كان الباص الذي اتجه بنا نحو الأراضي الأردنية حديثا ومقاعده مريحة وحين انطلق بنا وكأنه أحدى طائرات البوينغ وفي مقدمته أمام السائق رقد تلفزيون ملون متوسظ الحجم وسائق الباص يرتدي بدله سياقه أنيقة زرقاء خاصة به وكانت مسرحية عادل أمام (شاهد ماشافش حاجه ) هي التي رافقتنا معظم الوقت سفرتنا تلك وقد لفتت أنتباه البعض من الركاب الذين كانوا يتابعونها ويطلقون الضحكات بين الفينة والأخرى ولم يعر البعض الآخر أي اهتمام بها بعد أن راحوا يغطون في نوم عميق وكأن التعب قد أخذ منهم مأخذا ولم يناموا في تلك الليلة التي سبقت سفرتهم كما فعلت أنا
ولم يسمح النوم لهم بالاهتمام بما يدور حولهم ربما كان تعبا نفسيا أكثر من التعب الجسمي وكنت أتمنى أن أدخل ألى أعماقهم وأسمع قصة كل منهم هل أنهم سيتركون العراق نهائيا أم مؤقتا ؟ تساؤلات وتساؤلات كانت تراودني . كان الباص ينهب الأرض نهبا وبدت الأرض قاحلة منبسطة لازرع فيها ولا شجر ثم أخذ الظلام يرخي سدوله ولم نعد نرى شيئا لكننا كنا خائفين ولم يدخل الاطمئنان ألى نفوسنا مادمنا في الأراضي العراقيه . ولم ننتبه ألا على كلمة أطلقها سائق الباص بصوت جهوري أيقظ كل النيام من نومهم ( ياجماعه تفتيش الواعي يصحي النايم)وأشعلت أنوار الباص وما
أن توقف حتى فتح السائق بابه الرئيسي ثم دخل أحد الأشخاص الباص ونادى قائلا وبخشونة واضحة: (كل واحد منكم ينزل من الباص وينزل كل ماعنده من حاجيات وغراض وما أريد تبقى أي حاجه بالباص أبدا حتى لو كانت حاجه ازغيره وما أريد واحد يكول آني مريض لو معوق ماأكدر أنزل مثل ماصعد واحدكم ينزل هسه بدون تأخيرحتى لاتتعطلون .)وكانت جوازاتنا عند السائق من بداية السفره بعد أن قال لنا (ستستلمون جوازاتكم في نهاية السفره ولا يسألني أحد عن جوازه قبل انتهاء السفره أبدا هذا أمر رسمي.) وبدأنا بالنزول الواحد بعد الآخر ونحن نحمل أمتعتنا وكأننا
أسرى لدى عدو لايعرف الرحمة في قاموسه البشري. دخل شخصان مسلحان ألى الباص لتفتيش مقاعده وأركانه وزواياه وكأن المنطقة دخلت في حالة طوارئ أو كأنهم كانوا يفتشون عن شيئ خطير. وبعد وقوفنا أمام أ متعتنا لمدة ساعة كاملة في العراء حضر شخص وقادنا ألى قاعة خاصة بتفتيش الأمتعه . وشاهدت في المكان أشخاصا مسلحين تتدلى مسدساتهم من تحت جاكيتاتهم المدنيه وهم ينظرون ألينا نظرات خاطفة ثم يتلفتون يسارا ويمينا من حولهم . وبدأ التفتيش حيث وضع كل فرد في المكان المخصص لتفتيش الحاجيات ووقف أمامها وقد تم سلب معظم الحاجيات تحت احتجاج
واستنكار أصحاب الحاجيات ومنها السجائر والعطور والهدايا الأخرى التي كان يحملها المسافرون معهم وقد لاحظت ذلك بعيني ثم يفتش الشخص تفتيشا دقيقا من أخمص قدميه حتى شعر رأسه ثم تفتش أمتعته وكأنهم مجموعة من قطاع الطرق ولكن باسم الدوله. وقد تم ألقاء القبض على شخص قيل أنه يحمل معه بضع مئات من الدولارات وأرسل مخفورا ألى بغداد وكنت أحمل معي في تلك اللحظات عشرة (دنانير أردنية )وتحمل زوجتي (خاتمين ذهبيين صغيرين) و(عشرين ألفدينار عراقي) لم نخفها عن أحد لكن الدنانيرالأردنية والخاتمين الذهبيين وضعناها وسط كمية صغيرة من
التمر بعد تغليفها بكيس صغير من النايلون من بداية السفره خوفا على العملة الورقية أن تتلف وكانت تلك الحاجيات البسيطة كافية لإنهاء حياتنا وإلحاقنا بالشخص الذي أرسل مخفورا ألي بغداد بعد توجيه تهمة (تهريب العملة الصعبة) خارج الوطن لأنها ممنوعة منعا باتا مهما كان قيمتها كما حدث لغيرنا. أما رأس النظام الذي أهدر المليارات في حروبه ومغامراته وصادر الوطن برمته وحوله ألي ضيعة لعائلته ولعشيرته فهو فوق كل الشبهات والخيانة دائما توجه للمواطن المظلوم المسكين الذي لاحول له ولا قوه ذلك الذي سحقته أجهزة الدكتاتور القمعية بكل قسوة
ووحشية وطالبته بأن يكون مسبحا بحمد النظام الذي ملك الأرواح كلها داخل الوطن.
وصل الدور لي ولزوجتي وقد ذهبت زوجتي ألي غرفة ( التفتيش الذاتي ) التي تشرف عليه امرأة من جلاوزة النظام وخضعت أنا للتفتيش في المكان المخصص للرجال حيث تم تفتيش جيوبي وجواربي ورأى الذي فتشني مبلغ الخمسة عشر ألف دينار عراقي فقال : (أنته تحمل بس ها المبلغ لو تخفي عمله صعبه بمكان من جسمك؟ ) فأجبته (ماعندي أي عمله صعبه آني كدامك فتشني على كيفك). ثم مسك البطانية التي كانت معي وقال : (الشعب العراقي تحت الحصار وأنته رايح للأردن وتتغطى بالبطانيه أنت ماتدري هذا الشي ممنوع ؟!!!) فلم أجبه . وكنت أحمل عدة كتب ففتح حقيبة الكتب بكل همجية وأخذ الكتب
ثم بدأ يقلبها وكانت حوالي خمسة كتب هي :ديوان بدر شاكر السياب بجزأين- طبع دار العوده. وكتاب قصص الحيوان في الأدب العربي القديم تأليف الدكتور عبد الله سلوم السامرائي. وديوان أيليا أبو ماضي طبع دار العودة أيضا . وديوان خليل حاوي وكتاب جحا العربي –صادر من ساسلة –عالم المعرفة –في الكويت ومصحف كريم طبع وزارة الأعلام العراقيه. وكلها تباع في مكتبات العراق بصورة علنيه فمسك الكتب ووضعها فوق بعضها وهو يقول :(هاي شنو ) فأجبته (كتب ). فرد (شنو من كتب سياسيه غير شي؟) فقلت لا أدبيه. وراودتني نفسي أن أقول له هل أنت أمي لاتقرأ ؟لكني تراجعت
عن قولها حتى لاأغضبه ويحدث لي أمر سيئ. فأجاب (ماكو فرق كل كتاب ممنوع يطلع ألى خارج العراق بأمرمدير المخفر. ) فقلت له دلني على مدير المخفر ؟ فأجاب ( ذيج غرفته روح عليه ) ولاحظ كمية التمر الصغيره فمسكها بيده ثم أرجعها ألي دون أن ينطق بكلمه حولهاوكانت المصيبة كلها تقبع في كمية التمر الصغيرة تلك والتي أنقذتنا بمصروف تصرفنا به لعدة أيام في الأردن فذهبت ألي مدير المخفر راجيا منه أن يطلق سراح الكتب ولا يصادرها لأنها كتب أدبيه ولا تشكل خطورة على أحد وقد أشتريتها من مكتبات رسمية تابعة لوزارة الأعلام وأني أرغب بقراءتها خلال سفرتي؟
فأجابني بكل برود وهو يبتسم أبتسامة صفراء : ( أذا أنته معتز بهاي الكتب هوايه تكدر ترجع لبغداد وتأمنها عند شخص معين لما ترجع بعدين تاخذها. ) فقلت له (اشلون أرجع والجواز مكتوبة عليه ملاحظه لسفرة واحدة فقط ؟)فأجاب والله هاي مشكلتك أنته بعدك داخل الحدود العراقيه ومعجب بكتبك مدكلي أشأسويلك وبأي طريقه أتفاهم وياك؟!!!)على كل بالمختصر المفيد أي كتاب ممنوع يخرج من الحدود بأمر القياده هذا آخر جواب مني.تكدر تاخذ بس القرآن الكريم ماأريد اتضيع وقتي آني مشغول ماأكدر أحك راسي. ) ورضخت للأمر الواقع وصودرت الكتب والبطانيه ولم يدر بخلدي أن
هؤلاء الوحوش يخافون حتى من الكتاب الذي لايشكل أية خطورة على النظام بعد أن حجز المواطن العراقي داخل قفص من حديد. وبعد أن انتهى التفتيش تم إدخالنا على أحد الأشخاص في غرفة أخرى مجاوره وهو يصيح بأسماءنا الواحد بعد الآخرونادى باسمي فدخلت عليه وسلمت .وكان جالسا على طاولة وأمامه مجموعة من الجوازات وهو يقلب جوازي وبادرني هل أنت فلان الفلاني وذكر أسمي الثلاثي.فأجبته نعم. ثم سألني (أشتشتغل أنته؟) فأجبته (معلم متقاعد) ثم عقب قائلا: (أنته معلم متقاعد ودافع ثمن 3 جوزات متكلي منين جبت هاالمبلغ ؟) ولا أدري كيف عرف بأن أبني وزوجتي معي ولم يحن
دورهم بعد؟ فتوقفت قليلا لهذا الأستفزاز ثم قلت : ( قبضنه آني وزوجتي كل واحد ست رواتب تقاعديه وعدنه مبلغ جمعناه وطلعنه الجوازات ؟ فأجاب و(ليش هاألشي كله وشنو الغايه من هالسفره معلم متقاعد يترك وطنه وروح يصرف فلوسه بره عجيب غريب.) ولم أجب وأخيرا فرجت بجملة : (هاك يابه أخذ جوازك الله وياك وترجع بالسلامه . ) فتنفست الصعداء مرة أخرى بعد أكثر من ثلاث ساعاتمن التفتيش والانتظار والهواجس وكأننا كنا في ساحة حرب وكأنها كانت ثلاثة أشهر وانتظرت زوجتي وأبني عند الباص وقد أخذ من التعب والإجهاد النفسي والجسمي منا مأخذا وأخذ السائق الجوازات مرة
أخرى قائلا راح توصلون لعمان بعد كم ساعه وتستلمون جوازاتكم للمرة الأخيره .) ثم قبعنا في الباص مرة أخرى بانتظار عمان الفرج متى تلوح لنا وكأننا في رحلة عمرها عام كامل.
أخذ البعض يتهامسون فيما بينهم لما حدث لهم داخل النقطة الحدودية العراقية وكيف سلبت حاجياتهم دون أي مبرر واحتجت أحدى النساء الأردنيات بصوت مسموع وطالبها السائق بالسكوت . وساد صمت عميق وبعد فترة قصيرة جدا لمحت جداريه للملك الأردني الراحل الحسين بن طلال وعرفنا أننا دخلنا الأراضي الأردنية وتم تدقيق جوازاتنا بأقل من نصف ساعه حيث كانت معاملة الجنود الأردنيين جيدة جدا ولم يطلب أحد أن نترجل من الباص ولم يفتش أحد حقائبنا.أنطلق الباص بعد ذلك باتجاه عمان وبعد أكثر من ساعتين قيل لنا أنكم على مشارف مدينة عمان ثم خضعنا لتفتيش سريع آخر
أسهل من الأول ودخلنا عمان ولم نصدق أنفسنا أيضا ولكنها كانت الحقيقه. واستلمنا جوازاتنا وكلمات التوديع من قبل سائق الباص ومساعده . أنها الساعة الثانية عشرة والنصف بعد منتصف الليل واليوم هو اليوم الأول من شهر مايس عام 1995م ونحن الثلاثة وجدنا أنفسنا في قلب مدينة عمان التي غمرتها الأضواء وكأننا في عز النهار أوقفت أحد سواق التاكسي وطلبت منه أن يأخذنا ألى فندق متواضع ففعل بعد أن دفعت له دينارا من العشرة دنانير التي أحملها وما أن دخلنا نحن الثلاثة أحدى الغرف حتى سقطنا كالأموات على الأسرة الثلاثة التي حشرت في الغرفة حشراولم تترك
فيها أية مساحة ولم نستيقظ ألا بعد طلوع الشمس بساعات . خرجت من الفندق لأجلب بعض الطعام ألقيت نظرة سريعة على بعض شوارع عمان فرأيتها مدينة نظيفة تحيط بها الأشجار من كل مكان وكل شيئ يوحي بالتنسيق والترتيب والنظام. وقد تنهدت وخنقتني العبرة على ماجرى في وطني الذي هو أغنى من هذا البلد بعشرات المرات وكيف ضيعه ودمره ذلك الدكتاتور الأهوج الذي تسلط على رقاب الناس بالغدر والقمع والظلم والجبروت وقلت في نفسي متى تكون مدننا جميلة نظيفة محاطة بالأشجار مثل عمان؟وهل كتب علينا أن نعيش في مدن مملوءة بالقمامة والقاذورات ومياه المجاري
الثقيلة ألى الأبد؟ وهاهي اليوم بعد كل ذلك التأريخ الذي مضى عليه خمسة عشر عاما تتراجع نحو الأسوأ بعد أن كثر في وطني اللصوص والقتلة وأصحاب النزوات الخاصة بتقاسم كعكعة العراق بين أحزابهم المتصارعة على الأمتيازات الخاصة على حساب الفرد العراقي المعدم المضطهد البائس الذي لايحصل اليوم حتى على الحصة التموينية ألا بشق الأنفس ولا يأمن حتى على حياته الطافحة بالمتاعب التي لاتنتهي. والشكوى ألى الله فقط. كان الجو في عمان الجميلة ربيعيا لطيفاومنعشا وأسواقها عامرة بمختلف البضائع فالفواكه والخضار في أبهى أشكالها والخبز بأنواعه
المختلفة لكن الذي لايعمل لايستطيع العيش حيث الغلاء كان يترك بصماته في كل مكان من العاصمه.وفي اليوم الثاني أتصلت بأبني الذي تخرج مهندسا وهرب من العراق لعدم حصوله على عمل وكاد أن يموت من الجوع في وطنه وكان يعمل في معمل أهلي للسجاد في مدينة حلب السورية يملكه أحد التجار السوريين وقد حصل على العمل بمساعدة أحد أهل الخير. طلبت منه أن يمهد لنا الدخول ألي سوريا لأنها المنفذ الوحيد لنا في تلك الظروف المأساوية التي كان يعيشها العراقيون وقد كتبت قصيدة عن الغربة بعد فترة من الزمن أسميتها (حرائق الرحيل ) ومازلت محتفظا بها أقول فيها
:.
حرائق الرحيل
ماأوجع الساعات أذكرها
وهي تحفر أضلعي
وتعبئ الروح الجريحة بالذبول
ظمأت مجاهل غربتي
وأرقها الجوى
ولم يأت الدليل
عشقي تجذر في شعاب الأرض
في تلك الروابي كالنخيل
وبدونها نبض الحياة سراج أو وتد
يجثو على الأضلاع سيلا من زبد
وتركت في ذاك الزقاق عوالمي وحشاشتي
وأنا أرى في كل ركن من رباك
مهج تذوب على اللظى
ومآتم بين القبور
يعج في دمها الكمد
والأمهات الثاكلات
وقوافل الشهداء
والأطفال والبؤساء
وجذوع نخل محترق
وطني المفدى ياعراق
الشوق في دمي احتراق
لم يرتو الطاغوت من دمك المراق
ولطالما ناجيت رملك ياوطن
ولطالما غازلت فيك الرافدين
ولطالما أشعلت قلبي بالحكايات الجميلة والشموع
ولطالما أحرقت في تلك السنين الماضيات دم الضلوع
ولطالما حولت فاجعة الحنين ألى حروف من لهب
ياسيدي الغالي الجليل
أنا متعبٌ
في جانحي مجامرٌ تهفو ألى كل الديار
والشوارع والشواطئ والقفار
والحدائق والمنائروالمساجد والقباب
و لسيد الأحرار صاحب ذي الفقار
وألى الحسين وكربلاء
هي كوثر الروح التي أرختها بقصائدي
وبمهجتي وجوارحي
الله يانخل العراق
الله ياشمس العراق
الله ياطين العراق
الله يارمل العراق
ياسيدي الغالي الجليل
أنت ابتداء الكون فاتحة الرجاء
من أجل طلعتك المهيبة سيدي
(وأنا لنلقى الحادثات بأنفس
كثير الرزايا عندهن قليل)
وطن الفجائع والمقابر والجراح
وطن الأرامل واليتامى والنواح
النخل يبكي والرمال حزينة
من ألف عام تستباح دماؤنا
ونحن نمضغ حزننا
والغول يرقص فوق أشلاء الضحايا
ليصوغ نصرا من ورق
ويقول هاأنذا العراق.
ياسيدي الغالي الجليل
(ألحي ) تصهل في دمي
أني أتوق لناسها وزهورها
لترابها ولسوقها وحقولها
ولفجرها ولطيبها وغروبها
ولشمسها وهواءها ودروبها
وسمائها ونجومها وفصولها
ولطلعها وغبارها ولعشبها
ولظهرها وأصيلها
(غرافها ) الغافي على جنباتها
الروح مقفرة هنا
النفي يحفر في الخلايا
غربة صماء مقفلة الوجود
ياسيدي لم يبق ماء في الجرار
هذا حطام العمرصار لك انتظار
أواه ماأقسى الفراق
متى الرجوع ألى العراق ؟
متى الرجوع ألى العراق؟
جعفر المهاجر/السويد7/1/2011م
قناتنا على التلغرام :
https://t.me/kitabat
قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat