عندما تحين وقت الذكريات المؤلمة التي مرت في حياتنا، يعود الحزن مِن جديد يطرق أبواب قلوبنا ومشاعرنا وذكرياتنا، وعندما تعجز الكلمات عن وصف شعورنا تتوه الحروف في قاموس ذكرياتنا، فيعتصر الحنين والشوق إلى أعزاء فقدناهم ورحلوا، فنتذكر كل السويعات التي قضيناها مع مَن نحب، حينها لاتجد إلا الآهات تخرج مِن الحناجر والحسرات تدمى القلوب والدموع تتساقط كقطرات المطر المتناثر.
في ذكرى رحيلك يا أخي الحبيب شيرزاد أهديك هذه القصيدة المتواضعة لعل روحك يكون حاضراً بيننا يا قرة عين أبي .( توفي أخي شيرزاد صالح اليوسفي في 16 – 4 – 1993)
زوزان صالح اليوسفي
شيرزادُ يا قرة عَين أبي
شيرزادُ يا قرة عَين أبي
يا نوراً رَحلَ وغاب عن نظري
يا نبعَ العطاءِ يا بحر الحبِ والحنانِ
بالطيبِ والجودِ كان يُشيرُ إليكَ بالبنان
كنت مأوى لجميع الأحبابِ والخلانِ
قلبكَ الكبير أتسع على مَدى الأبصارِ
وَا حسرتي كلما مَررتُ بزاخو والدارِ
تهيجُ بي الذكرياتٌ وفي قلبي لوعَة الأشتياقِ
كان وجهك الصَبوح كضياءِ أكتمالِ البدر
وبسمتكُ العذبة تنثرُ باقاتُ الأزهارِ
شيرزادُ يا قرة عَين أبي
زرعتُ في رياض الذكرى أحزاني
وريحُ الشوق مُنذ عشرون عَاماً يُنادي
أنطفأت أنوارٌ كانت تنيرُ أركان الدارِ
أنت ولاوين وشفان الصغيرُ وقبلهُم أبي الغالي
آهاتٌ مِن الحسراتِ تصفق لآهاتٍ
وصدى النبأ الحزينُ هزَّ كياني
جاءَ على غفلةٍ مُغمداً نصلهُ في فؤادي
مَزقَ شرَايين قلبي بصرخةٍ قطعَت أوصالي
فأدركتُ حينها أن القلب يَعرفُ فنون الصراخ
وأنهُ يبكي بدموع مِن دمٍ قاني
أحرُ مِن جمرِ سَعيرِ النار
شيرزادُ يا قرة عَينَ أبي
أمامَ دارنا ألمحُ طيفُ خيالكَ آتٍ
ترمُقنا بعينيكَ تحرسُنا بجناحيكَ يا ملاكي
فأعودُ مِن جديدٍ أبكي على أطلالِ الماضي
أنادي بأسمِكَ آلاف المراتِ
كلما طافُ خيالكَ بأحلامِ
يا نبعاً مِن عينيِّ يذرفُ الدمعَ مِدرار
أشكو غيابكَ ولهيبُ الشوق يكويني
والصمتُ يَدوي صداه كُل حين
بكيتُ حتى جَفت مَدامِع العين
شيرزادُ يا قرة عَين أبي
نُم قريرَ العَين في لحدِكَ آمناً
داعية مِن الباري أن يَجعلها جنة مِن الجنانِ
ليسَ لديّ سوى الصبرَ وتراتيل الدُعاءِ
أحملُ أحزأني أصرَخُ في وجوهِ المُتجبرينَ
لا أدري هل أبحثُ عَن ثأركَ أم ثأرَ أبي ؟
ضعتُ ما بين الشكِ واليقين
والسؤالُ يُحيرُني والجوابُ يُضنيني
هل رحلت قدراً؟ أم غدراً؟
وأنا بينَ الأثنين يهزني الرياحُ في كفينِ
كيفَ رَحلَ الغالي كلمحِ البصر
وبالأمسِ كانَ في داري
نداعبُ أحلامنا وذكرياتُ الماضي
نتسامرُ ونضحكُ وحَولهُ يَلعبُ أطفالي
وَطفلتي الصغيرة لم تبرح حضنهُ الدافي
كيفَ وبالأمسِ سَمعتُ شجونهُُُ
وحدثني عَن حلمٍ رَواد منامهُ
أقلق نومهُ وسَباتهُ
قلتُ لهُ يا أخي ياقرة عَين أبي
باللهِ عليكَ لا تُبالي
إنها أضغاثُ أحلامٍ مَاضي
وبعد يومينِ تحقق نبوءة الحلمِ
ورَحلَ الغالي في ربيع نيسان
رحلَ ومعهُ ألفَ حسرةٍ وآهٍ
ماعادَ بعدَ رَحيلهُ يُرفرفُ الفرحُ في الدارِ
ولا البَسمة ترسمُ على الشفاهِ
ياليت أبي كانَ اليوم حَاضرا
ليلقي عليكَ قصيدة في الرثاء
فأنا والله مَهمَا رَثيتكَ مِن الكلماتِ
لن أصِلَ الخنساء قيداً
في رثاءِ أخاها صخرٍ
شيرزادُ يا قرة عَين أبي
سلامٌ عليكَ في ذكراك
يا رُوح الطهرِ والنقاءِ
أودعتكُ أنت ولاوين بجنان الخُلد مَرتعكُم
في رياض الفردوس
مع خيرة شباب الشهداء الحسن والحسين
قصة ( نبوءة حلم ) مُهدات إلى روح أخي الغالي شيرزاد في ذكرى رحيلهِ.
زوزان صالح اليوسفي
نبوءة حلم
يأتي شيرزاد بالترتيب الثاني بين إخوته المتكونين مِن ستة إخوة ولدين وأربعة بنات وهو الأخ الكبير بينهم.
كان شيرزاد منذ طفولتهِ كثير النشاط والحيويةِ يُمارس السباحة وصيد الأسماك مع أصدقائهِ في بلدتهِ المطلة على نهر الخابور في مدينة زاخو في كوردستان العراق، وفي المدرسة كانوا مُدرسيهِ فخورينَ بهِ لتفوقهِ، خاصة في مادة الرياضيات، وقد تنبأ الجميع بأنهُ سوف يصبح مهندساً بارعاً في المستقبل.
وفعلاً تحقق نبوءتهم، فبعد أن تخرج شيرزاد مِن كلية الهندسة وعمل في العديد مِن الشركات، فكان شاباً نشيطاً ومخلصاً في عملهِ، وكان في قمة النزاهة في مُمارسة مهنتهِ، وكلما شعرَ بتقصيرٍ ما مِن قِبل الموظفين خلال عملهم، يُبادر بإرشادهم إلى الطريق الصحيح ويحذرهم على تجاوز الحدود التي هي ضد القيم والمبادئ والضمير، ويحثهُم على المواظبة في العمل بكل إخلاص وأمان.
وعندما كان يشعرُ بأنهُ لم يكن هناك آذن صاغية لتقبل تلك النصائح والإرشادات، يترك العمل وينتقل إلى مكان آخر لعلهُ يجد يوماً ضالتهِ في العثور على ناس يخدمون عملهم بشرف وأمان وإخلاص.
أما حياة شيرزاد الأسرية فبحكم عمل والدهِ السياسي، الذي كان كثير السفر والغياب عن المِنزل، شعرَ شيرزاد منذ طفولته بواجب المسؤولية إتجاه أسرتهِ خلال غياب والدهِ، لذا كان شديد الحرص على إخوتهِ، فكان يُمارس سلطة هذه المسؤولية بكل جدارة، وكان يُشعرهم بالحب والحنان إضافة إلى الحزم والقوة حينما يتطلب الأمر في بعض المواقف، لإدراكه بأن والده ليس لديه الوقت الكافي لمُمارسة عملهِ كرب أسرة بسبب غيابهِ المتواصل، وكانوا أخواتهِ يقدرون هذه الواجب والمسؤولية التي وقعت على عاتقهِ، فأزداد حرص شيرزاد على أسرتهِ أكثر بعد وفاة والدهِ.
مرت الأيام والسنين أستطاع شيرزاد أن يتجاوز الكثير مِن المصاعب والمسؤوليات ولم يُفكر يوماً بحياتهِ وأستقرارهِ أو زواجهِ، فمرت الأيام وتزوج أخاهُ الأصغر وتزوجوا أخواتهِ ورزقنَ بالأطفال، وأصبح حلم والدتهِ وأخواتهِ أن يتزوج هو أيضا.
هكذا سارت حياة شيرزاد، وأستمر مخلصاً متفانياً في عملهِ، ومِثالاً ليس فقط في النزاهة والإخلاص، بل كان سخياً وكريماً وعلى أهبة الأستعداد لكل مِن يطلب مِنه العون والمساعدة.
وفي إحدى الأيام نهض شيرزاد مِن سريرهِ، مُستغربا مِن الحلمٍ غريبٍ راودهُ ليلاً فشعرَ بالقلق؟ ورفضَ أن يرويها لأحدٍ.
ومرتَ عدة أيام على تلك الرؤية وعلامات القلق كانت تبدو عليهِ؟! وبدا كئيباً وصامتاً وفقدَ الشهية!، وحاولت أسرتهِ أن تعرف السبب؟!، ولكنهُ لم يخبرهم، واثقاً إنهم لن يفهموا شيئاً مِن تلك الرؤيا ولن يصدقوا ما قد يفسرهُ الحلمُ بالنسبة لهُ، حيث كان شيرزاد على دراية وخبرة في تفسير الأحلام مِن خلال قراءتهِ للعديد مِن كتب تفسير الأحلام، وتيقن أن الحلم يحملُ إليهِ رسالة غيبية!.
وبعد أيام قررَ أن يُخفف عن نفسهِ عبئ تلك الرؤيا، ويبوح بها ليرتاح مِن هذا الكابوس والقلق الجاثم على صدرهِ منذ رؤيته لذلك الحلم، فتوجه إلى منزلِ أختهِ التي تبعد عن مدينته، فهو يرتاح إلى صُحبتها، وطالما كانا يتحدثان ويتناقشان مع بعضِهما عن الأحلام وتفسيراتها.
وعندما وَصل أستقبلتهُ أختهُ وأطفالها بفرح وشوق، لكنهُ ظل صامتاً وشارداً على غير عادتهِ كزياراتهِ السابقة، فأقلقت عليهِ أختهُ وترجتهُ أن يقضي الليلة عندهم بعد أن لاحظت إن أخاها على هذا الحال.
قضى شيرزاد تلك الليلة عند أختهِ فكانت تراقبهُ بقلق، فلاحظت إن أخاها لم ينم الليل بطولهِ، كان ينهض بين كل فترة وأخرى ليصلي ويدعوا طوال الليل ويقف أمام النافذة يتضرع إلى السماء!؟، فزدادَ قلقها وظنت إن مكروهً أو مشكلة ما قد حدث لأخيها ليبدو على هذا الحال!؟ فتركتهُ على أمل أن تفاتحهُ في اليوم التالي.
وفي الصباح نهضت أختهُ شاردة الذهن، وقررت أن تفاتحهُ عن سبب حالهِ وشروده!؟، وبعد الإفطار نظرت إليهِ بحنان وقالت: لماذا أراكَ يا أخي كئيباً وصامتاً على غير عادتك، وفاقد الشهية، والحزن يبدو على وجهك، بالله عليك هل هناك سبباً أو مشكلة لا سامح الله!؟
نظرَ شيرزاد إلى أختهِ نظرة تشوبها الحزن والقلق، وبعد تردد أجابَ قائلا: لقد رأيت حلماً قبل أيام، وأنا متشائمٌ منهُ، أظنها رسالة مُوجهة لي!
ذهلت أختهُ مِن قولهِ وأجابت على الفور قائلة: خيراً إن شاء الله يا أخي، لا تنسى أن بعض الأحلام تثبت العكس تماماً.
فردَ شيرزاد بعد صمت قائلا: لقد رأيتُ عمتنا الله يَرحمها، وقد ناولتني رطباً فأستلمتها مِنها وأكلتها، والذي أعرفهُ مِن خلالِ تفسير الأحلام، إن أعطى شخصاً ميتاً لشخصٍ حي شيئاً مِن الطعام فأكله سوف يلحقُ بهِ قريباً؟
أرتعبت أختهُ وكأنها أدركت أيضاً أن هناك شيئاً قاصداً في هذا الحلم!، وبعد تردد أجابت بحنان قائلة: بعد الشر عليكِ يا شيرزاد، أرجوك يا أخي أن لا تقلق مِن هذا الحلم، ثم أظنُ أن التمر فاكهة مُباركة وحلوة المذاق فإن شاء الله سوف يحدثُ حادثاً سعيداً أو تسمع خبراً مفرحاً قريباً بإذن الله.
لم يقتنع شيرزاد بكلام أختهِ ولكنهُ أحسَ ببعض الراحة وكأنَّ حملاً ثقيلاً قد أنزاحَ على صدره بعد أن روى لأختهِ برؤيتهِ التي أقلقتهُ طوال هذه المدة.
وبعدها قرر العودةَ إلى منزلهِ، فودعتهُ أخته داعية لهُ بالتوفيق، لكنها ظلت قلقة وخائفة على أخيها العزيز مِن تلك الرؤية الغريبة!؟.
عاد شيرزاد إلى بيتهِ في حالةٍ أفضل مِن الأيام الماضية، وبدا أكثر هدوءاً وراحة، ونام الليل بكاملهِ ولم يستفيق إلا على صوت أمهِ لتخبرهُ إن أصدقائهُ قد حضروا لزيارتهِ، فنهضَ مِن سريرهِ بكل نشاط ودخل على أصدقائهِ مُرحباً بهم، فأخبروهُ بأنهم خارجون الآن برحلةِ صيد الطيور والأرانب في البراري وقد أحضروا معهم بنادق الصيد، ويرغبون كثيراً أن يُرافقهم هو أيضاً بهذه الرحلة، لقضاءِ وقتٍ مُمتع معاً، لم يتردد شيرزاد، بل بالعكس كأنهُ كان ينتظر هذه الفرصة، فأخبرهم بأنه على الأستعدادِ لرفقتِهم ولهذه المُغامرة.
كان الوقت خلال شهر نيسان، ودعَ شيرزاد والدتهِ، فتمنت لهُ رِحلة موفقة، وأرتاحت لأن أبنها خرجَ لِيستمتع قليلاً، بعد أن لازمتهُ الكآبة والصمت خلال الأيام الماضية.
خرج مع أصدقائهِ في سيارتهم وتوجهوا إلى حيث الطبيعة القريبة مِن بلدتهم زاخو، وكان شيرزاد طوال الرحلة سعيداً ومُتحمساً، كان المكان يبدو رائعاً بخضرتهِ وأنواع الزهور المُفترشة في كل مكان، وأشكال الطيور المُهاجرة، وبدت أمام عيني شيرزاد كأنها الفردوس بعينهِ.
مرَ الوقت سريعاً ولم يفلحوا بالصيد، ولكنهم قضوا وقتاً مُمتعاً مُستمتعين برحلتهم ومُغامرتهم، ثم أستقلوا سيارتهم وبادروا بالعودة قبل أن يُخيم الظلام، ساخرين مِن أنفسهم على هذه العودة الخائبة دون حصولهم على أي صيد، وبينما كانوا غارقين بأحاديثهم ومغامرتهم، كان شيرزاد في هذه اللحظة جالساً في المقدمة ماسكاً بإحدى يديهِ منتصف البندقية، والسيارة تسير في طريقٍ ترابي عبر الأحراش، وفجأة أرتجت السيارة نتيجة مرورها على حفرة في الطريق وخلال ثانية واحدة أختل توازن شيرزاد لتضغط أناملهِ على زناد البندقية فأنطلقت رصاصة مِن فوهة البندقية لتدخل مِن تحت ذقنهِ وتستقر في رأسهِ(1)، وخلال أقل مِن ثانية فارق شيرزاد الحياة؟!
وصدقت نبوءة حلمهِ!! ومَن يدري في عالم الغيب فرُبما كان ضيفاً على عمتهِ في ذلك اليوم وأكل مِن رطب الجنة.
(1) حسب أقوال أصدقائهِ بعد التحقيق معهم.