هم عبادٌ مربوبون مخلوقون
صلاح عبد المهدي الحلو
المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.
صلاح عبد المهدي الحلو

أصواتُها بُحَّتْ فهُنَّ نوادِبٌ *** يندُبنَ قتلاهنَّ بالإيماءِ
الشيخ صالح الكوَّاز.
يقول:
إنَّ ماء الدموع الذي في العيون لم يُطفئ نار الحزن التي في القلوب، فما يزال في النفوس بقية حزن لا تفي بها هتافُ الحناجر، وفي المآق ثمالة دمعٍ لا يقوم لها عويلُ النَّوادب..
فظلمة البُحَّة أطفأت نور أصواتهنَّ، فهنَّ يُرِدنَ النّواح، ولكن لا يستطعنه، فأخذنَ يندبنَ قتلاهُنَّ بالإشارة بعد عجز العبارة، وبالإيماءِ بعد ضوضاءِ البُكاء.
بربّك قُلْ لي: ما حالُ التي تبكي شهداء الطفّ بالإيماء تريد أن تروي عطش الحزن الذي أجدَب روحها، بعد أن اختفى صوتها لكثرة البكاءِ، وطويل النّحيب؟
ليتَ شعراءنا الشعبيين – وفَّقهم الله – من كُتَّاب القصيدة الحسينيَّة تخيَّروا لنُطف قوافيهم هذا اللون من الصور، وتلك الفخامة من المعاني، وهذي الجزالة من الألفاظ وأعادوا صياغة هذا الخليط كرَّةً أخرى، فيجدّدوا دوارسها، ويبعثوا ميتها.
فإنَّ في شعر السيد حيدر الحلي، والشيخ صالح الكواز وأضرابهما من الفحول ما لا يذوي غصنُ براعتِهِ في ربيع الفكر، ولا يجفُّ بحر حذاقته في صيف القوافيّ، ناهيك عن أن محور شعريهما وأضرابهما يدور على قطب رحى الطفوف لا يحيد عنه يمنةً ولا يسرة.
وها قد قرأتُ ما تيسَّر لي من شعر السيد الحميري، ودعبل، والكميت، والعبدي الذي أمر الإمام الصادق – عليه السَّلام – بتعليمه الصبيان فإنَّه يدعو للإيمان وغيرهم مما يعطي اطمئناناً للقلب، وإذعاناً في النَّفس أنَّ باقي شعرهم كذلك، وهكذا سائر الشعراء في محضر أيمَّتهم، – عليهم السَّلام – فما رأيتُ إلَّا حسرةً على ظلامتهم وهضم حقوقهم – عليهم السَّلام – ورثاء شهيد كربلاء صلوات الله وسلامه عليه.
وليتَ الشاعر الكريم – سدَّده الله – قرأ قصص الأئمَّة – عليهم السَّلام – وكراماتهم، وأحاديثهم، فيصيغها أبياتاً من الشعر، وقوالب من القوافيّ يُلقي بها في أسماع الموالين ليزدادوا تعلّقاً بأهل بيت النبيّ – صلى الله عليه وآله – ومعرفةً بمنازلهم ومراتبهم التي جعلهم الله فيها.
ولا يغرنَّكم الزعم بأنَّ كراماتهم من الغلو، فذاك حديث خرافة، فليس من مؤمنٍ موحّدٍ يزعم أنَّ لهم مرتبة الإلهيَّة بل هم عبادٌ مربوبون مخلوقون مقهورون لله تعالى، وما خلع الله عليهم من كراماتٍ ومعاجز فذلك بمنّه وكرمه وفضله، وهم له مستحقون، والخروج من حدّ الغلوّ المزعوم، وأمد التقصير المذموم يكون بالاقتصار على ما ورد في الروايات من كراماتهم، وفهم كلمات المراجع الأعلام في بيان ذلك، وكفى الله المؤمنين القتال.
ولقد نظَم السيد الحميريُّ – رحم الله – كلَّ فضائل أمير المؤمنين – عليه السَّلام – شعراً، ما فاتته واحدة، حتى أنه على ما بالبال – سقى الله قبره غمامة الرَّحمة وسحائب الرضوان – كان يعرض جائزةً لمن أتى له بفضيلةٍ من فضائل أمير المؤمنين – عليه السَّلام – لم ينضدْها في سمط لآلئ كراماته، ولم يرصفْها في عقد جواهر معاجزه.
وفي الطفوف من المآسي والأحزان ما لا يحيط بهما قلمٌ ولا لسان، ففي كلِّ موقفٍ من مواقف أبي الأحرار عِبرة، وفي كلِّ غصَّة تجرَّعها من الأعداء عَبرة، وحريٌّ بالشاعر، وجديرٌ بالنَّاظم أن يتمثَّلهما في وجدانه، ويُترجمهما ببيانه ليستدرَّ بوجع كلماتها لبن الدّموع من أخلاف المآقي، ويستحلب ماء الشؤون من ضروع العيون.
وليس للشاعر أن يستهين بعمله، فإذا كان الطبيب يُحيي بعمله نفساً واحدةً، فإن الشاعر يُحيي بصورِهِ أمَّة كاملةً، ينفخ فيها شعلة العزم فتغدو ناراً من الهمَّة، ويبثُّ فيها جمرةً من الشجاعة فتصير مشروع شهادة؛ وذلك ما سوَّغ أن تُنشد الأراجيز الحماسيَّة في المعركة لنشر روح المقاومة بين المقاتلين.
ودونك أرجوزة أمير المؤمنين – عليه السلام – في الخندق، وهو يشرع في مبارزة عمرو بن ودّ العامريّ.
"ولقد أتاك مجيب صوتك غير عاجز"
وإليك شطراً من أبياته وهو ينازل مرحباً في خيبر
"أنا الذي سمَّتني أمي حيدرة"
ولك في أراجيز أبطال الطفّ آيةٌ وبرهان.
ومن العجيب قوله وهو يُشبّه الإمام الحسين – عليه السلام – بنبيينِ معصومينِ من أولي العزم في عينيَّته الرائعة الذائعة:
كأنَّ جسمَكَ موسى مذ هوى صعقاً**وإنَّ رأسَك روحُ اللَهِ مذْ رُفِعَا
ومن تشبيهاته العجيبة قوله
ما قدرُ دمعي في عظيمِ مصابِكُم ** إلَّا كشُكر اللهِ في الآلاءِ
فكما أن شكر الله تعالى على نعمائه لا ينفد ويحتاج إلى شكر، كذلك بحر الدموع على مصابهم لا ينفد ويحتاج إلى بحر.
قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat