من بعده على نهجه القويم، فنرى إن الإمام علي(ع) قد أولى عناية فائقة لجهاز جباية الأموال في عهده لا من اجل أن يجمع أكبر نصيب من المال ،و إنما من اجل إن ينخرط ذلك الجهاز في مسيرة العدالة الإسلامية المثلى التي جسدها الإمام(ع) في حياة الناس ،فقد كان الإمام حريصا على أن يلتزم موظفو ذلك الجهاز بأقصى درجات العدل والفضيلة والنبل والشعور بالمسؤولية ،فليست مهمتهم في نظر الإمام (ع) إن يجمعوا المال من اجل المال ، و إنما ينبغي عليهم إن يلتزموا الحق في تعاملهم مع الناس ،وان يعكسوا عدالة الإسلام لمن يلتقون بهم من الناس ،فلا ينبغي أن يغضبوا أحداً من الناس ،ولا يسيئوا معاملة أحد ولا يضربوا إنساناً من اجل درهم مثلا ولا يجوز أن يعتدوا على مال امرئ من المسلمين أو من غيرهم ممن يتمتع بحق التابعية للدولة الإسلامية(مؤسسة البلاغ، 2000: 539)، ويلاحظ أن الإمام علي(ع) قد اعتمد على مبدأ الاختصاص وتوزيع الأعمال في الإدارة الحكومية لضمان سير أعمال الدولة على مستوى عال في الدقة والإتقان واليسر وحسن التدبير،ويكون ذلك من خلال ثلاثة قواعد هي(شمس الدين، 1421: 360):

•   دفع رواتب ومخصصات كافية للموظف لتجنبيه اللجوء إلى الخيانة بالرشوة ونحوها، حيث يقول (ع):" ثم أسبغ عليهم الأرزاق فان ذلك قوة لهم على استصلاح أنفسهم وغنى لهم عن تناول ما تحت أيديهم وحجة عليهم إن خالفوا أمرك أو ثلموا أمانتك ".

•   وضع نظام وإنشاء جهاز للتفتيش الإداري يراقب أعمال الموظفين ،ومدى تطابقها مع الأحكام الشرعية ، ومدى تقيدهم بالتعليمات والتوجيهات المعطاة لهم ، حيث يقول(ع):" ثم تفقد أعمالهم، وابعث العيون من أهل الصدق والأمانة عليهم".

•   إنزال العقوبات المناسبة بالموظف الذي يسيء استعمال سلطته، وأهم هذه العقوبات : العقوبة البدنية ، ومصادرة الأموال المختلسة والتغريم ، والعقوبة المعنوية بالتشهير، حيث يقول(ع):" وتحفظ من الأعوان ، فإن أحد منهم بسط يده إلى خيانة اجتمعت بها عليه عندك أخبار عيونك اكتفيت بذلك شاهدا فبسطت عليه العقوبة في بدنه ،وأخذته بما أصاب من عمله، ثم نصبته بمقام المذلة ،ووسمته بالخيانة ،وقلدته عار التهمة".

  إن ذلك يعني إن نظام الرقابة الداخلية الإسلامي  يعتمد على مجموعة من المقومات التي تشمل كلا من الخطة التنظيمية الجيدة ،والنظام المحاسبي المحكم، ومجموعة الأفراد المؤهلة (يحيى، 2004: 138)،ويلاحظ إن تلك المقومات هي من الأركان الأساسية لنظم الرقابة الداخلية الحديثة و العصرية(الجوهر، 1999: 29).

8) التقارير والقوائم المالية

  يتضمن نظام المحاسبة الحكومية إعداد مجموعة من التقارير والقوائم المالية الدورية، التي لابد أن توفر معلومات حول مدى مطابقة الأحداث الاقتصادية و العمليات المحاسبية المسجلة للقوانين والتعليمات الصادرة بهذا الشأن،وخاصة قانون الموازنة العامة للدولة،وكذلك توفير معلومات عن الأداء المالي وغير المالي للوحدة الحكومية ،ومن ثم فان هذه التقارير تسعى إلى تحقيق الأهداف الآتية (لجنة المعايير المحاسبية،الانتوساي،23:1998):

•        تفسير نطاق نشاطات الوحدة الحكومية.

•        تفسير طبيعة نشاطات الوحدة الحكومية.

•        الإبلاغ عن نتائج نشاطات الوحدة الحكومية .

  ويلاحظ إن المحاسبة السائدة في زمن الدولة الإسلامية ،هي المحاسبة الحكومية ،وذلك بسبب عدم وجود المشاريع الاستثمارية الضخمة ومن ثم عدم وجود الشركات المساهمة الكبيرة كما في عصرنا الحالي. لذلك اهتمت المحاسبة في زمن الدولة الإسلامية-المحاسبة الحكومية- بكيفية الحصول على الأموال العامة ،وتحديد أوجه التصرف بها لعامة الشعب (يحيى،2004: 136)، وذلك يبين مرة أخرى-وكما سبق إن أوضحنا- إن جذور المحاسبة الحكومية تمتد إلى الصدر الأول من ظهور الدولة الإسلامية ومنذ عهد النبي الأكرم(ص) ،حيث كان (ص) يقوم ببعض أعمالها و يباشرها بنفسه كتحديد نوعية الواردات المالية ومقدارها وكيفية جبايتها ومن ثم توزيعها وصرفها على مستحقيها،ومع اتساع الدولة الإسلامية وكثرة وتعدد الأموال الواردة إليها كان يتم إعداد ميزانية عن الأنواع الرئيسة للموارد المالية فقد كانت هناك موازنة للزكاة ،وأخرى للخراج ،وثالثة للفيء وهكذا(الأبجي،1990 : 1135) .

أما أهم التقارير والقوائم المالية التي كان يتم إعدادها آنذاك فهي(يحيى،2004: 137)،(الزهراني،1986: 459-464):

•   الختمة، وهي عبارة عن تقرير مالي شهري يتم إعداده نهاية كل شهر ويحتوي على الإيرادات والمصروفات مبوبة وفق أنواعها مع الرصيد المتبقي في نهاية كل شهر،ويشبه هذا التقرير قائمة مصادر واستخدامات الأموال في وقتنا الحاضر.

•        الختمة الجامعة ،وهي تقرير يعده المحاسب ويقدمه إلى المسئول الأعلى منه .

•   التوالي، وهو تقرير يعد عن كمية الغلات،أي المحاصيل الزراعية في كل موسم ،يبين فيه الوارد والصادر والرصيد حسب أنواعها عن كل فترة زراعية.

•   عمل المبيع، وهو تقرير المبيعات ،يبين فيه كميتها وسعرها وقيمتها والرصيد بالكمية والقيمة في نهاية كل فترة محددة.

•   عمل المبتاع،وهو تقرير المشتريات ،يبين فيه كميتها وسعرها وقيمتها والمصاريف الخاصة بها في نهاية كل فترة محددة.

•   الارتفاع، وهي عبارة عن الموازنة العامة (المركز المالي المتوقع) لسنة هجرية قمرية مقبلة،يبين فيها الموجودات والمطلوبات والفرق بين الإيرادات والمصروفات معدة على أساس تقديري تخميني ،ثم يظهر في القسم الثاني منها النتائج الفعلية بعد انتهاء السنة وتفسير الفروق في الحسابات الختامية.

 

 

________________________________________

[1] مسحوبة من الإنترنت.

 

[2] مسحوبة من الإنترنت.

[3] مسحوبة من الإنترنت.

 

[4] مقابلة شخصية أجراها الباحث مع سماحة  آية الله الشيخ محمد اسحق الفياض(دام ظله) 12/شعبان/1426هـ.

 

[6] عند المدرسة الامامية الحقة يرون قول وفعل وتقرير المعصوم(ع)اهو المصدر الثاني للمسلمين،فقول الامام (المعصوم)وفعله وتقريره هو قول النبي(ص)،فهو اشمل واوسع من قول الجمهور،وهو الاصح والادق،بحسب الروايات المأثورة والادلة العقلية. 

[7] مقابلة شخصية أجراها الباحث مع سماحة الشيخ آية الله محمد اسحق الفياض(دام ظله) 12/شعبان/1426هـ.

[8] مع تحفظنا على هذه المصطلحات والمسميات(الباحث).


قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat


د . رزاق مخور الغراوي
 (للدخول لصفحة الكاتب إضغط هنا)

    طباعة   ||   أخبر صديقك عن الموضوع   ||   إضافة تعليق   ||   التاريخ : 2015/02/18



كتابة تعليق لموضوع : النظام المحاسبي الحكومي الإسلامي
الإسم * :
بريدك الالكتروني :
نص التعليق * :
 



حمل تطبيق (كتابات في الميزان) من Google Play



اعلان هام من قبل موقع كتابات في الميزان

البحث :





الكتّاب :

الملفات :

مقالات مهمة :



 إنسانية الإمام السيستاني

 بعد إحراجهم بكشف عصيانها وخيانتهم للشعب: المرجعية الدينية العليا تـُحرج الحكومة بمخالفة كلام المعصومين.. والعاصفة تقترب!!!

 كلام موجه الى العقلاء من ابناء شعبي ( 1 )

 حقيقة الادعياء .. متمرجعون وسفراء

 قراءة في خطبة المرجعية : هل اقترب أَجلُ الحكومةِ الحالية؟!

 خطر البترية على بعض اتباع المرجعية قراءة في تاثيرات الادعياء على اتباع العلماء

 إلى دعاة المرجعية العربية العراقية ..مع كل الاحترام

 مهزلة بيان الصرخي حول سوريا

 قراءة في خطبة الجمعة ( 4 / رمضان/ 1437هـ الموافق 10/6/2016 )

 المؤسسة الدينية بين الواقع والافتراء : سلسلة مقالات للشيخ محمد مهدي الاصفي ردا على حسن الكشميري وكتابيه (جولة في دهاليز مظلمة) و(محنة الهروب من الواقع)

 الى الحميداوي ( لانتوقع منكم غير الفتنة )

 السيستاني .. رسالة مهدوية عاجلة

 من عطاء المرجعية العليا

 قراءة في فتوى الدفاع المقدس وتحصين فكر الأمة

 فتوى السيد السيستاني بالجهاد الكفائي وصداها في الصحافة العالمية

 ما هو رأي أستاذ فقهاء النجف وقم المشرّفتَين السيد الخوئي بمن غصب الخلافة ؟

 مواقف شديدة الحساسية/٢ "بانوراما" الحشد..

أحدث مقالات الكتّاب :


مقالات متنوعة :





 لنشر مقالاتكم يمكنكم مراسلتنا على info@kitabat.info

تم تأسيس الموقع بتاريخ 1/4/2010 © محمد البغدادي 

 لا تتحمل الإدارة مسؤولية ما ينشر في الموقع من الناحيتين القانونية والأخلاقية.

  Designed , Hosted & Programmed By : King 4 Host . Net