اكتساب الطفل العربي للغة
د . سمر الفيصل
المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.
د . سمر الفيصل

يبدأ الطفل العربي، كغيره من أطفال الأمم الأخرى، يكتسب اللغة من ولادته، حتى إن اللغويين يعدّون فترة المناغاة دليلاً على الاستعداد لتلّقي اللغة. والذي تهمّني الإشارة إليه هو أن الطفل يملك كفاءة لغوية، أو قدرة فطرية على اكتساب اللغة المستعملة في محيطه. وهذه القدرة اللغوية الفطرية تُمكّنه من (تكوين الفرضيّات واستعمال قواعد خاصة به، يُعدّلها باستمرار إلى أن تُشْبه القواعد التي تحكم لغة الكبار) وكأنه (يعلم بشكل آلي أن اللغة محكومة بقواعد معيّنة عليه اكتشافها). وتُعْزى نظرية القدرة اللغوية الفطرية إلى العالم الأمريكي اليهودي نوام تشومسكي. وقد نُوقشت هذه النظرية كثيراً، فأثبت اللغويون صحّتها، وأضافوا إليها قولهم: إن الطفل لا يتخلّى عن فرضية قديمة، بمجرّد اكتشافه فرضيّة جديدة، بل يتمسّك بالقديمة فترة تطول أو تقصر. وهذا يدّل على أنه يملك عقلاً نشطاً ذا تركيب معقّد جداً، يسمح له باستنباط قواعد اللغة. وقد قوَّضت نظرية القدرة الفطرية، ما كان شائعاً حول العلاقة الوثيقة بين مستوى الذكاء واكتساب الطفل اللغة.
فالطفل، أي طفل، مفطور على تعلّم اللغة البشريّة، بل إن لديه قدرات لغوية بيولوجية وعقلية وعصبية تساعده على اكتساب لغة محيطه، سواء أكان مستوى ذكائه منخفضاً أم مرتفعاً. كما قوّضت نظرية القدرة الفطرية رأياً آخر شائعاً، هو أن تدريب الوالدين طفلهما على اكتساب اللغة كفيل بإتقانه لغة محيطه. والمراد من هذا التدريب تمكين الطفل من اللغة، لأنه لا يستطيع ذلك وحده. وهذا الرأي غير علمي، لأن الطفلَ يتمكّن من إتقان لغة محيطه، سواء أكان هناك مَنْ يُدرّبه على ذلك أم لم يكن. وليس للتدريب من أهميّة غير الإسراع في الإتقان ونوعيّته.
وما هو أكثر خطورة في الدراسات اللغوية الحديثة، يكمن في أن الطفل يكتسب اللغة في سنّ مبكّرة جداً لا تُجاوز الخامسة من عمره، ويبطئ في إتقانها بعد ذلك إلى أن تتلاشى قدرته على تعلّمها بين الثانية عشرة والرابعة عشرة من عمره. والقاعدة العامّة في ذلك هي أن التعلّم ينخفض كلما زاد عمر الطفل، ويرتفع في سنواته الأولى.
ففي هذه السنوات الأولى يتعلّم المبادئ المتعلّقة بتصنيف المفردات اللغوية في أُسَر. وكان الاعتقاد السائد أنه يتعلّم في هذه السنّ مفردات متفرّقة مبعثرة. وقد انطلق هذا الاعتقاد من ملاحظة الطفل وهو يستعمل الكلمات المفردة وحدها. والجديد في حقل اكتساب اللغة، أن استعمال الطفل هذه المفردات لا يعني أن تعلّمه يجري على هذا النحو من إتقان الألفاظ، بل يعني أنه يستعمل هذه الكلمات ضمن مفهوم المجموعات أو الأسر، (فكلمة كرسي مثلاً تشير بالنسبة إلى الطفل إلى أسرة الكراسي جميعاً بغضّ النظر عن أحجامها وألوانها والموادّ المصنوعة منها. كما أنه يكتسب أوّلاً الأسس التي بموجبها يمكنه تركيب الأصوات مع بعضها بعضاً بحيث تنتج عنها الكلمات). وقد أثبت لوي بلوم (أن الأطفال في هذه السنّ المبكّرة جداً، بين العام الأول والرابع، خلاّقون في اللغة التي يستعملونها بدليل استخدامهم تراكيب لم يسمعوها من قبل).
ولكن اللغويين الذين اكتشفوا القدرة الفطرية، وبحثوا في جوانبها، غربيّون؛ وليس لنا، نحن العرب، من فضل غير متابعتهم في هذا الاتجاه، لأنهم نصّوا صراحة على أن هذه القدرة عامّة شاملة الأطفال في الحضارات كلها. غير أن هذه المتابعة تفرض علينا مسؤوليّات الإفادة والحذر، وتنبِّهنا على الخطر الذي يحيق بطفلنا العربي.
أما الإفادة فسأشير إليها في أثناء حديثي عن أثر الإعلام في لغة الطفل، وأما الحذر فنابع من أن طفلنا العربي الذي لا يختلف في شيء عن أطفال العالم، يكتسب بقدرته الفطرية عاميّة محيطه، ولا يكتسب اللغة الفصيحة. وحين يدخل المدرسة الابتدائية في السادسة من عمره يتباطأ تعلُّمه العاميّة لإتقانه لها، كما يصعب تعلُّمه اللغة الفصيحة؛ وهذا يعني أنه دخل المدرسة في سنّ لا تعينه على تعلُّم الفصيحة، أو في سنّ لا تساعده على تعلّمها.
إضافة إلى أن المطلوب هو تعليمه اللغة الفصيحة بدلاً من العاميّة، وتدريبه على مفرداتها وتراكيبها ومهاراتها بتدرُّج يزيد البطء بطئاً، وهذا إشكال عضال، لا حلَّ مرتجى له غير تعميم مرحلة رياض الأطفال (بين 3-5 سنوات)، والتركيز فيها على تعلُّم اللغة الفصيحة.
قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat