في كتابها الموسوم "Most Learned of the Shi’a, by Linda Walbridge"، الذي طُبِعَ في جامعة أكسفورد عام ٢٠٠١، تذكر الاستاذة وولبريدج، في صفحة ٢٣٧: يُعرف السيستاني بأنه رجل منهمك تمامًا في دراساته الدينية وتجنب أي مشاركة في السياسة العراقية. تم تصويره على أنه شخص لا يقرأ حتى صُحُف الاخبار.
ذهب فالح عبد الجبار إلى ابعد من ذلك في كتابه "The Shi'ite Movement in Iraq"، ٢٠٠٣، وهو يتناول الحركة الشيعية في العراق. لم يذكر السيستاني إلا في ثلاثة موارد، في صفحة ٢٤، ٢٦، ٢٧٣، لقلة معرفته بالسيستاني، وما يمثله من قيادة روحية وحضور إجتماعي عند الشعب العراقي.
لم يكن يتصور السياسيون أن آية الله العظمى السيد السيستاني، دام ظله الوارف، سيكون له دورٌ حاسمٌ في مستقبل العراق السياسي، وهو يرى الاحتلال يعبث بمقدرات البلد، مع ضعفٍ شديدٍ لقادته اللذين جاء بهم پول بريمر.
وصل بريمر بغداد في ١٢ أيار ٢٠٠٣ ليكون رئيس سلطة الائتلاف الأمريكية الموقتة حاملاً في حقيبته الخطة الأمريكية في ادارة البلد المحتل، العراق.
شكّل بريمر مجلساً من سبعة قادة؛ جلال طلباني، مسعود البرزاني، إبراهيم الجعفري، عبدالعزيز الحكيم، نصير الچادرچي، أياد علاوي، و أحمد الچلبي. بسبب خلافاته الدائمة مع الچلبي وطالباني، تم توسيع مجلس الحكم إلى ٢٥ عضواً في ١٢ تموز ٢٠٠٣.
بعد أن أعطائهم الفتات من السيادة، حاول بريمر تمرير مخططاته الخبيثة بالاستعانة بمجلس الحكم، بدأها باتفاقية ١٥ نوفمير ٢٠٠٣ بين سلطة الائتلاف المؤقتة ومجلس الحكم، حيث تتكون الاتفاقية من عدة فقرات منها: نقل السيادة لحكومة عراقية مؤقتة بحلول ٣٠ حزيران ٢٠٠٤، كتابة دستور دائم، رسم خطة لاستعادة سيادة العراق، مع الاتفاق بشأن وضع قوات التحالف، "الاحتلال"، في العراق. (راجع كتاب "كتابة الدستور في ظل الاحتلال، Constitution Making Under Occupation، أندرو أراتو، صفحة ١١٠، جامعة كولومبيا، ٢٠٠٨)
لكتابة دستور مؤقت، حاول بريمر تشكيل جمعية وطنية انتقالية كالاتي: إنشاء لجان تنظيمية بالمحافظات، ليتم بعدها اختيار فرد من كل مئة إلى مئتين من وجهاء المحافظة لتشكيل مجموعة تقوم بانتخاب ممثلي المحافظات في جمعية وطنية انتقالية، بما يتناسب مع حصة المحافظة من السكان الوطنيين. (راجع كتاب “Order out of Chaos”, صفحة ١٢٧، ديفيد باتيل، جامعة كورنيل الأمريكية)
بعد سماع تفاصيلها؛ عارض السيستاني الخطة، مشيراً إلى أنه لا بديل عن مجلس "منتخب" مباشرة لكتابة الدستور. أصدر السيستاني فتوى في حزيران من عام ٢٠٠٣ يرفض فيها شرعية أي هيئة دستورية غير منتخبة. كرر هذا الموقف في بيان أصدره في أواخر تشرين الأول. (راجع كتاب "احتلال العراق: كسب الحرب وخسارة السلام"، The Occupation of Iraq: Winning the War, Losing the Peace، صفحة ٢١٥، علي علاوي، ٢٠٠٧)
بتاريخ ٢٨ تشرين الثاني ٢٠٠٣، وجّهت صحيفة واشنطن بوست سؤالاً للسيستاني عن اتفاقية ١٥ نوفمبر نصها: ما هي وجهة نظر السيد السيستاني بالنسبة الى الخطة الجديدة لانتقال السلطة في العراق؟ هل يرتضيها؟
الجواب، ان لسماحة السيد - مد ظله - بعض التحفظات على الخطة المذكورة:
اولا: انها تبتني على اعداد قانون الدولة العراقية للفترة الانتقالية من قبل مجلس الحكم بالاتفاق مع "سلطة الاحتلال"، وهـذا لا يضفي عليه صفة الشرعية، بل لابد لهذا الغرض من عرضه على ممثلي الشعب العراقي لاقراره.
ثانيا: ان الآلية الواردة فيها لانتخاب اعضاء المجلس التشريعي الانتقالي لا تضمن تشكّل مجلس يمثل الشعب العراقي تمثيلا حقيقيا، فلابد من استبدالها بآلية اخرى تضمن ذلك وهي الانتخابات، ليكون المجلس منبثقا عن ارادة العراقيين ويمثلهم بصورة عادلة، ويكون بمنأى عن اي طعن في شرعيته، ولعل بالامكان اجراء الانتخابات اعتماداً على البطاقة التموينية مع بعض الضمائم الاخرى.
غاب الوعي السياسي عند قادة البلد عن خطورة ما تريد سلطة الائتلاف المؤقتة الإقدام عليه، بل كان البعض متواطئاً معها. لم يبقَ عند السيستاني غير اللجوء للشعب العراقي في رفض خطة بريمر. بدأ وكلائه ومعتمديه تثقيف الشعب، حتى أينعت الثمار، فنزل الشعب العراقي إلى الشارع في مظاهرات حاشدة في ٢٨ تشرين الثاني ٢٠٠٣ إحتجاجاً على خطة بريمر.
لم ييأس بريمر؛ بدأ تسويق خطته من البصرة في ٢٦ كانون الاول ٢٠٠٣، لكنه لم يجد أُذُناً صاغية. فعاد إلى بغداد بخُفّي حُنين.
التحدي الأكبر الذي واجه السيستاني هو مجلس الحكم، فقد حاول المضي قُدُماً في تبني خطة بريمر لإنشاء لجان تنظيمية في المحافظات، وارسلوا إلى السيستاني وفوداً عديدة، منهم موفق الربيعي، عبدالعزيز الحكيم، أحمد الچلبي، لتهدئة مخاوف السيستاني بخطة بريمر.
أبى السيستاني إلا القضاء عليها. توجهه إلى الشعب العراقي ليُعطي رأيه بما يُحاك للعراق ومستقبله، فما هي إلا أيام حتى خرجت مظاهرات مليونية في يوم الجمعة المصادف ١٦ كانون الثاني ٢٠٠٤ تأييداً للسيستاني وتنديداً بمجلس الحكم و سلطة الائتلاف المؤقتة، لتكون أول معركة سلمية ديمقراطية يؤسس لها السيستاني، و يخوضها ضد الاحتلال ومجلس الحكم.
كتب لاري دايموند، وهو مسؤول في سلطة الائتلاف المؤقتة في ذلك الوقت: "لقد فهمنا أن السيستاني يستطيع الوصول إلى الشعب العراقي بسرعة أكبر وفاعلية أقوى من سلطة الائتلاف المؤقتة، إن قدرتنا على التواصل مع الشعب العراقي أقل بكثير من قدرة السيستاني". لديه رسالته بسيطة: "نريد انتخابات". يسترسل في كتابه: على أثر ذلك، التقى بريمر بمسؤولين من سلطة الائتلاف المؤقتة في غرفة مجلس الوزراء القديمة لصدام في القصر الرئاسي ببغداد. وفقاً لأحد المشاركين، ناقش المنسقون الإقليميون والمحليون فيما بينهم ومع أعضاء مجلس الحكم حول "ما هي أجندة السيستاني حقاً". (راجع كتاب "النصر المهدور: الاحتلال الأمريكي والجهد الفاشل لإحلال الديمقراطية في العراق"، Squandered Victory: The American Occupation and the Bungled Effort to Bring Democracy to Iraq، للبروفيسور لاري دايموند، صفحة ٨٤، جامعة ستانفورد)
انتصرت الثورة التي أسس دعائمها السيستاني، و حطّم أحلام الحاكم المدني، وكشف تواطئ بعض القيادات السياسية مع المحتل بإصرارهم على تبني خطة بريمر في إنشاء لجانٍ تنظيميةٍ بالمحافظات، ليتم تشكيل مجموعة تقوم بانتخاب ممثلي المحافظات في الجمعية الوطنية الانتقالية، و تكون لها اليد الطولى في كتابة الدستور المؤقت، لترسم مستقبل العراق.
أنتهت مهمة پول بريمر، و أخذ خطته التي وضعها في حقيبته راجعاً بها إلى أمريكا.
نردُّ على معين الجابري، الصديق المدلل لبريمر، وهو يرثي سيده الحاكم المدني بعد انتهاء مهمته:
ما تركتَ العراقَ إلا وبه ….. الدمُ والتهجيرُ والظُلَمُ
ناهيك عن خرابٍ حلّ به ….. في مؤسساته و دوره وصفاءه
قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat